بغداد - 2 - 9 نفقات بناء بغداد قيل: أنفق المنصور على عمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار. وقال الخطيب البغدادي: إن المنصور أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها، أربعة آلاف ألف وثمانمئة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وذاك أن الأستاذ من الصُّناع كان يعمل في كل يوم بقيراط إلى خمس حبات، والروزجاري بحبتين إلى ثلاث حبات، وكان الكبش بدرهم، والجمل بأربعة دوانيق، والتمر ستون رطلاً بدرهم، وقال الفضل بن دكين: كان يُنادى على لحم البقر في جبانة كِندَة تسعون رطلاً بدرهم، ولحم الغنم ستون رطلاً بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم، قال: وكان بين كل باب من أبواب المدينة والباب الآخر ميل، وفي كل ساف من أسواف البناء مئة ألف لبنة واثنان وستون ألف لبنة من اللِّبْنِ. وقال ابن الشَّرَوي: هدمنا من السور الذي يلي باب المحوَّل قطعة، فوجدنا فيها لبنة مكتوب عليها بِمُغْرَةٍ وزنها مئة وسبعة عشر رطلاً، فوزناها فوجدناها كذلك. 10 مخطط بغداد بنى المنصور مدينته مُدوَّرةً، وجعل داره وجامعها في وسطها، وبنى القبة الخضراءَ فوق إيوان، وكان علوها ثمانين ذراعاً، وعلى رأس القبة صنم على صورة فارس في يده رمح. وسقط رأس هذه القبة سنة 329 ه/ 940م، وكان يوم مطر عظيم ورعد هائل، وكانت هذه القبة تاج البلد، وعَلَم بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس، وكان بَيْنَ بنائِها وسقوطِها مئة ونيّف وثمانون سنة. وجعل الخليفة المنصور لبغداد أربعة أبواب، وأحكم سورها وفصيلها، فكان القاصد إليها من الشرق يدخل من باب خُراسان، والقاصد من الحجاز يدخل من باب الكوفة، والقاصد من المغرب يدخل من باب الشام، والقاصد من فارس والأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين يدخل من باب البصرة. وكانت مدينة بغداد نظيفةً تُكنس رحابها في كل يوم، ويحمل التراب إلى خارج المدينة. 11 أبواب بغداد نقل المنصور أبواب مدينة بغداد الأربعة من واسط، وهي باب الحجَّاج بن يوسف الثقفي، وكان الحجَّاج أخذها من مدينةٍ بإِزاءِ مدينة واسِط تعرف بِ"زَنْدَوَرْد"يزعمون أنها من بناء سليمان بن داود عليه السلام، وأقام على باب خراسان باباً جيء به من الشام من عمل الفراعنة، وعلى باب الكوفة باباً جيء به من الكوفة من عمل خالد القسري، وعمل هو باباً لباب الشام وهو أضعفها. 12 سقاية بغداد كان لا يدخلُ بغدادَ أحدٌ من عمومة المنصور ولا غيرهم من شيء من الأبواب البغدادية إلا راجلاً باستثناء داود بن علي عمّ المنصور، فإنه كان متفرِّساً، وكان يُحمَل في مِحفةٍ، وكذلك محمد المهدي ابنه. فقال له عمُّه عبدالصمد: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير، فلو أذنتَ لي أن أنزل داخل الأبواب، فلم يأذَن له. فقال يا أمير المؤمنين: عِدْنِي بعضَ بغالِ الروايا التي تصل إلى الرّحاب؟ فقال المنصور: يا ربيع! بغال الروايا تصل إلى رحابي؟ تتخِذُ الساعة قنِيَّ بالسَّاج من باب خراسان حتى تصل إلى قصري. ففعل الربيعُ. ومدَّ المنصور قناةً من نهر دُجَيل الآخذ من دجلة، وقناةً من نهر كَرْخَايا الآخذ من الفرات، وجرَّهُما إلى مدينته في عقود وثيقة من أسفلها، محكمة بالصاروج والآجُر من أعلاها، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفُذُ في الشوارع والدروب والأرباض، وتجري صيفاً وشتاءً لا ينقطع ماؤها في شيء من الأوقات، ثم أقطع المنصور أصحابه القطائع، فعمروها وسُمِّيت بأسمائهم. 13 خرافات المنجمين قال أبو سهل بن نوبخت: أمرني المنصور لما أراد بناء بغداد بأخذ الطالع، ففعلتُ، فإذا الطالع في الشمس، وهي في القوس، فخبرته بما تدلُ النجوم عليه من طول بقائها، وكثرة عمارتها، وفقر الناس إلى ما فيها، ثم قلتُ: وأخبرك خلَّة أخرى أسرَّك بها يا أمير المؤمنين. قال: وما هي؟ قلت: نجد في أدلة النجوم أنه لا يموت بها خليفة أبداً حتف أنفه، فتبسم المنصور وقال: الحمد لله على ذلك، هذا من فضل الله يُؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم، ولذلك يقول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفي: أعاينتَ في طولٍ من الأرضِ أو عرْضِ / كبغداد من دارٍ بها مسكنُ الخفضِ / صفا العيشُ في بغدادَ، واخضرَّ عودُه / وعيش سواها غير خفْضٍ ولا غضِّ / تطولُ بها الأعمارُ، إنَّ غذاءَها / مَريءٌ وبعضُ الأرض أمرَأُ من بعضِ / قضى ربُّها أن لا يموتَ خليفةٌ / بها إنه ما شاء في خلقِهِ يقضِي / تنام بها عينُ الغريب ولا ترى / غريباً بأرض الشامِ يطمَعُ في الغمضِ / فإن جُزِيَتْ بغدادُ منهم بقرضها / فما أسلَفَتْ إلاّ الجميلَ من القرْضِ / وإنْ رُميَتْ بالهجر منهم وبالقِلَى / فما أصبحت أهلاً لهجرٍ ولا بُغضِ. 14 وفيات خلفاء بغداد كان من أعجب العجب أن الخليفة المنصور مات وهو حاجٌّ، والمهدي ابنه خرج إلى نواحي الجبل فمات بماسبَذان بموضع يقال له: الرَّذُّ. والهادي بن المهدي مات بِعِيْسَابَاذ بالجانب الشرقي من بغداد، وهارون الرشيد مات بمدينة طوس الايرانية، والأمين أُخِذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي، والمأمون مات بالبَذَنْدُون التُّركية من نواحي المصيصة، والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر وبقية الخلفاءِ ماتوا في مدينة سامراء العراقية، ثم انتقل الخلفاء إلى التَّاج شرقي بغداد، وتعطلت مدينة المنصور منهم، وقتل المغولُ الخليفةَ المستعصم قُربَ باب كلواذى سنة 656 ه/ 1258م، وبذلك انتهى عهد الخلفاء العباسيين في بغداد، ثم انتقلت الخلافة العباسية إلى القاهرة، فاستمرت فيها حتى سنة 1517م، ثم آلت الخلافة إلى العثمانيين في إسلامبول، فاستمرت حتى سنة 1924م. 15 مناقب بغداد حظيت بغداد بإعجاب أرباب الأقلام والبلغاء من الكتاب والشعراء، فمدحوها وعبروا عن مفاتنها ومناقبها، وكتب الخطيب البغدادي تاريخ بغداد، وذيّل عليه ابن النجار وغيره، بغداد وكتب عبدالرحمن بن يوسف بن عبدالرحمن بن الجوزي كتاب مناقب بغداد، وقال بعض الفضلاءِ في مدحِ بغدادَ: بَغدادُ جنة الأرض، ومدينة السلام، وقبة الإسلام، ومجمع الرافدَين، وغرة البلاد، وعين العراق، ودار الخلافة، ومجمع المحاسن والطيبات، ومعدن الظرائف واللطائف، وبها أرباب الغايات في كل فن، وآحاد الدهر في كل نوع. وكان أبو إسحاق الزجاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا، وما عداها بادية. وكان أبو الفرج الببغا يقول: هي مدينة السلام بل مدينة الإسلام، فإن الدولة النبوية والخلافة الإسلامية بها عششتا وفرختا، وضربتا بعروقهما، وبسَقتا بفروعهما، وان هواءها أغْذى من كل هواءٍ، وماءَها أعذب من كل ماءِ، وإن نسيمها أرق من كل نسيم، وهي من الإقليم الاعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة، ولم تزل بغداد موطن الأكاسرة في سالف الأزمان، ومنزل الخلفاءِ في دولة الإسلام. وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب، وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد، فإن فطن بخواصها، وتنبه على محاسنها، وأثنى عليها، جعل ذلك مقدمة فضله، وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحظ، فإن وجد أثراً لمطالعة كتبه، والاقتباس من نوره، والاغتراف من بحره، وبعض القيام بمسائله، قضى له بأنه غُرَّة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذاماً لبغداد، غُفْلاً عمَّا يُحبّ أن يكون موسوماً به من الانتساب إلى المعارف التي يختصّ بها الجاحظ، لم ينفعه بعد ذلك شيءٌ من المحاسن، ولما رجع الصاحب عن بغداد، سأله ابن العميد عنها، فقال: بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد، فجعلها مثلاً في الغاية في الفضل. وقال أبو يَعلى محمد بن الهبارية: سمعت الشيخ الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفَيرُوزاباذي يقول: مَن دخل بغداد وهو ذو عقل صحيح، وطبع معتدل مات بها أو بحسرتها. وقدم عبدالملك بن صالح بن علي بن عبدالله بن عباس إلى بغداد، فرأى كثرة الناس بها، فقال: ما مررتُ بطريق من طُرُق هذه المدينة إلا ظننت أن الناس قد نودِيَ فيهم. وقال ابن مجاهد المقرئ: رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت له: ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال: دَعني مما فعل الله بي، مَن أقام ببغداد على السُّنَّةِ والجماعة، ومات، نُقِلَ من جنة إلى جنة. وعن يونس بن عبدالأعلى، قال: قال لي الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: أيا يونس دخلتَ بغداد؟ فقلت: لا، فقال أيا يونس: ما رأيت الدنيا ولا الناس. 16 مديح بغداد الشعري ضمَّن الشعراءُ قصائدهم مديح بغداد وذمها، وذلك تبعاً لأحوالهم فيها، مدحها الذين سُعدوا فيها، وذمها الذين لم يحالفهم الحظ في رحابها، ومن الشعراء الذين مدحوها ابن زُرَيق الكاتب الكوفي الذي قال: سافَرتُ أبغي لبغدادٍ وساكنِها / مثلاً، قد اخترتُ شيئاً دونه الياسُ / هيهاتَ بغدادُ والدنيا بأجمعها / عندي وسكانُ بغدادٍ هُمُ الناسُ. وقال آخر: بغدادُ يا دار الملوك ومُجتنى / صُنوف الْمُنى، يا مُستقرَّ المنابرِ / ويا جنة الدنيا، ويا مُجتنى الغِنى / ومُنبَسط الآمال عند المتاجرِ. 17 وداع بغداد كان القاضي أبو محمد عبدالوهاب بن علي بن نصر المالكي قد نبا به المقام ببغداد، فرحل إلى مصر، فخرج البغداديون يودعونه، وجعلوا يتوجعون لفراقه فقال: والله لو وجدت عندكم في كل يوم مُدًّا من الباقِلَّى ما فارقتكم، ثم قال: سلامٌ على بغدادَ من كلِّ منزلٍ / وحُقَّ لها مني السَّلامُ المُضاعَفُ / فوالله ما فارقتُها عن قِلىً لها / وإني بشَطَّيْ جانبيها لَعارفُ / ولكنَّها ضاقَت عليَّ برُحبِها / ولم تكنِ الأرزاقُ فيها تُساعِفُ / وكانت كخِلٍّ كنتُ أهوَى دُنوَّهُ / وأخلاقُهُ تنأى بهِ وتُخالِفُ. وقال أبو بكر الخطيب: أنشدني أبو محمد الباقي قول الشاعر: دخلنا كارهين لها فلما / ألِفناها خرجنا مُكرَهينا فقال: يوشك هذا أن يكون في بغداد، وقيل: أنشد لنفسه في المعنى وضمَّنه البيت السابق فقال: على بغدادَ معدنِ كلِّ طِيْبٍ / ومَغنى نزهة المتَنَزِّهِيْنَا / سلامٌ كلَّما جَرحَتْ بلحْظٍ / عيونُ الْمُشتهينَ الْمُشْتَهِيْنَا / دخلنا كارهين لها فلمَّا / ألفناها خرجنا مُكرهينا / وما حُبُّ الديار بنا ولكن / أَمَرُّ العيشِ فُرْقَةُ مَنْ هَوينا.