يفتقد البغداديون نهر دجلة، توأم مدينتهم في الادبيات العراقية وعصبها، بعد ان حجبت اسوار القصور الرئاسية وفيلات المحازبين ومؤسسات سلطة حزب البعث ومنشآتها ضفتيه عن أنظارهم. ويقول جلال الماشطة رئيس تحرير جريدة "النهضة" العراقية ان "بغداد شيدت اساسا على ضفتي دجلة وصدام حسين حرمها من عصبها". ويضيف بأسى "لقد سرق صدام النهر من المدينة، والنهر عمادها". واوضح تغلب جرجيس داود الاختصاصي في علم الجغرافيا وعميد كلية التربية في جامعة المستنصرية انه "على طول 45 كلم يخترق نهر دجلة بتعرج بغداد التي اتسعت لتبلغ مساحتها حاليا 890 كلم مربعا". ودرج البغداديون على التنزه على ضفاف دجلة حيث انتشرت المطاعم والمقاهي على رغم قلة الطرق المحاذية للمياه، لكنهم بدأوا يفقدونها منذ مطلع الثمانينات اي بعد عام واحد على تسلم صدام حسين سدة الحكم وخصوصا بعد اندلاع الحرب العراقية الايرانية عام 1981. وقبل سقوط النظام في نيسان ابريل الماضي بيد التحالف الاميركي البريطاني كان سكان بغداد يشرفون على دجلة من كورنيش نهري متقطع، في مناطق الاعظمية والكاظمية والجادرية وابو النواس، لا يتعدى طوله ثلث طول النهر. ويقول اياد علي فارس مدرس علم الخرائط في الجامعة المستنصرية "منذ 50 عاما كان دجلة عنصرا مهما في حياة البغداديين اليومية. يعيشون على ضفافه ويصطادون اسماكه ويسبحون في مياهه ويتنزهون". ويوضح الدكتور مؤيد، اخصائي علم المدن في الجامعة نفسها، ان بغداد شهدت "طفرة عمرانية كبرى عام 1958 بعد الثورة التي اطاحت بالنظام الملكي، فتأسست مصارف الاسكان وتم توزيع الاراضي باسعار رمزية". ويضيف "ثم بدأت الفئات الغنية باحتلال قسم من الضفاف وبنت عليها قصورا احاطتها بالاسوار. الى ان اتى نظام صدام حسين فاحكم الطوق تدريجيا على دجلة وخصص الضفاف لمؤسسات الدولة ومنازل المسؤولين والمقربين ولقصوره الرئاسية التي لا تعد ولا تحصى". ويؤكد مؤيد "ان الوقت لم يفت لاستعادة الجزء الاكبر من الضفاف"، مضيفا "يجب مثلا تحويل القصور الرئاسية والدور المتعددة لعدي وقصي ابنا صدام الى مجمعات سياحية فور رفع الحظر الامني عنها. كما يمكن هدم منازل المسؤولين والمقربين لاقامة كورنيش نهري". وتتكاثر مؤسسات النظام البعثي السابق على الضفتين المتقابلتين لدجلة: مبنى الاستخبارات، وزارة الدفاع، وزارة الصحة، كلية صدام الطبية و "صدامية الكرخ" كما يسميها البغداديون، وهي مجمع يضم نحو 300 منزل تنتشر على ضفة دجلة اقامها صدام لمحازبيه ويحيط بها سور يمنع العابرين من رؤية النهر. يتذكر حسن 40 عاما كيف اجبر النظام السابق المالكين على بيع اراضيهم التي تقع على ضفاف دجلة بأسعار رمزية. ويقول عجوز جلس على حافة كورنيش ابو النواس، حيث نزع الاهالي بأيديهم سوراً من الاسلاك الشائكة فور سقوط النظام "في الخمسينات ومطلع الستينات كانت حياة الليل عامرة هنا. كنا احرارا". وتتجاور الاسماء: "اسماك بغداد"، "اسماك الفاروق" على طول شارع ابو النواس. هي مطاعم السمك النهري المشوي على الحطب بطريقة خاصة المسقوف لكن معظمها مقفل او مهمل، اما الشارع فبدا شبه خال مع غروب الشمس بسبب سوء الوضع الامني وانتشار السلب والسرقة. ويقول سليم 35 عاما وهو اب لخمسة اطفال "ذهب صدام واتى الاميركيون. الاحوال الامنية سيئة والتجول ممنوع ليلا". وتتواجه منطقة الكاظمية شيعية والاعظمية سنية من على ضفتي دجلة. في الكاظمية كورنيش نهري يمتد نحو 10 كلم. ويقول جعفر 27 عاما اخصائي الاتصالات "ابصرت النور في المنزل الذي لا يفصله عن دجلة الا الكورنيش. لكن الضفة تخضع لمراقبة عناصر مبنى الاستخبارات المجاور فاخترنا عدم الاقتراب". وفي الأعظمية، آخر مكان ظهر فيه صدام حسين قبيل استيلاء القوات الاميركية على بغداد، تنتشر شعارات التأييد له على جدران المنازل. ويتوسط مرسى "الحافلات المائية" الحكومي الكورنيش النهري وفيه قوارب تستخدم لرحلات المجموعات. يقول ابو محمد السبعيني وهو جالس على الدرج المؤدي الى المياه يدخن نارجيلته "كانت القوارب تتحرك باتجاه واحد" مشيرا بيده الى الجزيرة السياحية في الراشدية التي تستغرق الرحلة اليها ساعة ذهابا وايابا. ويضيف "بلدنا كان مستهدفا فمنعونا من التحرك بحرية في دجلة"، متسائلا "من أين يأتي الخطر من مياه دجلة؟ لقد احتكروه لانفسهم كما احتكروا كل شيء". ويشير قيس الى ان البغداديين "لم يستعيدوا دجلة فعليا". ويقول "بعد سقوط النظام لم يتغير الكثير. استقر الاميركيون في القصور والمؤسسات الحكومية التي ما زالت قائمة فلم تتغير الاجراءات الامنية". يقسم دجلة بغداد، التي اسسها الخليفة ابو جعفر المنصور في القرن الثامن الميلادي، الى قسمين: جانب الرصافة وجانب الكرخ يربط بينهما حاليا 14 جسرا.