يمنحنا الكاتب العراقي عبد الأمير الركابي في روايته الأولى "كما نحب ونشتهي" أول مفتاح لقراءة الرواية في التصدير القصير الذي يسبق النص والذي يقول فيه: "على فرض أن الناس سيكونون بأجساد متعددة وذاكرات كثيرة ستكون هنالك بداية أخرى... هذه بعض من إشارات فقيرة لما سيراه الباقون والمبعوثون وقتها، عسى شجون الغيب تصبح قريبة، ونكف عن استحضار أزمان مملة، تزداد قتامة كلما اقتربت من الزوال". هذه الفرضية، وبغض النظر عن اللغة المصاغة بها تحيلنا إلى نوع محايث لقضية تناسخ الأرواح و"تخليق" الأجساد بواسطة علم الجينات. ويبدو واضحاً أن الكاتب أراد القول إن افترضنا أن الإنسان واحد - وليس الناس جميعاً، فهم فعلاً بأجساد متعددة وذاكرات كثيرة - سيكون متناسخاً في أجساد متعددة وذاكرات كثيرة فستكون هناك بداية أخرى، يمكنني أن أفترض من خلال السياق أنه لا ينشد بداية أخرى وحسب بل بدايات أخرى لعالم آخر مختلف في العمق والنوع عن العالم المألوف الذي تسيره وتديره قوة فوقانية مفارقة هي الدولة. ينطلق الكاتب من حيثية علمية تقول بمكانية استغلال علم الجينات والعلوم الحديثة المحايثة أو المتفرعة من هذا العلم وصولاً إلى درجة تتمكن بها السلطة المسيطرة والمديرة للمجتمع من التصرف والتعامل مع الذاكرة الإنسانية بغرض الحذف والتعديل والخزن والزرع في أجساد جديدة. هذا الإمكان يسميه الراوي عملية "التحول" ويعني به إمكان إعادة إطلاق الذات الإنسانية بذاكرتها في جسد وعالم جديدين. إنه لا يشتغل على هذه النواة مباشرة بما يجعل عمله ضمن إطار رواية الخيال العلمي مباشرة، بل هو يقارب هذه النواة أو لنقل يستلهمها في تقديم عمل روائي يتميز بالغموض والتعقيد الشديد في التركيب المشهدي إلى درجة تجعل الرواية أقرب إلى مخطط مكثف لرواية أكبر وأكثر سعة. هذا من جهة الافتراض الأساس الذي تنطلق منه الرواية، أما هدفها الرئيس فيمكننا رصده كمحاولة لتقديم تصور سردي على هيئة متاهة نثرية تكشف وتستكشف تلك العوالم المنشودة لتصبح على مقربة من أسرار أو "شجون" الغيب. فإلى أي مدى تمكنت الرواية من تحقيق هدفها المعلن هنا بكثير من الثقة والغموض على ما في هاتين المفردتين من تنابذ انفعالي ومضموني؟ باكراً جداً، ومنذ السطور الأولى يلجأ الكاتب إلى أسلوب التلغيز والتنكير كعتبة لبناء متاهة نثرية مخطط لها بعناية ستفلتُ لاحقاً من الضبط والمتابعة الدقيقة التي سيجد القارئ نفسه ملزماً بهما لمواصلة التقدم في متن الرواية. فمنذ السطر الأول نلتقي بالشخصية المحورية في الرواية كضمير غائب يوم آخر سيمر عليه وهو يلعب تلك اللعبة مع الأشياء... ولنلحظ عرضاً ورود سين الاستقبال في الفعل يمر والذي يحيلنا إلى دلالات مضمونة تتعلق "بمستقبل جرى وتحقق" روايةً و"تتعلق به وهو يجري حاضراً ومستقبلاً". ولو كان الأمر يتعلق بتقنية أسلوبية بسيطة ومألوفة لكنا التقينا وتعرفنا إلى هذا "الهو" في الفقرة أو الفقرات التالية، غير أن الصفحات تترى وينتهي الفصل ولن نتعرف اليه، وإنما - وهذا ما يزيد الشعور بالقصدية والغموض - نتعرف على حبيبته نورا وما زلنا في بدايات المتاهة. ليس هذا الفصل استثناء بل إن التلغيز والتنكير يحكمان النص الروائي من بدايته إلى نهايته. وبالموازاة مع ذلك، فإن الكاتب يلجأ إلى ما يشبه عملية تقطير المعلومات الهوياتية خصوصاً قطرةً قطرةً، معطياً الأهمية ليس لهوية الشخصية الروائية سواء كانت محورية أو ثانوية بل للحدث وفضائه السردي وللمضامين العميقة للعمل الروائي ككل. صحيح ان القارئ سيتعرف - وإنْ بصعوبة - إلى الشخصية المحورية مع التقدم في قراءة النص الروائي وتحديداً في الفصل السابع باسم "ابن الماء" والذي هو في الحقيقة أكبر دلالياً من اسم علم عادي وأصغر من رمز عام، وكأن الكاتب أراد - وبشيء من الإصرار - الإبقاء على شيء من التنكير على شخصيته وتميزها باسم ذي دلالات قوية تحيلنا إلى البيئة الجغرافية الحضارية النهرية التي تدور فيها أحداث الرواية ليكون "ابن الماء" أقل من اسم شخص عادي وأكثر من رمز محلي لناس البيئة المقصودة. وما دمنا في الفصل الأول فيمكننا القول إن هذا الفصل سيبقى النص الفرعي الأكثر إتقاناً وعذوبة وجِدة ولا تمكن مقاومة الإغراء بإعادة قراءته مراراً والتوقف خصوصاً عند تلك المشاهد الأشبه بخيالات وأطياف فردوسية فالتة من قبضة الغيب. تحديداً تمكن الإشارة في هذا الفصل إلى مشهد ظهور أو اختفاء الثعلب الأبيض اثناء مسيرة الشخصية الروائية المحورية "ابن الماء" في بستان الفاكهة والمشهد الآسر الآخر للحبيبة وهي تسبح في ألق مياه النهر الزرقاء ثم تجعل ذراعيها على هيئة دائرة في الماء فيما أسماك الحمري تقترب منها مزيداً من الاقتراب لدرجة أنها تداعب نهديها وسيتكرر هذا المشهد لاحقاً في فصل آخر. إن أية محاولة لتفكيك بنية الرواية بغية الوصول إلى فهم أو مقاربة صحيحة لأجوائها ومضامينها ومعانيها العامة لن تكون سهلة وممكنة ما لم نقرأ ونتمكن من فهم شبكة أو حركة الشخصيات المحورية فيها، فهذه الرواية لا وجود للبطل الرئيس أو الشخصية المحورية الأولى فيها مع أن هناك من سيعتبر أن "ابن الماء" هو ذلك الشخصية وقد يكون محقاً في شكل جزئي لسبب بنيوي مهم هو أن أهمية الشخصيات من ناحية الفعل والأداء والحضور تكاد تكون متساوية أو متقاربة، مما يجعلنا نميل إلى اعتبار جميع الشخصيات وحتى تلك التي تمر في المتن الروائي مرور البرق هي البطل الفعلي لهذا العمل المكتسب جدة لا تضارع في هذا المضمار تحديداً. سيكون من المفيد الإشارة إلى أن بعض الشخصيات تظهر في أدوار "شخصيات" عدّة، "فابن الماء" ذاته يظهر في صورة العاشق وهو يسلم رسالة غرامية إلى حبيبته الطالبة في المدرسة ثم يظهر أو يتلبس شخصية الشاعر الشعبي العراقي المشهور الشيخ زاير والحادثة الفعلية التي كان الشاعر فاعلها وبطلها حين ارتجل موالاً شعبياً في حضرة بائعة الألبان الحسناء وهو موال معروف على نطاق واسع في العراق، والصورة الثالثة التي يظهر فيها "ابن الماء" هي صورة الشخص الذي يتبع الموظفة نورا إلى محل عملها. نورا ذاتها تظهر في صور ثلاث مختلفة أولها في دور الموظفة في الدائرة الرسمية المشرفة على عملية التحويل للشخصيات البشرية وحبيبة "ابن الماء"، وفيما بعد ستظهر في أدوار أخرى منها دور الطالبة المعشوقة. فالموظفة وأخيراً بائعة اللبن الرائب. ويمكن استعمال هذا التوصيف السريع لهاتين الشخصيتين كمفتاح أول لفهم اللعبة الشكلانية التي أراد من خلالها الكاتب توضيح مضامين العمل. غير أن المشكلة الحقيقية ستبقى تواجه القارئ الذي اعتاد على نصوص الأعمال الروائية التقليدية لأنه سيكون في إزاء نص جديد في أمرين: - الشكل القائم على اعتماد أكثر من طبقة زمنية في الرَوي وتقنيات حديثة أخرى. - والمضمون حيث تقارب هذه الرواية وللمرة الأولى على حد علمنا موضوع الاستنساخ والذاكرة ضمن تشكيلة معان ومضامين فرعية. وسيكون من النافل القول إن عملاً كهذا سيحتاج إلى قارئ نوعي، الأمر الذي يناقض الرسالة الجوهرية الأولى التي أرادت الرواية البوح بها والمهتمة أساساً بالإنسان العام أو الجمهور العادي ضحية الاغتراب والتشيؤ الناتجين من سلطة مفارقة وفوقية تمارس ضرباً جديداً من السيطرة والهيمنة والإدارة غير المسبوقة في التاريخ البشري. هنا تحديداً نضع اليد على المرتكزات لهذا العمل الروائي والقائم على ثيمة جديدة كل الجدة على السردية العربية كما ألمحنا قبلاً ولا نبالغ إن قلنا والعالمية أيضاً. ويحاول الكاتب من خلالها مقاربة أو استشراف شكل جديد ومعاصر من السطوة الفوقية المدعومة بالعلم الحديث لكي يعيش الإنسان "كما يحب ويشتهي" لنكتشف في الختام انه مجرد إنسان مستلب ومُشَيّأ تمّ تحويله شيئاً حياً شبيهاً بالإنسان الحر، لكنه يعيش لا كما يحب ويشتهي بل كما تحب السلطة المفارقة للشرط الوجودي الإنساني وتشتهي.