حصد زمن الرئيس مبارك الثمرات المرّة للغرس الذي زرعه السادات. فاستمر تزايد الآثار السلبية للتطرف الديني الذي انقلب إلى إرهاب رافقت عملياته محاولة إقامة الدولة الدينية التي أصبح سبيلها الاغتيال لرموز الحكم ورموز الثقافة، والقضاء على الاقتصاد بتدمير السياحة، وخلق حال من الرعب التي تصيب أي عملية للاستثمار أو أي سياسة للتنمية. وكان ذلك مقترنا بالعدد المتزايد لجماعات الإرهاب وتشدد متعاظم في الخطاب الديني الذي أخذ يفقد رحابة الأفق ومبدأ التسامح، تدريجياً، موصولاً بنكوص اجتماعي ثقافي وتراجع لا يتوقف في كل مجال، نتيجة تحالفت السنوات الساداتية، وذلك في موازاة تصاعد تُهم التكفير التي وجدت ما يدعمها ويشجعها من عمليات إرهابية لم تتوقف منذ اغتيال السادات في تشرين أول أكتوبر سنة 1981 إلى نهاية التسعينات التي لم تعبر إلى الألف الثانية إلا بعد سنوات من جرائم الاغتيال التي جاوزت الأقطار والقارات - فيما سُمِىَ"عولمة الإرهاب"- إلى أن وصلت إلى نسف برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك بالولايات المتحدة في الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، ولم تكن تلك هي المرة الأولى، فقد سبقتها المحاولة الأولى التى اتهم فيها الشيخ عمر عبدالرحمن، بعد حدوثها سنة 1993. وفي هذا السياق التاريخي - قبل تصاعده الميلودرامي - وقع الحدث الأدبي الأكبر الذي نقل الأدب العربي من المحلية إلى العالمية، وأفرح المثقفين الذين رقصوا في الشوارع والميادين، بينما استجاب إليه بالسلب والشجب والعداء أنصار التطرف الديني الذين تكاثروا إلى درجة لا سابقة لها، أعني حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل سنة 1988. وذلك في مناخ شاعت فيه دعاوى التكفير على امتداد أكثر من قطر عربي، حتى في ما يخص نجيب محفوظ، الذي ورد الهجوم التكفيري عليه، ربما للمرة الأولى، فيما كتب الروائي الجزائري الطاهر وطّار. أعني روايته"الزلزال"المنشورة للمرة الأولى 1973 التي تصور متطرفاً دينياً جزائرياً هو الشيخ بو الأرواح الذي رأى حي سيدي مسيد، في قسنطينة، أشبه بحي الجرابيع في رواية"أولاد حارتنا"لنجيب محفوظ. ويصفه بقوله: وپ"هو كتاب ذلك الكافر الذي جبن المصريون عن قتله بسبب ما فيه من كفر وإلحاد وسخرية بالأنبياء والمرسلين والملائكة". وبدا أن مثل هذا التكفير الذي ردده لسان الشيخ بو الأرواح في الجزائر كان صدى لما أخذت تردده ألسنة المتطرفين"المكفراتية"في مصر، فبدا الأمر كما لو كانت جماعات الإسلام السياسي التي تحولت إلى جماعات إرهاب ديني تتسابق لإقامة دولة دينية في البلدين: مصر والجزائر. والنتيجة الجزائرية هي ما يذكره عز الدين الميهوبي في كتابه"التوابيت"من عشرات أسماء المغتالين من المبدعين والصحافيين والكتَّاب عموماً، وتطول القائمة بما يبعث على الحزن الذي تثيره دلالات رواية واسيني الأعرج"سيدة المقام"1995 التي صدرت بعد عام واحد من محاولة اغتيال نجيب محفوظ وفي سياقها. وكان واضحاً أن"الجماعة الإسلامية"المصرية هي الأبرز في عمليات الاغتيال والتدمير المتصاعد، وذلك منذ نجاحها في اغتيال أنور السادات في السادس من تشرين أول أكتوبر 1981. وهو الاغتيال الذي أدى إلى تحول حاسم في علاقة الجماعة - وحليفاتها من الجماعات الموازية أو المشاركة - بالدولة، وعلاقة الدولة بالجماعات. وكانت النتيجة العنف المتبادل في سياق اغتيال هذه الجماعات للرموز السياسية والأمنية والثقافية بعد القضاء على السادات، فتتابعت جرائم الاغتيال السياسي التي استمرت ما بين سنتي 1986-1992 ونالت من اللواء حسن أبو باشا وزير الداخلية، 1986 ونجحت في اغتيال رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب السابق 1990، وقامت بمحاولة اغتيال فاشلة للواء زكي بدر وزير الداخلية 1990، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع اللواء النبوي إسماعيل، وزير الداخلية 1991 واللواء عبدالحليم موسى، وزير الداخلية اللاحق 1992. ويبدو أنه كان لا بد من توقف محاولات اغتيال وزراء الداخلية بصفتهم رموز الأمن العام، والتحول إلى المثقفين بصفتهم رموز المقاومة الفكرية، فنجحت الجماعة في اغتيال فرج فودة في الثامن من حزيران يونيو 1992، وذلك لإنذار غيره من المثقفين وترويعهم، وانتقلت من الرموز الثقافية إلى المواطنين الأبرياء، فقتلت سائحة وأصابت شخصين في الهجوم على حافلة سياحية بالقاهرة 21/10/1992 وهاجمت حافلة سياحية تضم مسيحيين، وذلك في عملية أسفرت عن عشر إصابات. وتلى ذلك إلقاء متفجرات على حافلة تضم سائحين ألمان في 7/1/1993 وإلقاء قنبلة على أوتوبيس سياحي يضم سائحين من كوريا الجنوبية أمام أحد الفنادق خارج القاهرة في 16/2/1993 وفجرت قنبلة داخل حافلة سياحية أمام المتحف بميدان التحرير 16/3/1993 وحاولت اغتيال صفوت الشريف وزير الإعلام 20/4/1993 وإلقاء قنبلة على حافلة سياحية متجهة إلى الأهرام 8/6/1993 وإطلاق النار على باخرة نيلية سياحية قرب منفلوط تضم سائحين بريطانيين 23/11/1993 وإطلاق عبوة ناسفة على حافلة تضم سائحين من أستراليا 27/12/1993، ومرة ثانية محاولة اغتيال حسن الألفي وزير الداخلية 1993 وانفجرت قنبلة خارج البنك المصري الأميركي 7/2/1994 وكذلك حافلة فى أسيوط 14/2/1994 وعلى باخرة سياحية 16/2/1994، وانفجار قنبلة في قطار ركاب 23/2/1994 وكذلك إطلاق النار على البنك المصري الأميركي في جنوب مصر 1/3/1994 ثم إطلاق النار على البنك المصري الأميركي في القاهرة 3/3/1994 وعلى باخرة سياحية قرب البداري 13/3/1994 وانفجار قنبلة أمام البنك المصري الأميركي 19/3/1994 وهجوم على حافلة تحمل سائحين من الإسبان 26/8/1994. وأعقب ذلك خمس عمليات إرهابية، بينها محاولة اغتيال نجيب محفوظ 14/10/1994 وعشر عمليات إرهابية في العام اللاحق، أهمها محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا في إثيوبيا، والهجوم بسيارة مفخخة على السفارة المصرية في إسلام آباد في باكستان 19/11/1995 حيث قتل 85 أجنبياً و4 من المصريين وأصيب 26. ولم يشهد عام 1996 سوى عمليتين، أهمهما الهجوم على حافلة سياحية تضم 23 سائحاً أمام المتحف المصري، في وسط القاهرة، أسفرت عن عشرة قتلى من بينهم السائق وإصابة ثمانية. أما آذار مارس 1998 فلم تحدث فيه سوى عملية واحدة، وذلك بعد نجاح الأمن في اختراق الجماعات الإرهابية من ناحية، وحصارها المحكم من ناحية ثانية. لكن لم يحدث ذلك إلا بعد ثمن باهظ تمثل في ثلاث ظواهر أسهمت في تحويل الموقف في غير الاتجاه الذي كانت تريده جماعات الإرهاب. وأولى هذه الظواهر: محاولة اغتيال وزراء الداخلية ورئيس الجمهورية، وذلك بهدف القضاء على رموز الحكم بما يؤدي إلى انهياره. وثانيها: تعدد الهجوم على السياحة لتخريبها بصفتها واحدة من أهم مصادر الدخل القومي، وهو الأمر الذي مَسَّ على نحو مباشر آلاف العائلات العاملة بالسياحة وسَبَّبَ الأضرار الاقتصادية لجميع فئات الشعب التي فقدت جماعات الإرهاب إمكانات تعاطفها. وآخرها: إرهاب المثقفين واستئصال طليعتهم، وهي المحاولات التي نالت من مكرم محمد أحمد رئيس تحرير المصور أولاً وفرج فودة ثانياً، ونجيب محفوظ ثالثاً. وذهبت ضحية عمليات الإرهاب هذه أعداد من كبار قيادات رجال الشرطة، ولم يعلن عن أسمائهم. ولكن، في مقابل ذلك، تزايد سخط جمهور الشعب على هذه الجماعات التي تصيب الأبرياء الذين لا ذنب لهم أو جريرة. وكان يمكن لكل ذي عينين ملاحظة أن النصف الثاني من الثمانينات وكل التسعينات كانت سنوات الجمر بالنسبة الى المثقفين الذين شهدوا الاعتداء على أقرانهم، واقتراب الخطر منهم بلا تمييز، فتزايدت الرقابة الذاتية، داخل كل كاتب، وذلك في الوقت الذي شاعت فيه تهمة التكفير في الخطاب الديني غير الرسمي والرسمي. وأشير إلى الدور الذي قام به مجمع البحوث الإسلامية في سنوات الجمر هذه، وما بدا منه من تشدد متزايد، ظهر كأنه دفاع عن النفس، أو مزايدة على عدم تفريطه في مواجهة اتهام جماعات الإسلام السياسي له بممالأة الدولة والسير في ركابها المعادي للإسلام. أضف إلى ذلك اختراق عناصر التطرف الأزهري، خصوصاً العناصر التي مارست نشاطها ضمن"جبهة علماء الأزهر"التي لم تتردد في تكفير المستنيرين من مشايخ الأزهر أنفسهم. ولم يكن من الغريب في هذا السياق الملبَّد بالغيوم، أن يرفع بعض"المكفراتية"دعوى"حسبة"على نصر أبو زيد، وذلك بسبب ما قاله وكتبه الشيخ عبدالصبور شاهين رداً في ما يبدو على النقد القاسي الذي وجهه إليه نصر أبو زيد بسبب تشجيعه المريب لشركات توظيف الأموال التي لعبت دوراً تخريبياً في الاقتصاد المصري تحت غطاء الدين الإسلامي. وكانت النتيجة أن تحولت دعاوى الحسبة المرفوعة على المثقفين إلى"موضة"مخيفة، أصابت بالرعب عشرات من الكُتَّاب والمبدعين وأساتذة الجامعات. وكان نصر أبو زيد هو الضحية الأكثر شهرة وتأثيراً لدعاوى الحسبة، فقد أقام"المكفراتية"دعوى بإثبات ردته عن الإسلام، استناداً إلى ما نشره في كتبه التي لم تفارق مفاهيم الاعتزال الإسلامي قط، وتطليقه من زوجه إذا ثبت ارتداده. ولحسن الحظ، حكم قاضي المحكمة الابتدائية برفض الدعوى، ولكن خالفه قاضي الاستئناف الذي حكم بالردة في السابع والعشرين من كانون الثاني يناير سنة 1994، وذلك بعد عامين من اغتيال فرج فودة، وقبل أقل من عام على محاولة اغتيال نجيب محفوظ، وانتقلت القضية من الاستئناف إلى النقض الذي أكد حكم الاستئناف، وأثبت الردة وأمر بالتفريق بين نصر وزوجه في الخامس من آب أغسطس سنة 1996 في حكم لا نظير له، ولا يقل كارثية عن محاولة اغتيال محفوظ قبل عامين، ونجاح اغتيال فرج فودة قبل أربعة أعوام. ولم يكن من الغريب في هذا السياق أن تقوم قيامة التطرف الديني ولا تهدأ ضد رواية الكاتب السوري حيدر حيدر"وليمة لأعشاب البحر"وأن تتبارى جبهات التطرف في تكفيرها، ويجاريها في الموجة نفسها بيان من شيخ الجامع الأزهر الذي لم يتردد في أن يحكم على الرواية بالكفر، وذلك في سياق خطاب ديني أخذ يزداد تعصباً على نحو ما كتبت عنه في الحياة ما بين 18 / 5 و 7 / 6 / 2000. ولم يكن ما حدث في مصر لأمثال نصر أبو زيد الأستاذ بجامعة القاهرة بعيداً من ما حدث للدكتور أحمد بغدادي في جامعة الكويت الذي حكم عليه بالحبس لمدة شهر مع النفاذ لاتهامه باستخدام لغة غير لائقة بمقام الرسول صلى الله عليه وسلّم. وهو الأمر الذي حدث ما يشبهه في الأردن، وكذلك الكويت التي صدر فيها الحكم القضائي على الكاتبة ليلى العثمان والشاعرة عالية شعيب. وهو المصير الذي كنا ننتظر أسوأ منه للمبدع مارسيل خليفة الذي أنقذته من براثن مشايخ التطرف الحشود الضخمة من المثقفين الداعمين له على امتداد الأقطار العربية. وكان ذلك بعد فترة غير طويلة من مصادرة رواية عبده وازن، في مناخ صارت المصادرات فيه هي القاعدة. وتتكثف الدلالة المحزنة من كل هذا الحصر التاريخي في تصاعد خط التطرف الذي تحول إلى إرهاب ديني، ماضٍ في تصاعده، لن يتوقف - في ما يبدو - إلا إذا تغيرت شروطه والعوامل المؤدية إليه من فساد الدولة وتسلطيتها وتزايد أزماتها الاقتصادية. وأكدّ نجيب محفوظ نفسه، في حواره مع رجاء النقاش، سنة 1998، أن ظاهرة التطرف الديني أهم أسبابها حال الفساد والتضخم والغلاء التي يعيشها المصريون منذ السبعينات الساداتية. ومن الطبيعي أن يكون رد الفعل للتطرف في الفساد هو التطرف السياسي والديني، وكأن الفساد هو التربة الخصبة التي أنبتت الجماعات المتطرفة. وساعد على بروز هذا التيار انضمام عدد كبير من الناس إلى تلك الجماعات، ليس اقتناعاً بمبادئها، ولكن نتيجة لحال اليأس والإحباط التي يعيشونها بسبب الفساد والتضخم والغلاء. ولذلك رأى محفوظ أنه عندما تتحسن الحال الاقتصادية وتتوافر فرص العمل للشباب، فإن 60 إلى 70 في المئة منهم سيتخلون عن تيار التطرف.