لم يعد خافياً ان العجز في كل من الميزان التجاري الأميركي، والموازنة العامة، هما المتسببان الرئيسيان لهبوط قيمة الدولار في الأسواق العالمية. ولذلك، لما أبدى الميزان التجاري الأميركي تحسناً نسبته نحو 10 في المئة خلال شهر نيسان أبريل الماضي، أظهر سعر التبادل للعملة الأميركية تحسناً لم يشهد مثله منذ أربعة اشهر. وتقول الأرقام إن ميزان التجارة الأميركي شهد هبوطاً في العجز، أو الفارق بين الصادرات والمستوردات السلعية، قدره 5 بلايين دولار خلال شهر نيسان من هذا العام، ولذلك تحسن سعر الدولار امام منافسيه الأساسيين، وهما اليورو والين. ومن المعلوم ان الولاياتالمتحدة تصدر الدولار على اساس سمعتها الاقتصادية، وليس على أساس الغطاء الذهبي كما كانت الحال عليه خلال الفترة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1972. وقد أوقف الرئيس نيكسون آنذاك قابلية تحويل الدولار الى ذهب بعدما تناقص مخزون الذهب الأميركي تناقصاً كبيراً بفعل ميزان المدفوعات المتدهور آنذاك. وبعدما خفضت أميركا سعر الدولار مقابل الذهب مرتين خلال عامي 1971 و1972، اضطرت بعدها الى رفع اسعار الفوائد التي وصلت الى خمسة عشر في المئة أحياناً دعماً للدولار، وعالميته، وقبوله كعملة دولية قابلة للتداول. ومع ان التحسن الذي طرأ خلال الشهر الماضي مهم في انه غيّر مساراً درج عليه الميزان التجاري في التراجع، الا انه لم يبعد شبح الخوف عن احتمال تراجع الدولار. وحتى في ظل هذا التحسن، فإن العجز في الميزان التجاري الأميركي سيبقى في حدود 600 بليون دولار سنوياً. وكذلك، فإن الانباء عن التحسن في عجز الموازنة العامة ما يزال غامضاً وغير مؤكد. ويعتمد التحسن في الميزان التجاري الأميركي على أمرين أساسيين: الأول هو سعر النفط، الذي بدأ يتراجع في ظل هدوء الطلب الصيفي عليه، وكذلك بسبب هبوط المستوردات الأميركية السلبية من دول مثل الصين، لأن اسعارها بالدولار قد ارتفعت في الاسواق الأميركية ولكن هذه الظروف ليست نابعة من صلب التحسن الفعلي في أداء الاقتصاد الأميركي نفسه، مما يبقي وضع العجز معتمداً على ظروف الأسواق الدولية. ولهذا، فإن أي أنباء عن تراجع العجز التجاري الأميركي في الاشهر المقبلة قد تعيد الدولار الى حظيرة القلق، وتفتح أبواب المضاربة عليه. أما اذا حصل العكس، وهو ممكن، وشهد الميزان التجاري تحسناً جديداً خلال شهر أيار مايو، فإن ذلك سيعزز الثقة اكثر بالدولار، ويعيد سعر تبادله الى وضع أفضل حيال العملات الاخرى. وهذه بحد ذاتها أخبار حسنة بالنسبة للأوروبيين واليابانيين. ولكن التساؤل بعد هذا كله يبقى، وماذا عن الأسواق العربية؟ وما هو تأثير التحسن في سعر صرف الدولار على حركة المضاربة في دول الخليج بالذات. لقد رأينا خلال الاسبوعين الماضيين حركة تراجع في أسعار الاسهم داخل بورصات الامارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وسلطنة عمان، وحتى في اسواق الأردن. وقد فسرت هذه التراجعات على انها ظاهرة تصحيحية في اسواق البورصة. وبمعنى آخر، فإن كثيراً من الشركات التي يتم التداول باسهمها في البورصات قد وزعت أرباحها، وحددت الحصص الاضافية التي كانت ستوزعها على حملة الاسهم. ومن هنا، فإن القيمة الفعلية للاسهم بعد هذه الاعلانات ستنقل عما سبق، ولذلك تهبط الأسعار، ولكن المتفائلين يؤكدون ان حركة المضاربة ستعود الى سابق عهدها خلال فترة وجيزة. ولكن ارتفاع سعر الدولار له تأثيران مباشران على حركة المضاربة والاسهم في البورصات العربية: الأول هو ان بعض الارصدة المخصصة بالدولار ستعود الى المصارف على شكل ودائع إدخار او لأجل، أملاً في تحسن سعر صرف الدولار. وستنوع المحافظ المالية لشركات التأمين والمصارف وصناديق الادخار ومؤسسات الاستثمار، محافظها مجدداً لمصلحة الدولار. والأمر الثاني هو ان أسعار النفط قد تتراجع في حالة تحسن الدولار مما سيكون له أثر في حجم السيولة المتاحة في الاسواق للمضاربة. ولكن هذه التوقعات قد لا تدوم لفترة طويلة. فأسواق البورصة عالمياً واقليمياً ما تزال مرشحة لكثير من التقلبات لأن الاقتصاد العالمي حتى هذه الحظة اكثر تعقيداً وحجماً من ان يتأثر بمجريات الاقتصاد الاميركي وحده. فدخول عمالقة مثل أوروبا والصين واليابان كلاعبين رئيسيين، وسعي دول العالم الثالث الكبيرة لتأكيد ذاتها مثل الهند والبرازيل واندونيسيا قد يوجد حالاً من الغموض وربما حتى الفوضى داخل الاسواق، مما يجعل من الصعب التنبؤ بما يجري. ولنأخذ مثالاً: اذا تحسن سعر الدولار، فإن امكانات التحسن في الميزان التجاري الاميركي يجب ان تقل وتتراجع، لأن هذا سيجعل صادرات الولاياتالمتحدة اعلى سعراً، ومستورداتها أرخص من السابق. وهكذا يتراجع الميزان التجاري الأميركي، ويتحسن وضع منافسيه. فهل سيؤدي هذا ثانية الى تراجع سعر الدولار؟ هل لدى الولاياتالمتحدة مفاجآت جديدة تختزنها؟ ان قدرة العرب التفاوضية مع الولاياتالمتحدة قد تحسنت كثيراً بفعل الوضع الاقتصادي الاميركي، وبفعل سلوكيات الولاياتالمتحدة التي اقصت كثيراً من المستثمرين العرب والمسلمين. فهل وصلت الولاياتالمتحدة الى نقطة صارت هي بحاجة فيها الى نمط جديد من العلاقات مع العرب؟ ان الجواب على ذلك بالايجاب. وسنرى سعياً متزايداً من الولاياتالمتحدة لايصال الدفء ثانية الى تلك العلاقات على كل المستويات. خبير اقتصادي،"البصيرة للاستشارات".