يخطئ من يعتقد بأن شهر رمضان الكريم يخلو من السياحة فالعكس هو الصحيح، لكنها سياحة من نوع خاص تمتزج فيها روحانيات الشهر ببهجة الافطار، وتجمع المسلمين حول مائدة إفطار وسحور واحدة، والصلاة في المساجد، وتتبع الساحة الدرامية، وهضم كل ذلك بكوب من الشاي بالنعناع الأخضر. وغالبية السياحة في هذا الشهر الفضيل إما سياحة داخلية، أي تعتمد على المصريين أنفسهم أو سياحة عربية وإسلامية، إذ يتوافد كثيرون على مصر وتحديداً القاهرة للمشاركة في الاستمتاع بطبيعة رمضان. وتتركز أوقات السياحة بين ساعتي الافطار والسحور. في حال لم توجِّه أو توجَّه لك الدعوة لتناول طعام الافطار، ليس هناك ما هو أفضل من التوجُّه الى ميدان الحسين وخان الخليلي لمشاركة الآلاف في عشرات الموائد المتراصة لاستقبال الصائمين. وفي هذه المنطقة في وسط القاهرة يمكن للصائم أن يتناول جرعة مكثفة من التاريخ وعظمته من خلال مئات من المباني التاريخية المحيطة، والتي لا يزال أغلبها يحتفظ بتصميماته الاصلية وأسلوب تشييده المتميز. ولائحة الاختيارات كبيرة ومتنوعة في هذا المربع الصغير الذي يتحول في الساعات القليلة التي تسبق مدفع الافطار الى خلية نحل لا تهدأ إلا مع صوت المؤذن منادياً "الله أكبر" لصلاة المغرب. وتتراوح المأكولات المقدمة في مطاعم الحسين وخان الخليلي بين الفول والفلافل، والكباب والكفتة والفطائر الشرقية والبيتزا، بالاضافة الى المأكولات المصرية من بامية وملوخية ومسقعة وغيرها. وجرت العادة في تلك المنطقة السياحية الشعبية التي يشع كل ركن فيها بعبق رمضان على ان تمتد الموائد والمقاعد أمامها، فتتحول ساحاتها الى ما يشبه التظاهرة الغذائية. وبغض النظر عن نوعية الطعام التي تفضلها، فعليك التوجه الى الحسين قبل موعد الافطار بوقت كاف كي تؤمن لنفسك مقعداً تضمن به حصولك على الافطار. ومن أشهر المطاعم في المنطقة: كافتيريا خان الخليلي الواقعة على بعد 40 متراً من مسجد الحسين، والدهان المشهور بالكباب المصري، و"ايجيبشان بانكاك هاوس" Egyptian Pancake House لهواة الفطائر المحشوة بالمقانق والجبن واللحوم وغيرها. وإذا كنت تملك قدراً من الجرأة، فيمكنك ان تصل الى حي السيدة زينب لتشهد وتشعر بالاحتفال الحقيقي بشهر رمضان، حيث يزين السكان شوارعهم الضيقة بزينات ورقية رخيصة لكن مبهجة، وتعلو الفوانيس غالبية شرفات المنازل، ولا تخلو ناصية شارع او زقاق من باعة المخللات والخبز ومشروب العرقسوس، وجميعها من بديهيات موائد رمضان الشعبية. ويمكن تناول طعام الافطار هنا حيث الاطعمة الرخيصة لكن الشهية، فهناك "الرفاعي" احد ملوك الكباب والكفتة. كذلك "الجحش" ملك الفول والفلافل دون منازع، كل ما عليك هو إتباع اللافتات المرسوم عليها صورة "الجحش" من ميدان السيدة زينب الى ان تصل. ولعشاق الفطير ايضاً يوجد "حرم زينب" الذي يقدم فطائر شهية بنصف الثمن الذي تباع به في المحلات الموجودة في مطاعم وسط المدينة. ونعود الى الحسين حيث تبدأ المتعة الحقيقية بعد الانتهاء من تناول طعام الافطار. والخطوة الاولى تكون مع كوب الشاي ذي النعناع الاخضر. وإذا وجدت أن لا موطئ لقدمك في مقهى "الفيشاوي" المشهور فلا تبتئس لأن البدائل لا أول لها ولا آخر. وأغلب المقاهي في الحسين وخان الخليلي يقدم لائحة طويلة من المشروبات الرمضانية الساخنة والباردة عقب الافطار وحتى قبل موعد أذان الفجر بقليل. ولو لم تكن قد أثقلت على معدتك في وقت الافطار، يمكنك ان تحتسي كوباً من السحلب الذي يعد وجبة دسمة، لا سيما في الامسيات الباردة. وعلى رغم التحذيرات الكثيرة من مغبة "الشيشة" او النرجيلة، إلا أن كثيرين يتجاهلون كل ما يقال عنها من أضرار صحية وبيئية، وتتحول منطقة الحسين وخان الخليلي بعد المغرب الى مقهى كبير يتناول فيه الجميع الشيشة، ولو على سبيل الدلع. ومن المناطق التي تتحول في هذا الشهر الى ما يمكن ان يطلق عليه "سياحة رمضانية" منطقة القلعة، والقلعة هي مركز أي زيارة يقوم بها السائح الى القاهرة الاسلامية. وفي ميدان صلاح الدين - اسفل القلعة - الذي لا يخلو في أي شهر من الشهور من الأراجيح والخيام التي تستقبل رواد الموالد المختلفة التي تقام غير مرة في العام الواحد، يمكن للسائح الرمضاني أن يفوز بإطلالة اخرى على رمضان الشعبي، والمكان الأفضل لذلك هو المقهى المتاخم لمسجد السلطان حسن. والعيب الوحيد في هذا المقهى هو المبالغة في أسعار المشروبات، لكن المتعة التي يحصل عليها الرواد لا توازيها متعة. ومن هذا المقهى تشاهد مسجدي الرفاعي والسلطان حسن والمصلين، والاطفال المحتفلين برمضان، وباعة الحلويات الشرقية. ونضمن لك أن كوب الشاي الذي تحتسيه من مقعدك في هذا المقهى سيتيح لك فرصة ركوب عجلة الزمن الذي يعيدك الى رمضان في مصر قبل 30 أو 40 عاماً، إذا استثنينا الشاشة التلفزيونية العملاقة التي تعرض أبرز مسلسلات وبرامج رمضان في المقهى. تلك الشاشات، باختلاف عدد بوصاتها، تكاد تكون موجودة في أغلب مقاهي وخيام رمضان في القاهرة، لكننا ننصح الزائر المحب للفنون بالبحث عن شيء مميز. فدار الاوبرا المصرية تقدم برنامجاً متخماً بالاغاني والموسيقى ذات الطابع الرمضاني. لكننا ننصح ب"محكى القلعة" الذي يقدم عروضاً شيقة جداً أيام السبت والاثنين والاربعاء للموسيقى الصوفية. وينتهي يوم السياحة الرمضانية مع موعد السحور الذي تتكرر فيه مشاهد الافطار مع الموائد المتراصة والمشروبات المنعنعة ولا تتوقف إلا مع أذان الفجر.