لا تريد آنا غافالدا أن تكون خليفة فرنسواز ساغان. هي تريد أن تكون نفسها. ومع ذلك هناك صعوبة في مقاومة التفكير بالمقارنة بين الإثنتين. لقد دخلتا عالم الكتابة والشهرة في سن مبكرة، وتميزتا بالجرأة والرغبة في تجاوز المألوف. إلا أن إغراء المقارنة يصبح أقوى حين يتعلق الأمر بالمناخ الكتابي لنصوصهما والنبرة الصريحة فيها. كانت فرنسواز ساغان أثارت الدهشة حين أصدرت روايتها الشهيرة"صباح الخير أيها الحزن"وهي بالكاد تبلغ التاسعة عشرة من عمرها. وهي كشفت عن مقدرة صارخة في تصوير الحياة النمطية للفئات الميسورة من المجتمع الفرنسي، بل الأوروبي بعامة، ورسم الخواء الذي يلف العيش ويحيط بحياة الشخصيات فيدفع بهم إلى اليأس والإدمان والتخبط. وهي جعلت من العلاقات العاطفية والجنسية محوراً أساسياً من محاور كتابتها ومن ثم سلطت البؤرة على المسعى اليومي للشباب المديني الذاهب نحو العيش المنفلت من النظام والانغماس في لهو فائض يفتقر إلى المعنى. والحال أنها هي نفسها مارست عيشاً كهذا فغرقت في الشرب والتدخين والقمار حتى أواخر حياتها. ساغان رصدت التحولات الانقلابية التي مرّت بالجيل الشبابي الأوروبي وبلغت الذروة في الانتفاضة الطلابية في أيار مايو عام 1966. كان الضجر والتأفف يجتمعان ليشكلا احتقاناً ينفجر في شكل تمرد متعدد الأوجه يجد تعبيره في شكل تقولات ماركسية وماركوزية وتروتسكية وماوية وغيفارية وهيبية وفوضوية وتحرر جنسي وأخلاقي من دون ضفاف. هي نفسها لم تنجر الى تلك التقولات ولم تجذبها الإيديولوجيات الكثيرة التي كانت تتناطح في الميدان. لم تتخذ موقفاً فكرياً منحازاً، غير أنها مارست الانحياز إلى السلوك الطائش للجيل وضياعه وقلقه في كتابتها وطريقة عيشها. مثلها تفعل آنا غافالدا. ليست عندها قضية أو موقف أو مدرسة أو تيار. همها أن تكتب عما يحيط بها. عن الجيل الشاب الذي دخل القرن الواحد والعشرين. بدأت آنا غافالدا الكتابة بمجموعتها القصصية"تحدوني الرغبة في أن ينتظرني أحدهم في مكان ما". هي مجموعة قصص تبدو كما لو كانت فصولاً في رواية صغيرة. إنها نسخة مبعثرة من"صباح الخير أيها الحزن". تعمد آنا غافالدا إلى رفع ما هو يومي وهامشي وممل وعادي إلى سوية الجدير بالاهتمام تماماً مثلما فعلت ساغان من قبل. إنها تلاحق التفاصيل الصغيرة، غير المثيرة للانتباه، وتعطي الفسحة الكاملة للنافل والمنسي والمتروك لأمره. وكما كان الحال في"صباح الخير أيها الحزن" تتوزع تيمات المجموعة القصصية الأولى لآنا غافالدا بين الجنس والتمرد واللامبالاة والانغماس في اللهو اليومي العابر والركض وراء المتع المتناثرة على الأرصفة والبارات ومقاعد الدراسة على السواء. ليس هناك من بطل رئيس واحد لكل قصة من قصص المجموعة. هناك طيف واسع من الشخصيات المتشابهة. هي متشابهة في مظاهرها الخارجية ومسالكها ورغباتها وهواجسها. أكثرها شخصيات شابة تعيش حياتها بسرعة واندفاع كما لو كانت في سباق مع الزمن تدفعها رغباتها الآنية أكثر من أي شيء آخر. تبدو شخصيات المجموعة القصصية كما لو أنها خرجت من بين سطور كتابات ساغان وقفزت إلى هذا الزمن. ناس عاديون في مجرى الحياة بعد أن تخففوا من حمل الهموم والأفكار. شباب انتقلوا من زمن غثيان سارتر وغريب كامو ولا منتمي ولسون ولا أخلاقي أندريه جيد إلى زمن الكومبيوتر والموبايل والثرثرة عبر الأنترنت. تترجم آنا غافالدا دواخل أبطالها بلغة عصرهم. تكتب من خلال سرد هين، سهل، تزخره بالكلمات الدارجة والتعابير المتداولة. لم يعد هناك تزويق ثقافي ولا استعراض لصندوق المقولات الخارجة من بطون الكتب. ها هنا تنهض الكتابة من الباحة والشارع وتتشكل من تداخل الأصوات المنطلقة من المحيط المباشر للشخصيات. هذا الشيء يمنح الشخصيات وجوهاً مألوفة يلوح لنا أننا مررنا بها لتوّنا. هي ليست شخصيات ذهنية بل شخصيات حية تنضح بحرارة الحياة. هي الحياة التي نخوض غمارها اليوم وهنا. حياة حافلة بالأدوات والوسائل التي تستولي علينا وتصادر ذواتنا من أنفسنا. إن كلمات مثل: الكومبيوتر، الهاتف الخلوي، الدي في دي، الماكدونالدز...الخ تشكل مفردات متكررة في النصوص. قصص تحاول تتبع الدرب الذي يسلكه الأبناء بعيداً من عيون الأهل وخارج سيطرتهم. مراهقون بالكاد تفتحت شهيتهم على العيش يركضون للظفر بكل شيء دفعة واحدة، يساعدهم في ذلك ما وفره لهم المجتمع الاستهلاكي من فرص ومنافذ. لقد تهاوت المحرمات وتفتتت الرقابات وبات كل شيء في متناول اليد. الحب الذي طالما تغنى به الأقدمون صار شيئاً عتيقاً وحلت محله الشهوات السريعة والنزوات المتدافعة بحيث تلاشت الحدود بين المباح وغير المباح. هناك فسحة لا متناهية من الحرية. ولكن، هناك خوف من هذه الحرية بالذات. ترتبك الشخصيات ولا تعرف ماذا تفعل بكل هذه الحرية الفائضة. يبحث الجميع عن حنان مفقود وحب خيالي وفي الوقت نفسه يسبحون في بركة من المتع المباشرة. بطلة إحدى القصص تنتمي إلى وسط مثقف. إنها تقرأ بودلير وساغان على الدوام وتسعى للتعرف إلى من يشاطرها ذوقها ويقاسمها ثقافتها. هوذا الفتى الذي تعرفت إليه بالصدفة يزعم الاستجابة لتطلعها. غير أن رنات هاتفه الخلوي تكشف عنه. منافق يصطاد الفتيات في الطرقات ويركض خلف اللقاءات العابرة. كنت احبه بعد المجموعة القصصية أصدرت آنا غافالدا رواية بعنوان:"كنت أحبه"، وهي محاولة لإظهار السطوة التي يمارسها الماضي على الحياة الراهنة. رجل، إمرأة، طفلان. يغادرون المدينة لقضاء أسبوع في الريف. أسرة مدينية مثالية؟ لا، ليست كذلك. الرجل ليس زوج المرأة بل حموها. لقد تركها زوجها وها هي، محاطة بالحزن واليأس تحاول أن تسترجع حياة واعدة بالسعادة. كلوي، بطلة القصة، تعيش تحت كاهل الصدمة التي خلفها رحيل الزوج. هناك شعورها المرير بأن حياتها أتلفت هي الصغيرة في السن، مع ابنتين تكبران تحت عينيها من دون حنان أبوي وبعيداً من جو أسري حميم. يحاول بيير، والد زوجها، أن يخفف عنها الألم وأن يواسيها. ولكنه بدلاً من ذلك يروح يتحدث عن نفسه، عن ماضيه، عن حبه الغابر، عن إخفاقاته. وهو يبدو في الأخير وكأنه يخلق الأعذار لإبنه. كأن ما أصاب كلوي قدر لا فكاك منه وكأن عليها أن تشكر الرب على هذا القدر اللطيف الذي خصص لها الحزن والخيبة. تختفي صورة كلوي أمام الصورة النرجسية، المنتفخة لوالد الزوج الذي يكاد أن يكرر سطوة الزوج. يبدو وكأن عطفه على كلوي أو إحساسه بالشفقة نحوها قناع يخفي الرغبة في إذلالها ودفعها إلى حافات يأس أعمق. معاً في عام 2004 صدرت روايتها الأخيرة"معاً، هذا كل شيء". تعود موضوعة الحب الضائع والحنان المفقود والشعور المزمن بالحرمان العاطفي والركون لقدر عابس يبعث على اليأس. في الرواية الجديدة نلاحق مصير شخصيات تعرضها الكاتبة كأنماط متحركة في مواجهة الفضاء الحياتي ذاته الذي ما برح يهيمن في نصوصها. هناك ذلك القلق الوجودي الكامن في الأعماق والذي لا يستطيع المرء الفكاك منه. لا تفلح الحياة الصاخبة الجديدة في اقتلاع جذور ذلك القلق على رغم المظاهر الخارجية التي توحي بذلك. بل ربما العكس صحيح. القلق يتكثف أكثر فأكثر واليأس يصبح جزءاً رئيساً من كيان الشخصية. لا تستقر العلاقات العاطفية بين الشخصيات بل تتعرض للشروخ يوماً بعد يوم وتسقط في لجة من العواطف المتقلبة التي تتدافع وتمسك بالخناق. في"معاً، هذا كل شيء"تصطدم الشهوات المتعارضة لأبطال الرواية: كاميل، فرانك، فيليب، بوليت، وتؤلف ما يشبه إعصاراً يأخذ الجميع في لجته. لا يركن أحد لسير هادئ وبسيط على درب حب ناضج ومخلص. ثمة نزوات تندفع من بين الدوائر وخيانات تطرق الباب في كل لحظة. لا يشعر أحد بالسعادة. السعادة أمنية مبتغاة ولكن بعيدة المنال. الحزن هو الحاضر الأكبر. حزن يرقد في كل زاوية وينسج الشباك لمن يمر في محاذاته. شخصيات نصوص آنا غافالدا تمر من هناك. تتقاطع جوانب من الحياة المعيوشة في القصص والروايات التي تسردها آنا غافالدا مع بعض حياتها الشخصية. مثل كلوي، بطلة روايتها، تزوجت صغيرة وأنجبت بنتاً ثم طلقت. هي توزع حياتها الآن بين الكتابة والاعتناء بابنتها وتسعى الى توفير أقصى ما يمكن من الهناء والأمان لها بعيداً من حزن مستوطن ويأس يهدد باقتحام كل شيء. تكتب آنا غافالدا لأنها تريد أن تعيش. أن نكتب هو أن نبدع أشخاصاً وندعهم يعيشون، هكذا تقول. وإذا هي أفلحت في ذلك فلعلها تقدر على تخطي ساغان وتجاوز المأزق الوجودي الذي بقيت عالقة في شباكه طوال حياتها.