بغداد 1 تسمية المدينة قال ابن الأنباري: أصل بغداد للأعاجم، والعرب تختلف في لفظها إذ لم يكن أصلُها من كلامهم، ولا اشتقاقها من لغاتهم، وقال بعض الأعاجم: تفسيره: بستان رجُلٍ، فَبَاْغ: بُستان، وَدَاْد: اسم رجُل. وبعضهم يقول: بَغ: اسم للصنم، فذُكر أنه أُهدِيَ إلى كِسرى خَصِيٌّ من المشرق فأقطعه إياها، وكان الخصيُّ من عُبَّاد الأصنام ببلده، فقال:"بغ دادي"أي: الصنم أعطاني. وقيل: بغ: هو البستان، وداد: أعطى، وكان كسرى قد وهب لهذا الخصيّ هذا البستان فقال:"بغ داد"فسُمِّيت به. وقال حمزة بن الحسن: بغداد: اسمٌ فارسيٌّ مُعرّبٌ عن"باغ داذَوَيه"لأن بعض رُقعة مدينة المنصور كان"باغاً"لرجل من الفُرس اسمه"دَاذَوَيهِ"وبعضها أثر مدينةٍ دارسة كان بعض ملوك الفُرس اختطها فاعتلَّ، فقالوا: ما الذي يأمر الملك أن تُسمى به هذه المدينة؟ فقال:"هِلِدوه وروز"أي: خلُّوها بسلام، فحُكِي ذلك للخليفة العباس أبي جعفر المنصور، فقال: سميتها مدينة السلام، وفي بغداد سبع لغات: بغدادُ وبغدانُ، ويأبى أهلُ البصرة ولا يُجيزون"بغداذ"في آخره الذال المعجمة، وقالوا: لأنه ليس في كلام العرب كلمة فيها دال بعدها ذال، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق: فقلت لأبي إسحاق إبراهيم بن السّري: فما تقول في قولهم:"خزداذ"؟ فقال السّري: هو فارسي، ليس من كلام العرب. وهذا حجَّة من قال:"بغداذ"فإنه ليس من كلام العرب، وأجاز الكسائي بغداد على الأصل، وحكى أيضاً: مغداذ ومغداد ومغدان، وحكى الخارزنجي بغداد بدالين مهملتين، وهي في اللغات كلها تُذَكَّرُ وتُؤنَّثُ، وتُسمّى مدينة السلام أيضاً، فأما الزورَاءُ، فمدينة المنصور خاصة، وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها: وادي السلام، وقال موسى بن عبدالحميد النسائي: كنتُ جالساً عند عبدالعزيز بن أبي روَّاد"فأتاه رجل، فقال له: من أين أنت؟ فقال له: من بغداد، فقال: لا تقل بغداد، فإن"بغ": صنم و"داد": أعطي، ولكن قل: مدينة السلام، فإن الله هو السلام، والمدُن كلها له. وقيل: إن بغداد كانت قَبْلُ سُوقاً يقصدها تجار أهل الصين بتجاراتهم، فيربحون الربح الواسع، وكان اسم ملك الصين"بغ"فكانوا إذا انصرفوا إلى بلادهم قالوا:"بغ داد"أي: أن هذا الربح الذي رَبحناه من عطية الملك، وقيل: إنما سُمِّيت مدينة السلام لأن السلام هو الله، فأرادوا مدينة الله. 2 فتوحات محيط بغداد قال أهل السِّيَر: لما أهلك الله مهرَانَ بأرض الحيرة ومَن كان معه من العجم استمكن المسلمون من الغارة على السَّواد، وانتقضت مسالح الفُرس، وتشتَّتَ أمرُهم، واجترأ المسلمون عليهم، وشنوا الغارات ما بين سورا وكَسْكَر والصَّراة والفلاليج والإستانات، وقال أهل الحيرة لِلْمُثَنَّى : إن بالقرب مِنَّا قرية تقوم فيها سوق عظيمة في كل شهر مرة، فيأتيها تُجَّار فارس والأهواز وسائر البلاد، يقال لها: بغداد، وكذا كانت إذ ذاك، فأخذ الْمُثَنَّى على البر حتى أتى الأنبار فتحصن فيها أهلها منه، فأرسل إلى سُفْرُوخ مرزبانها ليسير إليه فيكلِّمه بما يريد، وجعل له الأمان، فعبر المرزبان إليه، فخلا به الْمُثَنَّى، وقال له: إني أريد أن أغِير على سوق بغداد، وأريد أن تبعث أدلاء فيدُلُّوني الطريق، وتعقدَ لي الجسر لأعبُرَ عليه الفرات، ففعل المرزبان ذلك، وقد كان قطع الجسر قبل ذلك لئلا تعبر العرب عليه، فعبر الْمُثَنَّى مع أصحابه، وبعث معه المرزبان الأدلاءَ، فسار حتى وافى السوق ضَحْوَةً، فهرب الناس، وتركوا أموالهم، فأخذ المسلمون من الذهب والفضة وسائر الأمتعة ما قدروا على حمله، ثم رجعوا إلى الأنبار، ووافى معسكره غانماً موفوراً، وذلك في سنة 13 للهجرة/ 634م، فهذا خبر بغداد قبل أن يُمصِّرَها المنصورُ. 3 موقع بغداد ذكر بطليموس في كتاب الملحمة المنسوب إليه، أن مدينة بغداد طولها خمس وسبعون درجة، وعرضها أربع وثلاثون درجة داخلة في الإقليم الرابع، وقال أبو عون وغيره: إنها في الاقليم الثالث، وقال: طالِعُها السّماك الأَعْزَل، وبيت حياتها القوس، ولها شركة في الكف الخضيب، ولها أربعة أجزاءٍ من سرَّة الجوزاء تحت عشر درج من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، عاشرها مثلها من الحمل، وعاقبتها مثلها من الميزان، وقيل: لا شكّ أن بغداد أُحدِثت بعد بطليموس بأكثر من ألف سنة ويُظَنُّ أن مُفسري كلامه قاسوا وقالوا على لسانه. وقال صاحب الزيج: طول بغداد سبعون درجة، وعرضها ثلاث وثلاثون درجة وثلث، وتعديل نهارها ست عشرة درجة وثلثا درجة، وأطول نهارها أربع عشرة ساعة وخمس دقائق، وغاية ارتفاع الشمس بها ثمانون درجة وثلث، وظِلُّ الظُّهر بها درجتان، وظلُّ العصر أربع عشرة درجة، وسَمْتُ القبلة ثلاث عشرة درجة ونصف، ووَجْهها عن مكة مئة وسبع عشرة درجة، في الوجود ثلاثمئة درجة. وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: بغداد من الصَّراة إلى باب التبن، وهو مشهد موسى الكاظم، بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن الامام علي بن أبي طالب، ثمَّ زِيْدَ فيها حتى بلغت كلْوَاذى والْمخرّم وقَطْرُبُّل. 4 استطلاع موقع بغداد بعث المنصور رُواداً - وهو بالهاشمية - يرتادوا له موضعاً يبني فيه مدينة، ويكون الموضع واسِطاً رافِقاً بالعامة والْجُند، فنُعِتَ له موضع قريب من بارِمَّا، وذُكِرَ له غذاؤه، وطيب هوائه، فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه، وبات فيه، فرأى موضعاً طيباً، فقال لجماعة منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب المورياني وعبدالملك بن حُمَيد الكاتب: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: طيب موافق. فقال: صدقتم، ولكن لا مرفق فيه للرعية، وقد مررت في طريقي بموضع تُجلَب إليه الميرة والأمتعة في البرِّ والبحر، وأنا راجعٌ إليه وبائتٌ فيه، فإن اجتمع لي ما أريد من طيب الليل، فهو موافق لما أُريده لي وللناس، قال: فأتى موضع بغداد، وعبر موضع قصر السلام ثم صلى العصر، وذلك في صيف وحر شديد، وكانت في ذلك الموضع بيعة، فبات أطيب مبيت، وأقام يومه، فلم يرَ إلا خيراً، فقال: هذا موضع صالح للبناء، فإن المادة تأتيه من الفرات ودجلة وجماعة الأنهار، ولا يَحْمِلُ الْجُندَ والرَّعِيَّةَ إلاّ مثله، فخطَّ البناءَ، وقدَّرَ المدينة، ووضع أول لبنة بيده، فقال: بسم الله، والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله. 5 محيط بغداد قيل: انَّ الخليفة المنصور استشار دهقان بغداد، فقال: الذي أراه يا أمير المؤمنين أن تنزل في نفس بغداد، فإنك تصير بين أربعة طساسيج طسُّوجان في الجانب الغربي، وطسُّوجان في الجانب الشرقي، فاللذان في الغربي قَطْرَبُّل، وبادوريا، واللذان في الشرقي: نهر بوق، وكلْوَاذَي، فإن تأخرت عمارة طسُّوج منها كان الآخر عامراً، وأنت يا أمير المؤمنين على الصَّراة ودجلة تجيئك بالميرة من القرب، وفي الفرات من الشام والجزيرة ومصر وتلك البُلدان، وتُحمَل إليك طرائف الهند والسند والصينوالبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك ميرة أرمينية وأذربيجان وما يتصل بها في تامَرَّا، وتجيئك ميرة الموصل وديار بكر وربيعة، وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوُّك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر والقنطرة لم يصل إليك عدوك، وأنت قريب من البر والبحر والجبل، فأعجب المنصور هذا القول، وشرع في البناءِ. 6 تمصير بغداد كان أول مَن مَصَّرَ بغداد، وجعلها مدينة المنصورُ بالله أبو جعفر عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب، ثاني الخلفاءِ العباسيين، وانتقل إليها من الهاشمية، وهي مدينة كان قد اختطها أخوه أبو العباس السفاح قرب الكوفة، وشرع في عمارتها سنة 145ه/ 762م، ونزلها سنة 149ه/ 766م، وكان سببُ عمارتها: أن أهل الكوفة كانوا يُفسِدون جُندَه، فبلغه ذلك من فِعْلِهم، فانتقل عنهم يرتاد موضعاً. 7 إعمار بغداد وجَّه المنصور في حشر الصُّنَّاع والفَعَلَةِ من الشام والموصل، والجبل والكوفة وواسط، فأُحضروا وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة، والفقه والأمانة، والمعرفة بالهندسة فجمعهم، وتقدم إليهم أن يشرفوا على البناء، وكان ممن حضر الحجَّاج بن أَرطاة، والإمام أبو حنيفة النعمان، وكان أول العمل في سنة 145 ه/ 762م، وأمر أن يُجعَل عرضُ السور من أسفله خمسين ذراعاً، ومن أعلاه عشرين ذراعاً، وأن يجعل في البناء جُرْز القصب مكان الخشب، فلما بلغ السورُ مقدار قامة اتصل به خروج محمد بن عبدالله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فقطع البناء حتى فرغ من أمره. 8 أساطير الرواة قال علي بن يَقطين: كنت في عسكر أبي جعفر المنصور حين سار إلى الصَّراة يلتمس موضعاً لبناء مدينة، فنزل الدير الذي على الصراة في العتيقة، فما زال على دابته ذاهباً جائياً منفرداً عن الناس يفكر، وكان في الدير راهب عالم، فقال لي: لِمَ يذهب الملك ويجيء؟ قلت: إنه يريد أن يبني مدينة. قال: فما اسمه؟ قلت: عبدالله بن محمد. قال: أبو مَن؟ قلت: أبو جعفر. قال: هل يُلقّب بشيء؟ قلت: المنصور. قال: ليس هذا الذي يبنيها. قلت: ولم؟ قال: لأنّا قد وجدنا في كتاب عندنا نتوارثه قَرناً عن قرن أن الذي يبني هذا المكان رجل يقال له: مِقلاص. قال علي بن يَقطين: فركبت من وقتي حتى دخلت على المنصور، ودَنَوتُ منه، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: خبرٌ ألقيه إلى أمير المؤمنين، وأريحه من هذا العناءِ. فقال المنصور: قلْ. قلت: أميرُ المؤمنين يعلم أن هؤلاءِ معهم علم، وقد أخبرني راهب هذا الدير بكذا وكذا، فلما ذكرت له مِقلاص ضحك، واستبشر ونزل عن دابته فسجد، وأخذ سوطه وأقبل يذرع به. فقلت: في نفسي لحقه اللجاجُ، ثم دعا المهندسين من وقته، وأمرهم بخطَّ الرماد. فقلت له: أظنك يا أمير المؤمنين أرَدتَ مُعاندة الراهب وتكذيبه، فقال: لا والله، ولكني كنت ملقباً بمقلاص، وما ظننتُ أن أحداً عرف ذلك غيري، وذاك أننا كُنا بناحية السّراة في زمان بني أمية على الحال التي تعلم، فكنت أنا ومن كان في مقدار سني من عمومتي وإخوتي نتداعى ونتعاشر، فبلغت النوبة إليَّ يوماً من الأيام، وما أملك درهماً واحداً، فلم أزل أفكر وأعمل الحيلة إلى أن أصبتُ غزلاً لداية كانت لهم، فسرقته ثم وجهتُ به فبيع لي، واشترى لي بثمنه ما احتجت إليه، وجئتُ الى الداية، وقلت لها: افعلي كذا واصنعي كذا، قالت: من أين لك ما أرى؟ قلت: اقترضت دراهم من بعض أهلي، ففعلت ما أمرتها به، فلما فرغنا من الأكل، وجلسنا للحديث طلبت الداية الغزل فلم تجده، فعلمت أني صاحبه، وكان في تلك الناحية لص يقال له: مقلاص مشهور بالسرقة، فجاءت إلى باب البيت الذي كنا فيه فدعتني، فلم أخرج إليها لعلمي أنها وقفت على ما صنعت، فلما ألَحَّت وأنا لا أخرج، قالت: اخرج يا مقلاص، الناس يتحذرون من مقلاصهم، وأنا مقلاصي معي في البيت، فمزح معي اخوتي وعمومتي بهذا اللقب ساعة، ثم لم أسمع به إلا منك الساعة، فعلمت أن أمر هذه المدينة يتمُّ على يديّ لصحة ما وقفت عليه، ثم وضع أساس المدينة مُدوَّراً، وجعل قصره في وسطها.