مشاري الذايدي * الشرق الأوسط اللندنية تسحر السعوديون قبل بضعة أيام على بيان من الديوان الملكي، يعلن فيه تعرض الأمير محمد بن نايف، مساعد وزير الداخلية، لعملية اغتيال فاشلة، نفذها انتحاري قاعدي، زرع قنبلة في أحشائه، ونجا منها الأمير بأعجوبة لحسن حظ السعودية والسعوديين. عملية «القاعدة» هذه المرة كانت صادمة في أسلوبها وفي هدفها: الأسلوب تمثل في تحويل الأحشاء إلى قنبلة. والهدف: محمد بن نايف، القائد الميداني الأول في محاربة «القاعدة»، الذي برهن عن صلابة وعزيمة لا تلين في مكافحة الإرهابيين. يعني هذا الحدث الصادم، فيما يعني، تطور أساليب الإرهاب الأصولي في السعودية، وقدرته العنيدة على المواجهة والتحور والتكيف مع كل الظروف، وابتداع سبل جديدة للعمل والاستمرار، وهو تكيف استطاع تجاوز سلة «المضادات» الأمنية المتنوعة، من كفاءة أجهزة الأمن السعودية في الرصد وتجميع المعلومات وسرعة المبادرة إلى المواجهة، وعمليات القبض المتوالية، المعلن عنها وغير المعلن، إلى التنسيق الإقليمي والدولي لتضييق الخناق على المطلوبين خارج السعودية، هذه في جملتها هي أساليب المواجهة الصلبة، التي لم تقتصر عليها الداخلية السعودية، بل أضافت لسلتها أساليب مواجهة لينة، من خلال حملة «المناصحة» والتخفيف في العقوبات لمن يسلم نفسه، وتسهيل زيارات الأهل، بل والإفراج المؤقت عن بعض المعتقلين لأسباب إنسانية وواجبات اجتماعية، إضافة لإسهام الأمير محمد بن نايف، الشخصي في هذه المواجهة اللينة من خلال حضور أعراس بعض المفرج عنهم، أو مساعدة الداخلية لهم ماليا، وأيضا من خلال الاستقبال الشخصي لبعض من يريد تسليم نفسه، كإشارة اطمئنان، هذه الاستقبالات التي كاد محارب «القاعدة» الأول محمد بن نايف، يذهب ضحيتها لولا اللطف. رغم كفاءة الأمن السعودي، فإن الإرهاب لم ينكسر، و«الفئة الضالة» حسب تعبير لغة الداخلية السعودية، لم تنقرض، وما زالت تكسب جنودا لها، وما زالت تطور في تقنياتها وتكيف أوضاعها مع المتغيرات، يكفي أن نتذكر قائمة ال44 التي أعلن عنها قبل أيام من حادثة الاغتيال الفاشلة للأمير، وما ذكرته الداخلية عن قدرة أفرادها على صنع دوائر كهربائية تفجر من مكان بعيد قد يكون في دولة أخرى. هذا يعني أن الإرهاب في السعودية لم يرفع الراية البيضاء بعد، وهو ما يجعلنا نتذكر كلام الملك عبد الله بن عبد العزيز، في بداية المواجهات الأمنية، عن أن الحرب مع الإرهابيين قد تمتد لثلاثين عاما. إلى أين نحن ذاهبون في هذه المواجهة؟ قال لي أحد الأذكياء: ما يجري الآن لدينا يشبه، بشكل ما، ما جرى في مصر، لقد بدأ العنف الديني بمصر من خلال استهداف الأجانب ثم تنوعت الأهداف الإرهابية من المؤسسات المالية والاقتصادية والمصارف الصغيرة ومحلات المجوهرات، إلى مسؤولي الدولة إلى المثقفين. ملاحظة لافتة، وفعلا بداية الإرهاب، القريب، في مصر كانت عام 1988 حين تم ضرب أول قافلة سياحية على طريق القاهرةالإسماعيلية، وقبل ذلك بقليل في 1987 محاولة اغتيال وزير الداخلية النبوي إسماعيل. وسلسلة من ضرب أهداف عامة، ثم اغتيال المفكر المصري فرج فودة 1992، ومحاولة اغتيال رئيس الحكومة عاطف صدقي، ووزير الداخلية حسن الألفي في 1993 ومحاولة اغتيال الروائي نجيب محفوظ 1994، وتفجير البنوك وسرقة خزائنها 1995 وبلغت العمليات ذروتها من خلال محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا 1995. هدأت المواجهة قليلا لتندلع بعدما هاجم المسلحون الأصوليون في 1997 حافلة سياحية بالأقصر، وأطلقوا النار على السياح الأجانب فقتلوا معظمهم. ونوع إرهابيو مصر في هجماتهم فاستهدفوا مصالح مصرية في الخارج كتفجير السفارة المصرية في باكستان 1995 (وربما جاراهم إرهابيو السعودية في استهداف المصالح السعودية في الخارج، وهو أمر يجب التنبه له) ولم تنته الحكاية. في السعودية بدأ الإرهاب القريب بالتركيز على أهداف ذات «شبهة» أجنبية، كما صورها المتطرفون، مثل مقر بعثة تدريب الحرس الوطني «العليا» بالرياض 1995، أو مجمعات سكنية مختلطة بين سعوديين وعرب وغربيين كما في مجمعات الحمراء، وغرناطة، بداية من مايو 2003، لينتقل بعدها الإرهاب إلى مقرات حكومية صرفة مثل مبنى الطوارئ والمرور، واستهداف ضباط أمن من رتب رفيعة، ليصل إلى «دينامو» المؤسسة الأمنية، الأمير محمد بن نايف. وكلنا أمل أن تقف يد الشر الأصولي عند هذا الحد، وأن لا تتحول إلى أهداف رخوة بلا حصانة كالكتاب والمثقفين، لا سمح الله. البعض يعول كثيرا على فكرة المراجعات لدى هذه الجماعات وأنه يجب أن لا نهول الأمر. للتذكير فقد حصلت في الكويت وفي العراق وفي اليمن وفي مصر «مراجعات» وتراجعات، ولكن هذه المراجعات، رغم أنني أصدق بعضها وأثمن أثره، ولا أثق بمصداقية بعضها الآخر، ليست منبع المشكلة، فالذي تراجع وقرر أن يعيد النظر في بعض أفكاره، هذا شيء يحسب له لا عليه، خصوصا إذا تم بقرار ذاتي منه، وهذا الأمر يسري على كل التيارات والأفكار مثل متطرفي الشيوعية والقومية، لكن كل هذه المراجعات والتحولات لا تعني أن المسألة قد حلت. كيف تحل إذن؟ سؤال كبير، لكن في ظني أن فتح باب النقاش والجدل الفكري حول «مرتكزات» خطاب العنف الديني، التي تقوم على تصورات محددة للشرعية وتعريف وظيفة المسلم، واختزال النشاط الإنساني في خدمة هذا التصور الديني الأممي المتجاوز للحدود وإلغاء أو تبخيس فكرة الدولة و«توثينها»، وتقديس شرط «الأمة الإسلامية»، ونسج كل روابط الشرعية والوجود بهذه «الآصرة» الشرعية الوحيدة، آصرة الدين، طبعا حسب تفسير وتعريف هذا الخطاب للدين، هذه الأمور كلها يجب أن تفتح للنقاش والسجال، فهي في تقديري قوام الخطاب المحفز للعنف، ومحرك كل شعور أصولي مأزوم بعلاقته مع فكرة الدولة والمواطنة، خطاب تجده يقبل فكرة الدولة على مضض أو حسب تعريفه هو للدولة، مثلا: تصبح السعودية، حسب تنظيرهم، دولة لا يجب فعل الإرهاب فيها لأنها: «حاضنة الحرمين» أو لأن «أهل الخير فيها كثيرون» أو « لأن الدعوة فيها منتشرة» و«المساجد عامرة» وفيها «من يصلي ويصوم ويدعو إلى الله» وغير ذلك من الحجج التي تساق لتقبيح فعل الإرهابيين السعوديين. ماذا يعني هذا الكلام؟ وما هو المضمر فيه؟ يعني أن «شرعية الدولة» لدى هذا الخطاب لا معنى لها ولا وجود إلا بحسب امتثالها لهذه المهام والمواصفات التي يذكرها هؤلاء، ويضمر هذا الكلام أنه إذا لم تتوفر هذه الصفات فلربما كان الإرهاب جائزا فيها أو حتى مطلوبا إذا تمت القدرة عليه، ويصبح حينها جهادا وليس إرهابا؟ ما يعكس ضمورا وهزالا مخيفا في التأسيس لفكرة الدولة ضمن نسيج خطابنا الثقافي. طبعا من التجني أن نقول إن «المشايخ» والوعاظ الذين يقولون هذا الكلام يقصدون هذا المضمر، لنقل أغلبهم لا يقصدون، وأكيد أنهم لا يقلون عن الآخرين حرصا وانزعاجا من هذا القتل والتدمير في بلدهم وبين أهليهم، ولكن ليس المهم ما يقصدونه بل المهم جدوى الكلام ومدى «نجاعته» في الإتيان على خطاب العنف من قواعده المؤسسة. الذي يبدو أن ترياق خطاب العنف الديني ليس الوعظ ولا إثارة الجانب العاطفي، وتحويل الشاب من قنبلة بشرية إلى: إما شخص بلا أفكار فاقد للفعالية، أو شخص واعظ «يحتسب» على المجتمع ولكن دون عنف، الترياق هو في عدم تحاشي وتجنب النقاش في حجج خطاب العنف الديني، هم يكفرون الدولة ويضللون من يقف معها، وسبب تكفيرهم لها أنها لا تطبق شرع الله ولا تقيم الجهاد في سبيل الله، هكذا يقنعون الشباب، وهكذا يقتنع الشاب، لا يأتون لهم بكلام «أجنبي» عنهم أو بعيد عن ما يسمعونه عن انتشار الضلال والفسق والانحراف وتكفير من لم يحكم بما أنزل الله وتكفير من يوقع الاتفاقيات والمواثيق الدولية، الأمر يحتاج فقط إذا فقدت الحصانة النقدية الذاتية إلى شاب صغير لم تصبح لديه مصالح يخاف عليها بعد أو إلى رجل فقد مصالحه «وماي خاف عليه». ونقاش هذه الأفكار ليس فقط بالمساجلة الفقهية التفصيلية، بل بإنشاء خطاب إنساني عميق. المطلوب في السعودية حسبما أتوهم وفي كل مجتمع يكتوي بنار العنف الأصولي أيضا، مواجهة التطرف وليس الإرهاب، لأن ما نحن متفقون على مواجهته، وهو الإرهاب، ليس بحاجة لنقاش، بل نحتاج لنقاش ما نحن، كمجتمع، مختلفون فيه، وهو التطرف. بشرط عدم حضور روح التشفي وتسجيل النقاط، فالنار إن توقدت لن تميز بين حطب وحطب، لنفتح قلوبنا وعقولنا، ونتفق على كلمة سواء من أجل وحدة واستقرار الوطن.