اتفقا على اللقاء ظهر هذا اليوم. انتظرها طويلاً، وكانت قوات الامن قد نجحت في تفريغ الميدان وتفريق التظاهرة. أقاموا صفاً طويلاً نحو الطريق الدائري، وأغلقوا تماماً الشارع الرئيس المؤدي الى وسط المدينة. اتصلت على الموبايل، وكان صوتها مضطرباً وعصبياً. - انهم يمنعونا. - اركني السيارة في "الباركينج" وتمشي على قدميك. - هل ستنتظر كل هذه المدة؟ - أنا على المقهى المواجه للمشهد الحسيني. - ما اسمه؟ - اسألي عن مقهى السنوسي. جاءت لاهثة، ووقفت تنظر بحيرة في انحاء الساحة التي لا ظل لها، رآها وهي تخرج الموبايل من الحقيبة، مررت اصابعها بعصبية على الارقام. - أنا أمام المشهد. - وأنا على يسارك تماماً، انني اراك بوضوح. أقبلت ببسمة مرهفة على شفتين نحيلتين مررت عليهما لونا بنياً داكنا يليق بالمناسبة، وكانت قد جمعت شعرها القصير في ضفيرة وحيدة، مدت يداً ضاجة بأساور فضية عليها فصوص حمراء وخضراء وفيروزية، وتدلى من اذنيها الصغيرتين قرطان فضيان كبيران على هيئة مخرطة ملوخية. جلست الى جواره تحت ظل الجدار المرتفع تضغط كفيها الجافتين تبرز منهما اصابع هشة، بدت سلامياتها قطعة قطعة كما بدت اوردة خضراء تنتفض لدفق الدم الذي يدوم في قلبها الرهيف. - شاي بنعناع؟ - طبعاً. وانحبست الضحكة التي لم تدم طويلاً. كانت حزينة لأنها لم تلحق بالتظاهرة، قالت: غلقوا شوارع وسط البلد، فانتظرنا مدة، قلنا ربما تقدمت التظاهرة نحو ميدان الاوبرا ولكن القادمين من جهة الازهر اكدوا انهم قد فضوها ولم يخرج احد الى الشارع. - أنا نفدت بجلدي، تصنّعت البراءة وكأن الامر لا يعنيني بالمرة. سألني الضابط عن وجهتي قلت له أنا من سكان هذا الحي، تألقت عيناها الصغيرتان، وأدامت التحديق في وجهه بإعجاب. - ليتني كنت معك. - أنت معي الآن. -لا ، يا حرام كنت اريد الاشتراك مثلك. - أنا لم اشترك، كنت في الخارج. - يا حرام... لازم نشترك بأي وسيلة. رفعت الكوب الى شفتيها بحرص، رشفت رشفة خفيفة من دون صوت. - لا... يا حرام لا بد من فعل ايجابي. - كيف وقد عاد الجميع الى بيوتهم. - عندي فكرة. - ما هي؟ - نتبرع بالدم. - لا بأس. - هيا بنا. وتركت الكوب يطلق بخاره الذي يحوم حول اوراق النعناع الريانة الموزعة على حوافه، دفع الحساب للجرسون، وسعى وراءها بهمة. كان لا بد من قطع المسافة الطويلة حتى الباركينج الرئيس في ميدان الاوبرا ثم يكملان بالسيارة الى شارع رمسيس، بعدها ينحرفان قليلاً في اتجاه الجلاء حيث الهلال الاحمر. المكان ساكن تماماً عدا تلفزيون معلق بدعامات سود في ركن مرتفع، والكراسي البلاستيكية الموزعة فارغة جميعها، والكونتر الزجاجي يطل منه رأس ممرضة سمينة تضع سماعة التليفون على كتفها الايسر، وتكتب بيدها اليمنى ما يملى عليها... لم تحفل بدخولهما، وقفا طويلاً امام الفتحة المقوسة في الزجاج حين انتهت من المكاملة نظرت اليها باندهاش. - نعم؟ قالت لها: نريد التبرع بالدم لأطفال فلسطين. مطت الممرضة شفتيها، واشارت نحو الممر الطويل المضاء بنور الفلورسنت. - الدكتور عصام هو المسؤول. تقدما متجاورين يطلان برأسيهما على الغرف المفتوحة والفارغة من البشر حتى عثرا على طبيب قصير القامة يجرجر تحت قدميه معطفاً ويضع سماعة على قفاه تتدلى حتى تصل الى ما بين فخذيه. اقبلت نحوه بانحناءة مهذبة وقالت في ما يشبه الرجاء. - لو سمحت حضرتك نريد التبرع بالدم لأطفال الانتفاضة. بادلها تهذيباً بتهذيب وانحنى أمامها حتى لامست السماعة بلاط الارضية. - نشكرك على مشاعرك الوطنية الطيبة. قال للطبيب: لم نأتِ من أجل تلقي الشكر بل من أجل التبرع. لم يلتفت اليه بالمرة وواصل حديثه اليها: لدينا ما يكفي ويزيد عن الحاجة. - يا حرام، ولماذا لم يُرسل اليهم هناك؟ - لم تأتِ الأوامر بعد بإرساله. - لو سمحت حضرتك لا بد من أن أشارك بأي شيء. - تعالي بعد أسبوع، ربما نكون قد أرسلنا الكمية الموجودة. - خذ أي كمية مني، لو سمحت. - ليس لدي مكان لإضافة المزيد. - يا حرام... يا حرام. أخذها من كتفيها ليتجها نحو الباب، قال ليهدئ من روعها: خلاص نأتي بعد اسبوع. - يا حرام. دخلت السيارة، وقبل أن تضع يدها على المقود، سحبت منديلاً ورقياً من العلبة، ومسحت دموعاً حقيقية، ثم سحبت آخر لتفرك به طرف أنفها الذي تدفق منه دم مفاجئ. أمال رأسها الى الوراء، وسد فتحتي انفها بالسبابة والإبهام. قال لها: تنفسي من فمك حتى يتوقف النزيف.