ألا ما أبرك «الرؤية» حين حرّرتنا من الأغلال، وخلّصتنا من ربق الارتهان لثقافة الموت، وأعادتنا إلى حالتنا الطبيعية مع «جودة الحياة»، بكل ما اشتمل عليه هذا البرنامج الوريف من منافذ للفرح، ونوافذ للمتعة البريئة، ومشارع لإدراك الإنسان السَّوِي الذي شوّهته «الصحوة»، وطمست هويته خطابات الغلو والتطرّف والانغلاق.. فحين تأخذُ مقعدك في حضرة فرقة «الأوركسترا والكورال الوطني السعودي» ستدرك هذه المعاني الباسقات، ستعرف أي موهبة كامنة تفجّرت، وأيّ عمر ضيّعنا في جدل حلال الموسيقى من حرامه.. في معية هذه الفرقة «الأوركسترا والكورال» تتبدى أمامك موهبة الإنسان السعودي، وهو يفجّر طاقاته الإبداعية مع عالم الموسيقى والغناء، شباب نضر، وفتيات مورقات بفائق الموهبة، وبديع الصوت، و«حريف» العزف، يطوعون الآلات نغماً متسقاً مع تراث ضارب في عمق الذاكرة السعودية، ومخبراً عن حضارة تنوّعت شكلاً، وائتلفت طرباً في ربوع هذا الوطن المعطاء، فصنعت صورة زاهية تعبّر عن وطننا أصدق تعبير.. نعم؛ هي بعمر الزمن حديثة التكوين، فقد نهضت تحت مظلة هيئة الموسيقى التابعة لوزارة الثقافة السعودية في العام 2021؛ والغاية تمثيل المملكة في المحافل المحلية والعالمية، وما أنبلها من غاية، وما أسماها من مُستشرف قمين بالزهو، وجدير بالحفاوة والإشادة! أما رأيتهم وهم يصدحون نغماً، ويشدون طرباً، من مبتدأ طوافهم الخلّاق البديع من باريس، وفي اليوم السابع من شهر أكتوبر عام 2022م، جلس على تخت العزف اثنان وعشرون عازفاً سعوديّاً، وعازفة، مصحوبين بأربعين مغنٍ ومغنية، وبمشاركة الأوركسترا الفرنسية الفيلهارمونية، فأصاخت القاعة السمع لعزف منفرد للأوركسترا الفيلهارمونية الفرنسية وهي تؤدي مقطوعة «مدينة جدة» لمؤلفها الكلاسيكي الإيطالي برناردي، وعزف منفرد لأغاني فلكلورية سعودية لمختلف الفنون الشعبية كالمجرور والمزمار والخبيتي والسامري، فكانت ليلة ليلاء، عبر فيها الفن السعودي إلى آفاق رحبة، وطرق آذاناً ران عليها وضر الصور النمطية، والفهم المغلوط، الناجم عن فكر «الصحوة».. تلك الرحلة تركت أثرها الميمون ودويّها الصدّاح، ومنحت «الفرقة» العزم على المضي في الطريق إلى أقصى احتمالات الإبداع، وأرقى مصافات الممكن، فتواصلت ذات الرحلة الميمونة إلى مدينة مكسيكو في المكسيك، ثم نيويورك في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفي كلتيهما تجلى الإبداع السعودي في أرقى صوره، فاعلاً ومتفاعلاً، تاركاً بصمة عزيزة على المحو، معطياً الصورة الأنقى، والفهم الصحيح لماهية الإنسان السعودي، وحضارته، وروحه وذوقه المنسجم مع روح العالم المتطلع للسلام والأمن، وإعلاء قيم الحق والجمال، وكأنه منساق إلى صوت الشاعر العراقي معروف الرصافي حين نادى: إنْ رمتَ عيشًا ناعمًا ورقِيقا فاسْلُكْ إليه من الفنونِ طريقا واجْعلْ حياتَكَ غضّةً بالشِّعرِ والتمثيلِ والتصويرِ والموسيقا تلكَ الفنونُ المُشتهاةُ هي التي غصنُ الحياة بها يكون وريقا وهي التي تجلو النفوس فتَمتَلي منها الوجوه تلألؤًا وبريقا وهي التي بمذاقها ومشاقها يُمسي الغليظ من الطباع رقيقا نعم؛ كان ذلك حالي مع هذه الفرقة التي تطيل العنق زهواً، وترفع الهامات تيهاً، وتمنحك لسان الصدح ب«سعوديتك» في كل مكان وزمان، وما عليك إلا أن تمدّ بصر المشاهدة، وترخي أذن سمعك لتنظر وترى ما قدمت في البحرين، مشاركة في مهرجانها الدولي بالمنامة، في أكتوبر 2023، ثم في عاصمة الضباب لندن، وكانت تلك محطتها الرابعة في تطوافها البريع، حيث حلّت بمسرح سنترل هول وستمنستر بمشاركة ضمت مائة موسيقي ومؤدٍّ، وقدمت ثلاثة ألوان من التراث الغنائي السعودي وهي: السامري والينبعاوي وفن الربش، كما أدت أغنية «Roiling in the Deep» بصوت الفنانة أديل باللون السعودي. كان الختام بديعاً حين تكامل الإبداع بأداء مشترك للأوركسترا السعودية مع نظيرتها الفلهارمونية الملكية البريطانية.. ثم كانت رحلة طوكيو في 22 نوفمبر 2024 على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي»، وكان المشهد كسابقاته بديعاً، وبهيجاً، ومؤسساً لوعي جديدة، وصورة مختلفة عن المملكة وثقافتها وفنونها وحضارتها.. ولن ننسى كذلك مشاركة وزارة الثقافة بقائد فريق الكورال في الأوركسترا الوطنية للموسيقى والكورال، في أوركسترا مجموعة العشرين (كنز الألحان «Sur Vasudha»)، التي أُقيمت في مركز تيسير التجارة بمدينة فاراناسي الهندية، إبان رئاسة الهند لاجتماعات المجموعة. إن كل هذا التطواف العَجِل في مسيرة هذه الفرقة، قصيرة العمر، وعظيمة العطاء، يرفع سقف توقعاتنا إلى آفاق أرحب، يحملنا إلى توقع أن تكون لها نظائر في المدن الكبيرة ذات الثقل الفني والجماهيري، وأن تؤسس لها وجوداً فاعلاً على المستوى الشعبي، بحفلات مفتوحة، ومكثفة، لرفع الأمّية الموسيقية لدى قطاع عريض، ما زال واقراً في محطة الجدل الفقهي حول الموسيقى، وأن تعمد إلى تضمين الآلات الموسيقية السعودية ضمن جوقتها، بما يكسبها بعداً عالميّاً، ويظهر ما تتمتع به من نغمات تضيف إلى ثقافة الموسيقى في العالم، وأن تزيد من رقعة انتشارها بكل الوسائل المتاحة، حتي تصير ثقافة مجتمع، مدركاً مع من أدرك بأن الموسيقي: لا تقول كلاماً، ولكنها تردم الهاوية الموسيقي لا تقول كلاماً، ولكنها تفتح الطرقات ما بين مركز القلب وأطرافه النائية الموسيقي لا تقول كلاماً، ولكنها تصحب الروح وهي تعتلي القافية الموسيقي لا تقول كلاماً، ولكنها تفرش الدرب للقدم الحافية الموسيقي لا تقول كلاماً، ولكنها تمنح الصحة والعافية.. فشكرًا بحجم السماء، وطاقة الفرح لفرقة «الأوركسترا والكورال الوطني السعودي» على ما أنجزت، وسلام تعظيم للقائمين بحقها، وآمال عراض نبسطها وننتظر المزيد.