تأثرت أسواق الأسهم العالمية والعربية بسحابة عدم اليقين التي تغطي المنطقة والتي ازدادت كثافة أخيراً بسبب قرب الهجوم المرتقب للولايات المتحدة على العراق، بالإضافة إلى الضبابية السياسية والعسكرية والأمنية في المنطقة لمرحلة ما بعد الحرب. فخلال الشهور القليلة الماضية أصبحت البورصات العربية تتحرك ارتفاعاً وانخفاضاً على وتيرة نغمات الحرب. كما أن التخوف من الحرب وضع المنطقة في حال انتظار وترقب مقلق، وأبطأ عملية تنفيذ واتخاذ القرارات الاستثمارية. وشهدت المصارف العربية فائضاً في السيولة أخيراً بسبب قلة الطلب على الاستثمار والائتمان، كما ساعدت عودة بعض رؤوس الأموال المستثمرة في أسواق المال العالمية إلى ارتفاع مستوى السيولة المحلية. تأثرت معظم أسواق الأسهم العالمية والعربية سلباً العام الماضي وخلال الشهور الأولى من السنة الجارية بسبب التوتر وعوامل عدم اليقين الناتجة عن التهديدات الأميركية بشن حرب على العراق. فتراجع مؤشر سوق الأسهم الأميركية لأكبر 500 شركة مدرجة في حدود 22 في المئة العام الماضي وخمسة في المئة حتى الآن من السنة الجارية مقابل تراجع في حدود 32 في المئة للسوق البريطانية و24 في المئة للسوق اليابانية خلال الفترة نفسها. غير أن أسواق الأسهم الخليجية جاء أداؤها معاكساً لذلك، مستفيدة من ارتفاع أسعار النفط وهبوط أسعار الفائدة على العملات المحلية. فلقد سجل مؤشر سوق الكويت ارتفاعاً في حدود 50 في المئة خلال الخمسة عشر شهراً الماضية، وجاءت الزيادة خلال الفترة نفسها في سوق قطر في حدود 40 في المئة و12 في المئة في سوق الامارات و28 في المئة في سوق مسقط وخمسة في المئة في السوق السعودية. وفي المقابل كان أداء أسواق الأسهم ضعيفاً في معظم الدول العربية الأخرى، إذ تراجعت سوق الأسهم الأردنية في حدود خمسة في المئة خلال فترة الخمسة عشر شهراً الماضية وحتى سوق الأسهم المصرية التي سجلت ارتفاعاً في حدود 17 في المئة، جاء أداؤها سالباً إذ تم تقويمه بالدولار بعدما تراجع سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار بما يزيد على 20 في المئة منذ تعويمه في نهاية شهر كانون الثاني يناير الماضي. ومع أن التاريخ لا يعيد نفسه والأوضاع اليوم في المنطقة تختلف كلية عما كانت عليه قبل 12 عاماً، إلاّ أنه يبقى مفيداً مراجعة ما حدث خلال حرب الخليج الأولى عام 1991. ففي آب أغسطس عام 1990، أدى الغزو العراقي للكويت إلى انخفاض متواصل في أسعار الأسهم الأميركية، إذ تراجع مؤشر "ستاندر آند بورز" لأكبر 500 شركة أميركية مدرجة بأكثر من 12 في المئة بين شهري آب وتشرين الثاني نوفمبر من ذلك العام، وتراجعت أسعار الأسهم في معظم دول الخليج والدول العربية في منطقة غرب آسيا خلال الفترة التي سبقت تحرير الكويت، كذلك فقد الدولار سبعة في المئة من قيمته أمام العملات الرئيسية خلال الفترة نفسها. ولكن عندما بدأت الحرب عام 1991، عادت أسعار الأسهم الأميركية والأسهم الخليجية للارتفاع وسجل مؤشر "ستاندرد آند بورز" زيادة بنسبة 28 في المئة خلال الاثني عشر شهراً اللاحقة، وارتفعت قيمة الدولار ليعود إلى المستويات التي كان عليها قبل الغزو العراقي للكويت. كذلك ارتفعت أسعار النفط إلى أكثر من الضعفين خلال صيف عام 1990 بعد احتلال العراق للكويت، ثم ما لبثت أن هبطت بحدة في كانون الثاني عام 1991 من 30 دولاراً للبرميل إلى نحو 20 دولاراً عندما بدأ الهجوم الأميركي على العراق. وحافظت الأسعار على مستوياتها المنخفضة لأشهر عدة تلت على رغم خسارة السوق لكامل إنتاج النفط الكويتيوالعراقي والذي تم الاستعاضة عنه بزيادة انتاج السعودية وعدد من الدول غير الاعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك. ونلاحظ أن المستثمرين والمتعاملين في أسواق الأسهم لدول المنطقة يمكن تقسيمهم إلى ثلاث شرائح، شريحة متفائلة وأخرى مترددة وثالثة متشائمة. فالشريحة المتفائلة تتوقع أن تكون الحرب على العراق سريعة وحاسمة يتبعها استقرار سياسي وأمني في العراق، ما قد ينعكس إيجاباً على حركة الاستثمار وعلى انفراج الأوضاع وعودة رؤوس الأموال إلى المنطقة. فالدول العربية التي تعاني من ضعف تصنيفها الائتماني بسبب كثرة القلاقل السياسية وعوامل عدم اليقين التي تهيمن عليها، ستجد نفسها في مرتبة أفضل إذا استقر الوضع في العراق. وابتدأت هذه الشريحة من المستثمرين باقتناص الفرص مع اقتراب موعد الحرب على العراق لأنها تعتقد بأن الأسعار سترتفع بشكل كبير خلال الأيام والأسابيع الأولى لابتداء الهجوم العسكري. غير أن استثمارها في أسهم الشركات المدرجة هو انتقائي وليس عشوائي ويستند إلى معايير محددة. فالتركيز يكون في الغالب على مجموعة الشركات ذات الأداء الجيد والتي اعتادت على توزيع أرباح سنوية وليس هناك مغالاة في أسعارها أي أن معدل السعر إلى العائد في السوق لهذه الأسهم ما زال مقبولاً. وتشمل هذه المجموعة أسهم شركات الاتصالات والكهرباء والمصارف وشركات الإسمنت والبتروكيماويات وشركات صناعية وخدماتية أخرى لا تعتمد بشكل كبير على التصدير إلى العراق. ويستثنى هنا أسهم شركات النقل والفنادق والسياحة والتأمين، اذ يتوقع لهذه القطاعات أن تتأثر أكثر من غيرها بالأزمة الحالية وبعوامل عدم اليقين التي قد تبقى لفترة زمنية أطول. فالمستثمر الجريء المستعد للمجازفة، استناداً إلى فرضية أن الحرب ستدوم لفترة زمنية قصيرة، استثمر في الأسهم الخليجية وخصوصاً أسهم كل من الكويتوقطروالإمارات وعُمان وأسهم أردنية منتقاة، ستكون أمامه فرصة للاستفادة من ارتفاع أسعار هذه الأسهم إذا ما صحت التوقعات بالنسبة لمجريات الحرب. وستكون مثل هذه التوقعات بمثابة قوة نفسية ضاغطة على المتعاملين في السوق الذين سيبدأون بخصم معدلات طلب مرتفعة على الأسهم خلال الشهور المقبلة ويسرعون إلى تنفيذ عمليات شراء آنية، ما يتسبب في ارتفاع مضطرد للأسعار. وتنطبق هذه التوقعات أيضاً على سوق النفط، إذ أنه مع زوال علاوة الحرب والتي تقدر بنحو سبعة دولارات للبرميل، سيعود سعر خام القياس البريطاني "برنت" إلى دون 20 دولاراً للبرميل في نهاية السنة، مقارنة ب30 دولاراً حالياً. لذلك يستطيع المستثمر الجريء بيع عقود النفط في الأسواق الآجلة Short Selling للاستفادة من التراجع المتوقع في أسعار النفط عند انتهاء العمليات العسكرية وعودة العراق تدريجاً إلى كامل إنتاجه. وإذا تحقق سيناريو الحرب السريعة والحاسمة، فإن الدولار الأميركي سيعاود ارتفاعه في أسواق الصرف العالمية مقابل اليورو والين الياباني. ومع أن ضعفي سعر صرف الدولار الحالي يعود في الغالب إلى اتساع الفجوة بين أسعار الفائدة على اليورو مقارنة بتلك التي على العملة الأميركية، وتفاقم العجز في الميزان التجاري للولايات المتحدة، إلاّ أن جزءاً من هذا الضعف سببه أيضاً تأثر الدولار بالحرب المتوقعة على العراق والتخوف من أن الحرب ستكون طويلة ومكلفة على الاقتصاد الأميركي. غير أنه إذا انتهت العمليات العسكرية بسرعة وجاءت كلفة الحرب عند المعدلات المتوقعة، فإن العملة الأميركية قد تتحسن كما أنها ستحافظ على قوتها في المدى المتوسط والبعيد لتعكس الهيمنة الجديدة للولايات المتحدة على عصب التدفق النفطي لأوروبا واليابان والصين لسنوات عدة مقبلة. أما الشريحة الثانية والتي تشكل الغالبية بين المستثمرين فهي الشريحة المترددة التي تعتقد أن الحرب على العراق قد تكون قصيرة غير أن تأثيراتها السلبية في المنطقة ستدوم لشهور عدة مقبلة، كما أن عوامل عدم اليقين ستبقى مهيمنة ليس فقط على العراق ما بعد الحرب ولكن أيضاً على عدد من دول المنطقة الأخرى والتي تعتبرها الإدارة الأميركية دول مستهدفة لحدوث تغيير جذري فيها. وبالتالي نلاحظ ابتعاد هذه الشريحة عن الاستثمار في أسواق أسهم هذه الدول، وقيامها بتنويع أدواتها الاستثمارية مركزة أكثر على الودائع المصرفية والسندات وعلى بعض الأسهم المنتقاة وخصوصاً أسهم شركات الخدمات العامة من اتصالات وكهرباء التي لا يتوقع أن يتأثر أداؤها بما يحدث في العراق. كما أن هذه الأسهم تعطي عائداً سنوياً أفضل من سعر الفائدة الحالي. وتقوم هذه الشريحة بالحفاظ على معدلات سيولة مرتفعة كي تستطيع اقتناص الفرص المستقبلية إذا جاءت التطورات أفضل مما هو متوقع. وتبقى هذه الشريحة متفائلة بالنسبة لسوق الأسهم الكويتية التي ستستفيد من زوال التهديد العراقي لأمن البلاد وأسواق أسهم كل من الإماراتوقطر وعُمان وهذه الدول لها علاقة مميزة مع الولاياتالمتحدة ولن تتأثر بما يحدث في العراق. وهناك أيضاً إمكانية تحسن أسعار أسهم منتقاة في السوق الأردنية، إذ أن العديد من الشركات الأردنية ستستفيد من عملية إعادة البناء في العراق، فعوامل الجوار والخبرة السابقة بين قطاعي الأعمال في كلا البلدين ووجود قنوات اتصال وتبادل مع القطاع الخاص العراقي ستساعد على زيادة الصادرات الأردنية، خصوصاً تلك التي تستطيع المنافسة في سوق عراقية مفتوحة. وترى هذه الشريحة أن مخاطر الاستثمار تبقى مرتفعة في أسواق دول المنطقة الأخرى بعضها يعود إلى عوامل داخلية تشمل مخاطر أسعار صرف وضعف أداء الشركات المدرجة والبعض الآخر بسبب توقع تنامي عوامل عدم اليقين في هذه الأسواق مستقبلاً. أما الشريحة الثالثة فهي الشريحة المتشائمة والتي تعتقد بأن الحرب على العراق ستدوم لشهور عدة وليس لأسابيع وأن المنطقة مقبلة على فترة تقلبات وعدم استقرار. لذلك نرى المستثمر في هذه الشريحة قد اتخذ قرار الخروج من أسواق الأسهم بشكل عام والتركيز على الودائع المصرفية السائلة. فهذه الشريحة تعتقد بأنه سيكون هناك مقاومة متقطعة ضد الاحتلال الأميركي للعراق لأسابيع ولشهور عدة مقبلة بعد انحسار المعارك الكبيرة وحدوث حالات تخريب لحقول النفط، وإذا تزامن هذا مع قيام إسرائيل بتكثيف هجماتها على الشعب الفلسطيني أو قامت بعمليات طرد جماعية من الأراضي المحتلة فإن المنطقة ستكون بمثابة بركان وهذا سينعكس سلباً على اقتصادات دول المنطقة بشكل عام وأسواقها المالية بشكل خاص. هناك عوامل عدة تلعب دوراً مهماً في تخفيف حدة الانعكاسات السلبية على أسواق الأسهم الخليجية والعربية عند نشوب الحرب على العراق، أهمها محدودية الاستثمار الأجنبي في هذه الأسواق وبالتالي لا يوجد العديد من الأموال الساخنة المستثمرة محلياً والتي غالباً ما تخرج بسرعة عند حدوث أي أزمات اقتصادية أو سياسية. والعامل الثاني هو تركز ملكية العديد من أسهم الشركات في أيدي عدد محدود من المستثمرين الكبار بما فيهم حكومات دول المنطقة. فهؤلاء يمتلكون الأسهم لأسباب استراتيجية واستثماراتهم في هذه الشركات هي بطبيعتها طويلة الأجل وليست مرتبطة بظروف معينة. من هنا فإن حجم الأسهم التي يمكن شراؤها وبيعها في السوق أو ما يطلق عليها Free Float يبقى محدوداً في معظم دول المنطقة. فليس هناك سوى عدد قليل من الشركات ذات الأسهم السائلة، أي أن القيمة الرأسمالية لأسهمها المدرجة تزيد على 50 مليون دولار ويبلغ التداول اليومي عليها مليون دولار على الأقل. والعامل الثالث هو أداء اقتصادات دول المنطقة والوضع المالي الجيد للعديد من الشركات المدرجة، وخصوصاً في دول الخليج والتي استفادت من النمو الاقتصادي الذي تحقق العام الماضي بسبب ارتفاع أسعار النفط واتباع الحكومات لسياسات مالية توسعية، إضافة إلى تراجع أسعار الفائدة على الدولار وعلى العملات العربية المرتبطة بها، ما قلص من كلفة الاقتراض وساعد الشركات على تحقيق عوائد جيدة. فعوامل عدم اليقين المرتبطة بالتطورات السياسية والحرب المرتقبة على العراق والتي أدت إلى خروج عدد من المستثمرين من أسواق الأسهم المحلية، كان في مقابلها عوامل جذب للاستثمار في الشركات ذات الأداء الجيد خصوصاً تلك التي توزع أرباحاً سنوية بمعدلات تفوق أسعار الفائدة على الودائع والتي لا تزيد حالياً على اثنين او ثلاثة في المئة في معظم دول المنطقة، ما عدا لبنان ومصر وبعض دول شمال إفريقية. * الرئيس التنفيذي جوردانفست.