شهد المجتمع العباسي تحولاً بارزاً على صعيد الحياة الاجتماعية وطبقات الشعب بعد التحول الاجتماعي الذي عرفته الدولة العباسية منذ أن أرسى قواعدها الخليفة العباسي الأول أبا العباس وصولاً الى بناء عاصمة الدولة بغداد على يد الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور. فمن طبقات الشعب في ذلك العصر العرب والفرس وأهل الكتاب وهم النصارى واليهود الذين كانوا يتمتعون بكثير من ضروب التسامح الديني، حتى أننا نرى في بغداد كثيراً من الأديرة، نخص بالذكر منها دير العذارى وكان في قطيعة النصارى على نهر الدجاج، ودير درمايس الذي وصفه الشابشتي في كتابه "الديارات" محاطاً بالبساتين الكثيفة الأشجار، ومقصد الناس للنزهة وانتشاء الهواء، ودير الروم شرق بغداد الذي أشار أحد رهبانه على أبي جعفر المنصور ببناء مدينته في هذا الموضع وكان خاصاً بالنسطوريين. وكان النصارى واليهود يقيمون شعائرهم الدينية في أديارهم وبيعهم خارج بغداد في أمن ودعة، مما يدل على أن الخلفاء العباسيين كانوا على جانب عظيم من التسامح الديني مع أهل الديانات الأخرى. وقد أوجدت الحاجة الى المعيشة المشتركة وما ينبغي أن يكون فيها من وفاق بين مختلف طبقات المجتمع العباسي، نوعاً من التسامح، عزز عملية الانصهار الاجتماعي وانعكس إيجاباً على الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي عرفته الدولة العباسية في المرحلة الأولى من تأسيسها. من هنا لا بد من الوقوف على أبرز مظاهر الحياة الاجتماعية في ذلك العصر ومن أبرزها مجالس الغناء والطرب، قصور الخلفاء والأمراء والوزراء، الطعام، الملابس، المرأة، حفلات الزواج وأنواع التسلية ففي مجالس الغناء والطرب أخذ العباسيون نظام مجالسهم عن الفرس، وقد وصف الجاحظ في كتابه "التاج في أخلاق الملوك" في باب المنادمة، هذه المجالس في عهد "أردشير بن بابك"، فقال إنه كان أول من رتب الندماء وأخذ بزمام سياستهم وأنه جعلهم ثلاث طبقات. ففي الأيام الأولى لقيام الدولة العباسية كان أبو العباس يظهر للندماء في مجلسه ثم احتجب عنهم، كما كان يظهر سروره وابتهاجه لندمائه ومغنيه ويمنحهم العطايا والصلات ويقول: "العجب ممن يفرح إنساناً فيتعجل السرور، ويجعل ثواب من سره تسويفاً وعدة... ولم يظهر أبو جعفر المنصور لنديم قط كما كان لا يثيب أحداً من ندمائه وكان المهدي يسمع الغناء، وقد احتجب المهدي في أول خلافته عن الندماء عاماً كاملاً تشبهاً بأبيه المنصور ثم ظهر لندمائه وأجزل لهم العطايا والمنح. أما الهادي فقد كان يحب الغناء ويطرب له وقد قرب إليه من المغنين ابن جامع الذي حذق فن الغناء وابراهيم الموصلي الذي ضرب في الغناء بسهم وافر. وذكر الطبري أن الهادي كان "يشتهي من الغناء الوسط الذي يقل ترجيعه ولا يبلغ أن يستخف به جداً"، وكان إذا أعجبه الغناء وطرب قال لمغنيه "أحسنت أحسنت" ويكثر له العطاء حتى يبلغ أحياناً ألف ألف درهم. وقد فاق هارون الرشيد الخلفاء العباسيين في ولوعه بالغناء والموسيقى وإجزاله العطاء للمغنين والموسيقيين. وجعل للمغنين مراتب وطبقات على نحو ما وضعهم اردشير بن بابك وأنو شروان فكان ابراهيم الموصلي واسماعيل أبو القاسم ابن جامع وزلزل في الطبقة الأولى. وكان الرشيد يقدر الندماء والمغنين والموسيقيين، حتى إنه لم يجتمع، كما يقول ابن طباطبائي الفخري، على باب خليفة من العلماء والشعراء والفقهاء والقراء والقضاة والكتاب والندماء والمغنين ما اجتمع على باب الرشيد. وكان يصل كل واحد منهم أجزل صلة ويرفعه الى أعلى درجة - ولا غرو فقد ازدهرت الموسيقى في العصر العباسي بفضل اهتمام الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة الذين عملوا على رفع شأنها، وكثيراً ما كانت الأميرات وسيدات الطبقة الراقية في بغداد يشتركن في حفلات موسيقية خاصة. وعكس بناء القصور الخاصة بالخلفاء والأمراء والوزراء، برونقها وحسن منظرها، مظهراً من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية، وتأثر العباسيون في منازلهم بالنمط الفارسي، وساد الترف العباسيين بازدياد العمران، فكانت العمائر ببغداد وغيرها من أمهات المدن مؤلفة من طبقات عدة، كما كانت غرفها تزدان بالمناضد الثمينة والزهريات الخزفية المرصعة والمذهبة التي بلغت حد الإتقان. وكانت قصور الخلفاء تشتمل على دور واسعة وقباب وأروقة وبساتين ومسطحات مظللة بالأشجار" ومن هذه القصور قصر الذهب الذي بناه أبو جعفر المنصور في وسط بغداد" وقصر الخلد الذي بناه على شاطئ دجلة الغربي تجاه باب خراسان وتأنق في بنائه وتجميله حتى سمي "الخلد" تشبيهاً له بجنة الخلد وبنيت حوله المنازل فأصبح القصر وما حوله يعرف بالخلد. كما بنى الرشيد على دجلة قصراً تأنق في تجميله وزينه بأفخر أنواع الزينة وأقام فيه أساطين الرخام، وبنى الخليفة الواثق في مدينة سامراء قصوراً عدة منها قصر الهاروني، كذلك كانت قصور الأمراء ورجال الدولة تكتنفها الحدائق الغنّاء. وقد اعتنى الخلفاء العباسيون عناية كبيرة بتنظيم بغداد ونظافة شوارعها وطرقها فكانت الرحاب تكنس كل يوم ويحمل التراب خارج المدينة. ورأى المنصور أن وصول الروايا على ظهور البغال الى قصره لا يتفق وأبهة مدينته، لذلك أمر بتوصيل الماء إليه من نهر دجلة. كذلك اعتنى العباسيون بتنويع الأطعمة، وقد حفلت مائدة الرشيد بألوان الطعام، حتى قيل إن الطهاة كانوا يطهون ثلاثين لوناً في اليوم. ولم يقتصر إسراف العباسيين في الطعام على الخلفاء وحدهم، بل تعداهم الى الأمراء وكبار رجال الدولة. وبلغت قيمة ما ينفقه الرشيد على طعامه عشرة آلاف درهم في اليوم، أما نفقة المأمون في اليوم فكانت ستة آلاف دينار، ينفق منها مبلغاً كبيراً على مطابخه. أما لباس الخليفة العباسي في المواكب فكان القباء الأسود أو البنفسجي الذي يصل الى الركبة وكان مفتوحاً عند الرقبة، وكان الخلفاء والقضاة يلبسون العمامة والطيلسان، مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم كما كانوا يلبسون قلنسوة طويلة حولها عمامة ذات لون أسود وهو شعار العباسيين، وكان الأمراء والنبلاء يقلدون الخلفاء في ملابسهم، وقد تطورت ملابس النساء في العصر العباسي تطوراً ظاهراً عما كانت عليه في العصر الأموي، إذ اتخذت سيدات الطبقة الراقية غطاء للرأس البرنس مرصعاً بالجواهر، محلى بسلسلة ذهبية مطعمة بالأحجار الكريمة، ويُعزى ابتكار هذا الغطاء الى "علية" بنت المهدي وأخت الرشيد. ولم يكن وضع المرأة في هذا العصر أقل شأناً، فلقد تمتعت المرأة بقسط وافر من الحرية وتدخلت بعضهن في شؤون الدولة، كالخيزران زوج الخليفة المهدي وأم الهادي والرشيد، كما تمتعت السيدة زبيدة زوجة الرشيد وأم الأمين بنفوذ كبير في الدولة، وكذلك ساهمت المرأة في هذا العصر في الحروب، كما بلغت المرأة في هذا العصر مبلغاً عظيماً من الثقافة حتى كانت تنظم الشعر وتناظر الرجال في عهد الرشيد والمأمون. ويقول نخلة المدور في كتابه "حضارة الإسلام في دار السلام" إن "السيدة زبيدة زوج الرشيد كانت تصنع أعمالاً تفوق مقدرة الملوك، كمثل اصطناعها بساطاً من الديباج جمع صورة كل حيوان من جميع الأجناس". وعكست احتفالات حفلات الزواج مظهراً هاماً للحياة الاجتماعية إذ كان العباسيون يعنون عناية فائقة بها، ويتجلى إسراف خلفاء العصر العباسي الأول وبذخهم بما فعله الخليفة المهدي عند زواج ابنه هارون بالسيدة زبيدة، فقد أقام يوم زفافها وليمة لم يسبقه إليها أحد في الإسلام، ووهب للناس في هذا اليوم أواني الذهب مملوءة بالفضة وأواني الفضة مملوءة بالذهب والمسك والعنبر، وزينها بكثير من الحلي والجواهر... وحفلت أنواع التسلية التي ظهرت في ذلك العصر بظهور أنواع من الرياضة التي شاعت في أيامنا هذه كلعبة الكريكيت والتنس، كما كان الناس يتلهون في داخل المنازل بلعبة الشطرنج التي أدخلها الرشيد ثم انتشرت بين العرب وحلت محل الورق والزهر، كما كان النرد من الألعاب التي اعتاد الناس أن يتلهوا بها في العصر العباسي الأول، وكذلك الرمي بالنشاب، والصيد بالبندق ولعبة الجوكان والصولجان والجريد، وكان سباق الخيل من أجمل أنواع التسلية عند الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة. وروى المسعودي حكاية تبين لنا مبلغ اهتمام الرشيد بسباق الخيل قال: "وأجرى الرشيد الخيل يوماً بالرقة، فلما أرسلت، صار الى مجلسه في صدر الميدان حيث توافى عليه الخيل لا يتقدم أحدهما صاحبه، فتأملها فقال: فرسي والله، ثم تأمل الآخرة فقال: فرس ابني المأمون. فجاء بحنكان أمام الخيل وكان فرسه السابق، وفرس المأمون ثانية فسرّ بذلك، ثم جاء الخيل بعد ذلك". وقد كلف هولاء الخلفاء بالصيد وتأنقوا في إعداد العدة له وقلدهم في ذلك الأمراء حتى إنهم أخذوا يصنعون نصال سهامهم من الذهب، كما عنوا باستخدام الصقر والباز في الصيد، وعنوا بتربية الكلاب السريعة العدو. * أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية.