من المؤكد أن اغتيال السادات كان أخطر العلامات على الأثر المدّمر لتصاعد حضور هذا النوع من المثقفين، وإرتباطه بتنظيمات إرهابية وأحزاب سرية اختارت طريق العنف الذي بدأته، في السبعينات، جماعة الفنية العسكرية شباب محمد سنة 1974، والتكفير والهجرة سنة 1977، والجهاد التي أعيد بناؤها التنظيمي سنة 1979 لتقوم بتنفيذ عملية اغتيال السادات التي كانت أخطر عملية عنف سياسي شهدها تاريخ مصر الحديث. وهي العملية التي كشفت لوازمها ونواتجها وآثارها الجانبية بما لا يدع مجالا للشك عن نوع الأثر الذي تركه المتطرفون من التقليديين الجدد في عقول الشباب الذين أحبطتهم الهزائم المتوالية وألوان الفساد الاجتماعي والسياسي المتزايدة، فضلا عن حالة الفراغ الثقافي التي تركوا عليها في غياب أجهزة فاعلة لنشر ثقافة المجتمع المدني وقيمه. ولم يكن من المصادفة، والأمر كذلك، أن تغدو نماذج هذا النوع من الشباب بعض شخصيات الأعمال الروائية ابتداء من مطلع الثمانينات، على الأقل من وجهة نظر الآباء الذين انقلب عليهم أبناؤهم الذين اجتذبتهم جماعات التطرف. ومرة أخرى، تقف روايات نجيب محفوظ موقف الصدارة في تصديها لهذه الظاهرة الجديدة، وترصدها من وجهة نظر الروائي الذي أتم السبعين من عمره في نهاية السنة التي اغتيل فيها أنور السادات. ولذلك يغلب على منظوره الروائي في تناول نماذج هذا النوع من الشباب رؤية الجد أو الأب الذي يلوذ بقيم أمثال عامر وجدي أو محتشمي زايد الوفدية في البحث عن علة الداء التي جعلت من البلد كله مريضا بالتعصب، فيما يقول أحد أبطال رواياته المكتوبة في الثمانينات. هكذا تتولى روايات نجيب محفوظ ملاحقة هذا النوع من الشباب بعدساتها السردية التي لم تكف عن نقد الزمن الساداتي، بعد أن كشفت عما استطاعت كشفه من سلبيات الزمن الناصري. وانطلقت في ذلك من النقطة التي توقفت عندها في "المرايا" 1972 حين جعلت من شخصية عبدالوهاب اسماعيل مرآة رمزية لواحد من أبرز قيادات الإخوان المسلمين، إن لم يكن الأبرز بعد حسن البنا، وهو سيد قطب الذي أعدم زمن عبدالناصر سنة 1965. وكان التركيز في الموازاة الرمزية لنموذج سيد قطب الروائي على التعصب الديني من ناحية، واتهام المجتمع كله بالجاهلية من ناحية ثانية، والنظر إلى "الإشتراكية والوطنية والحضارة الأوروبية" بوصفها "خبائث علينا أن نجتثها من نفوسنا" من ناحية أخيرة. وكان ذلك كله تأكيداً لحدية التطرف في الدعوة إلى دولة دينية تسم بالكفر كل الأفكار الحديثة عن رأس المال والمادية الجدلية والحرية الإبداعية والفكرية، وتخرج من حظيرة الإسلام كل الذين يأخذون عن الغرب الكافر أفكاره وفلسفاته وتنظيماته. ويزيد من تأكيد هذه الحدية السياق الذي تجاوبت به شخصية عبدالوهاب اسماعيل مع الشخصيات المماثلة لها في الانتساب إلى دائرة الأفكار نفسها في المرايا، سواء من منظور السلب الذي وصفت به شخصية طنطاوي اسماعيل أو رضا حمادة الذي "وقف موقف الرفض من أي رأي يساري، وعجز عن التطور مع الزمن"، أو منظور الإدانة للمتاجرة بالدين في مرايا أمثال عباس فوزي وزهران حسونة. وانطلاقاً من هذه البداية التي أكّدتها مرايا نجيب محفوظ في مطالع السبعينات، كشفت روايات الثمانينات عن وعيها الخاص بأن الإرهاب هو نهاية التتابع المتصاعد لدرجات الحدية في التعصب الذي انطوت عليه نماذج المثقف التقليدي داعية الدولة الدينية، وأن ممارسة العنف هي النتيجة الطبيعية للمسار الذي مضت فيه نماذج المثقف التقليدي من الشباب الذي تحول إلى قنابل موقوتة، قابلة للانفجار في أىة لحظة، بناء على أي أمر من أمراء التطرف. والبداية هي ما تلمحه هذه الروايات من تولّد التطرف في عقول الأبناء الذين يعميهم التعصب شيئاً فشيئاً، بعد أن يطلقوا لحاهم ويندفعوا وراء حدِّية الفكر الذي يسم المغاير له أو المختلف معه بالكفر، فينتهي الأمر إلى "قذف الجميع بتهمة الكفر"، على نحو ما نرى في أحد أبناء السيد س من مجموعة "التنظيم السري" 1984. ونصعد من سياق التنظيم السري إلى "يوم قتل الزعيم" 1985، حيث نواجه العنف عارياً مجسداً في اغتيال رئيس الدولة الذي كان اغتياله إعلاناً بعودة مؤكدة للإرهاب كما يقول علوان فواز محتشمي، ممهدا الطريق لما يقوله سليمان مبارك من أن "البلد مريض بالتعصب" وأن هؤلاء الشباب "يريدون أن يرجعونا أربعة عشر قرناً إلى الوراء". ويستمر تقديم نموذج الشاب الذي ينتهي إلى الإرهاب في "صباح الورد" 1987 حيث نواجه الابن شكري سامح الذي التحق بكلية الطب، وكان وسيماً رياضي الجسم متقدماً في الدراسة، وإذا به يميل تدريجاً إلى الانطواء ، ومن الانطواء الى اتهام والديه بالخروج على الدين بعد انضمامه الى إحدى الجماعات، معلناً انه كان في غيبوبة الجاهلية. وترتبك الحياة بالأب الذي يحنق على التيارات المتطرفة ويعتبرها غريمه الأول في الحياة، إلى أن تلقي الشرطة القبض على شكري في أعقاب معركة دامية بتهمة القتل. ويدرك الأب أنه خسر ابنه الوحيد الذي عقد به آماله، بعد أن تمت محاكمة الشاب وقضى عليه بالشنق، ونفذ الحكم. ولم يسدل الستار على المأساة الدامية التي لا تزال تتكرر إلى اليوم. ولا تخلو "قشتمر" آخر روايات نجيب محفوظ من النموذج نفسه في تنوع أقل حدِّة، يمثله الابن صبري الذي قبض عليه في من قبض عليهم من الإخوان. ويؤكد الأب أن ابنه لم ينضم للجماعة، ولكنه بدافع من تدينه تبرع لبناء جامع فعثر على اسمه في كشف المتبرعين وعٌدِّ من الاخوان، فأهين وضرب إلى أن أفرج عنه محطماً. ووقفت فترة الاعتقال حجر عثرة في سبيل توظيفه، فاتجه الى العمل الحركي يسترد أنفاسه عقب محنته القاسية في الاعتقال. ولكن رواية "قشتمر" لا تترك تجليات هذا النموذج من دون أن توجّه نقدها الضمني إلى جميع التيارات المغايرة، خصوصا حين تقرر على لسان أنوار بدران: "لن نعثر على جدية حقيقية إلا في التيار الديني". ترى هل هي مصادفة، والأمر كذلك، أن يقوم شاب في عمر الشباب الموصوف في أعمال من مثل "التنظيم السري" و "صباح الورد" وغيرهما بمحاولة اغتيال نجيب محفوظ ؟! لتكن رواية "أولاد حارتنا" الحجة المعلنة على ألسنة "المكفراتية". ولكن موقف الكاتب الذي ظل منطوياً على رفض التطرف الديني، مقابل كل تطرف آخر منذ أن كتب عن مأمون رضوان في "القاهرة الجديدة" سنة 1945 إلى أن كتب عن امتداده الطبيعي في "صباح الورد" سنة 1987 هو الموقف الذي أفضى إلى وضعه في صنف الخطرين من الكفار والملاحدة في مجتمع الجاهلية المعاصرة، ومن ثم إصدار الحكم بإعدامه، وإيكال مهمة التنفيذ إلى واحد من أشباه الشباب الذين وصفهم. والمسافة ليست بعيدة بين شكري سامح في "صباح الورد" والشاب الذي امتدت يده إلى عنق نجيب محفوظ نفسه كي تحزه بسكين صدئه، في الساعة الخامسة والربع تقريبا، من مساء يوم الجمعة الرابع عشر من تشرين الأول أكتوبر سنة 1994، مرتكبة الجرم الذي كان بمثابة الدليل الملموس في الواقع على ما انتهى إليه نموذج المثقف التقليدي، خصوصاً في علاقته بمريديه الذين يدفعهم إلى ممارسة العنف العاري، قضاء على خصومه من "أولاد حارتنا" الذين حلموا بمشرق النور والعجائب.