ارتقى سلم الأتوبيس وهو يدفع الآخرين برأسه وكتفيه وقبضتيه يميناً وشمالاً. ما إن لمح مكاناً شاغراً حتى هرول نحوه. حط بدنه على المقعد بفورة من الشعور بالزهو والانتصار. المشوار طويل يحتاج راحة. انتبه إلى أنه قاعد بجوار شابة ناحية النافذة، بيدها موبايل وباليد الأخرى تلوح لشخص على الرصيف. قدر بنظرة خاطفة أنها تجاوزت العشرين. ممتلئة. عيناها واسعتان. شفتاها مكتنزتان كحبتي فراولة. حين فطن إلى جمالها ضمَّ ساقيه وركبتيه إلى بعضهما. يجب أن تشعر بحرصه عليها وباحترامه الحدود. على أي حال الحمد لله على الجلوس. أدخل إصبعه تحت ياقة القميص يجفف عرق الصيف. بالطبع كان الأفضل لو أني وجدت مقعداً قرب رجل مسن أو شاب لأن ملامسة أي امرأة في مواصلات عامة قد تؤدي إلى خناقة تبدأ بصوت مكظوم: «لو سمحت لم نفسك يا محترم»، وتنتهي بعلو صوت يدرك مسامع الأتوبيسات المحاذية: «تتعرضون لبنات الناس. تشمون أي قطعة لحم. ولا تستحون أبداً يا أوباش»! يا نهار أسود بلغت حد «أوباش»! تزحزح بفخذه مسافة بعيداً عن فخذ الفتاة. ضمَّ ساقيه بقوة أشد حتى أحس بركبتيه ترتجفان. أعوذ بالله. الباب الذي يأتيك من الريح سده واستريح. هز رأسه بأسف. أيعقل أن يتحرش بها رجل كبير السن مثلي؟ ثم أنها في سن ابنته. هل أصابتها لوثة؟! مؤكد. تحرش مرة واحدة؟! وهي لو تعلم عدد الأطباء الذين يتردد عليهم وأنواع الأدوية التي يتناولها بانتظام ما قالت تحرَّش قط. حقن فيتامين للأعصاب. كالسيوم لهشاشة العظام. فوار للكلى. أسبرين لسيولة الدم. بخاخة ربو. التحرش بالبنات بحاجة إلى شباب والشباب انقضت سنواته. الآن يعيش وحده. لا زوجة ولا ولد. يحيا على ذكريات وصور وأصوات الراحلين. يعزي نفسه بأنه سوف يأتنس بصحبتهم عندما ينتقل إلى جوارهم، وحينئذ لن يعود وحيداً. والآن في سنه وفي ظروفه هذه تظهر له شابة تتجرأ عليه، تنهره بعلو صوتها وتقول «تحرش»؟! أهذا بدلاً من أن تراعي أنه متعب ومنهك فتقول له: تفضل حضرتك اجلس براحتك؟». أقبل محصل التذاكر. توقف أمامه وطرَق خشبة بطرف قلم. عبَرَ شاب فاختل توازن المحصل ومال عليه بثقله. حينئذ لامس كتفه غصباً عنه كتف الفتاة لمسة خفيفة لا تحتسب. اعتدل واختلس نظرة إليها. سارحة بأفكارها بعيداً؟ هل هذه هيئة السرحان؟ أم أنه الاستياء؟ تختزن السخط. تجتره. تقول لنفسها: «لا يخجل، وكلما ارتجت العربة مال عليَّ بكتفه هذا العجوز». معقول! بدلاً من أن تقول له: «واضح أنك مرهق. هل أنت بحاجة إلى شيء؟ أتحب أن أوصلك إلى البيت؟! تقول «مالَ بكتفه العجوز»! إلى هذه الدرجة تصل القساوة؟ لكن هذه قلة أدب لا يمكن السكوت عليها. إن لم أواجهها فستظن أنها على حق في ما ذهب إليه خيالها. ليس بالحتم أن أعنفها بالزعيق أو أسبها. يكفي إحراجها بالذوق واللطف: «عيب عليك. أنا رجل كبير ومحترم. كيف تظنين فيَّ السوء؟». أقول هذا مبتسماً بحنان على مرأى من الركاب. لكنها تتمادى: «دعك من حكاية أنك رجل غلبان. لو كنت تحترم نفسك ما قمت بذلك أصلاً. الحمد لله أن الركاب كانوا شهوداً على أنه خاطبها بكل أدب. من حقه الآن، أن يرد لها الصاع صاعين وأن يظهر أن لطفه ليس ضعفاً: «للأسف أهلك لم يحسنوا تربيتك». قالت وقد فنجلت عينيها: «والله ما أتركك إلا في قسم الشرطة. هم يتقنون معاملة أمثالك». قالتها وفزَّت واقفة. نهضَ هو الآخر، ترنَّح وهو يلوح للركاب بيده: «جميعكم شهود. لقد خاطبتها بمنتهى الأدب». فاجأته بأن لكَزته بقبضتها في كتفه: «تتحرش بامرأة يا قليل الأدب؟!». التفت برقبته إلى الركاب يقول بأعلى صوت: «هي مَن بدأت استخدام يديها وأنا خاطبتها باحترام». انتبه فجأة إلى الفتاة وهي تنهض من جواره. تطلَّع إليها مأخوذاً. ابتسمت له. تمتمت برقة وهي ممسكة بقلادة فضية تؤرجحها على رقبتها: «بعد إذنك. أنا نازلة». غمَرته من عذوبتها سكينة كالبلسم. زحزح ساقيه جانباً محنياً رأسه بابتسامة تائهة. خرجت من حيز المقاعد. اقتربت من باب العربة. استدارت إليه من هناك ببسمة مودة وهبطت. شيَّعها ببصره من النافذة وهي تعبر الشارع: «لا تَشَاجرنَا ولا تشاتَمنا. سبحان الله! واضح أنها بنت مؤدبة من عائلة محترمة. مرَّ كل شيء بسلام ولله الحمد، لكن لو أنها كانت قد حسبت أنني احتككت بها عمداً وقالت: «عيب يا محترم لِم نفسَك»، لكان لها معي شأن آخر. لكن الحمد لله. بنت طيبة من دون شك. تابعها ببصره وهي تقطع الشارع إلى أن بلغت الرصيف الآخر، وهناك لم يظهر له سوى رأسها يلوح ويغيب في الزحام حتى اختفى. لوَّح لها بكفه مودعاً مرة، ومرة أخرى. لو أنه استرعى انتباهها والتفتت نحوه: «لا تؤاخذني. تبدو مرهقاً، وتتنفس بصعوبة. ما بك؟ هل تحتاج أي مساعدة؟ أي شيء؟»، لكان ذلك شيئاً جميلاً جداً في يومٍ طويل حار.