يدخل لبنان بفعل الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة فترة حرجة تتهيأ وتنضج الشروط فيها للانتقال إلى حقبة مختلفة بالكامل عن الحقبة السابقة الممتدة منذ الاستقلال. وربما كان الأصح القول إننا نمر في منعطف تاريخي تأخر لبنان نصف قرن لكي يدخل فيه. كان من الممكن لاتفاق الطائف أن يكون المدخل إلى هذه الحقبة الجديدة، على أنقاض الحرب الأهلية ومنطقها. وهي حرب تحولنا فيها جميعنا، أحزاباً ومواطنين، بإرادتنا أو خارج إرادتنا، أدوات للقوى الخارجية التي استقوينا بها، كل منا وفق سياساته واقتناعاته الإيديولوجية، ووفق مشاريعه الخاصة لمستقبل لبنان، وبوهم تولَّد عندنا بإمكان استخدام هذه القوى الخارجية ليحقق كل منا انتصاره على خصومه. وتحول لبنان، بفعل ذلك الوضع خلال الحرب، ساحة صراع بين تلك القوى حول مصالح كل منها، المناقضة في الشكل وفي الأساس لمصالح لبنان وشعبه ولكل قواه السياسية. كان من الممكن لاتفاق الطائف أن يكون المدخل إلى التغيير الديموقراطي، كمرحلة أولى تليها مراحل لاحقة أكثر تقدماً، لو لم يتم الانقلاب عليه منذ اللحظات الأولى، بقرار خاطئ هو بمستوى الخطيئة، بحق سورية ولبنان، اتخذه الأشقاء السوريون الذين أوكل إليهم من جانب الدول العربية والمجتمع الدولي تطبيق بنوده. وشاركهم في الخطأ والخطيئة فريق من اللبنانيين ممن اختيروا بوعي ليشكلوا أساس الدولة الأمنية التي سادت خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، وليمارسوا، من موقع المنتصر في الحرب الأهلية على الفرقاء الآخرين، في عملية الفساد والإفساد، فاقدين الإحساس بالمسؤولية الوطنية، كلبنانيين ينتمون إلى الوطن اللبناني. وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك النمط من السياسات، من قبل الراعي السوري وشركائه اللبنانيين، إلى تعطيل الوعي لدى الكثرة من اللبنانيين، وإلى تغييب السياسة من الحياة العامة، السياسة السياسية، والسياسة الاقتصادية والاجتماعية، والسياسة الثقافية. واختزلت السياسة، في مجالاتها كلها، في نادي أهل السلطة، إلاَّ ما ندر. وكان هؤلاء النادرون من أهل السياسة النظيفة عاجزين عن اختراق تلك الحصون المحصنة في نادي الطبقة السياسية الحاكمة. وانكفأ المواطنون، في ما يشبه اليأس، عن الاهتمام بالشأن العام. وتراجعت إلى ما يشبه الموت الأحزاب كافة، لا سيما منها حاملة المشاريع الكبرى للتغيير، وغرقت في أزماتها. وتحولت النقابات العمالية ومؤسسات المجتمع المدني منابر احتجاج خجولة، غير واضحة الاتجاهات والرؤى، وفقدت صلتها بناسها. وتحول لبنان ساحة مختلفة في مواصفاتها وفي نوع اللاعبين وأهدافهم، عن الساحة السابقة التي كانت الحرب الأهلية صيغتها ومسرحها. إذ صار لبنان، في نظر اللاعب الجديد، حقل صراع بين قبائل تتحكم الغرائز في انقساماتها، فاقداً صلته بمقومات الوطن الحقيقي، مما جعله بحاجة إلى وصاية دائمة من قبل توأمه السوري. وفي وقت كان لبنان يعيش مأساته الجديدة كان العالم يشهد تغيرات كبرى وسريعة مذهلة في اتجاهات سيرها. وكان من نتائجها المباشرة أن القطب الأميركي الأوحد المهيمن على العالم وصل بقوته العسكرية إلى مسافة قريبة من حدودنا، من دون أن يدرك القابضون على مواقع القرار والمتحكمون بها في لبنان وسورية، وفي سائر البلدان العربية، معنى هذه التغيرات ومفاعيلها. وظلوا يمارسون سياساتهم وسلطاتهم كما لو أن شيئاً لم يحصل. ذلك أن العقول التي كان صدام حسين نموذجها الصارخ لا تملك القدرة على رؤية تطور الأحداث والأشياء لا بالعين المجردة ولا بالبصيرة. ويظل أصحابها يمارسون مغامراتهم وعبثهم حتى النهاية المفجعة. وهو ما حصل في العراق. وإذ يجد أصحاب هذه العقول أنفسهم في اللحظة الأخيرة أمام أقدارهم وأقدار شعوبهم، فإنهم لا يجدون مفراً من الانصياع للاعب الكبير الآتي من موقع هيمنته على العالم، ليقرر بالنيابة عن أصحاب القرار في بلدانهم، وبالنيابة عن أصحاب القضية الأصليين الغائبين والمغيَّبين، شعوباً وقوى تغيير، مصائرهم ومصائر بلدانهم. في الواقع ان البلدان العربية الآن تقف في هذه اللحظة الحرجة المفتوحة فيها التطورات على كل الاحتمالات. وتكاد تكون القضية اللبنانية اليوم في مثل ما هي عليه القضايا العربية الأخرى، لولا الانتفاضة الشعبية التي لم يشهد لها عالمنا العربي مثيلاً. فالأشقاء السوريون بدأوا سحب قواتهم واستخباراتهم من لبنان بغير الطريقة التي كان يريدها اللبنانيون. ينسحبون تحت الضغط الخارجي، وليس وفقاً لاتفاق الطائف، ولا تجاوباً مع إرادة الشعب اللبناني. لكنهم خلّفوا وراءهم أناساً ممن ينطقون، أو يدعون النطق باسمهم، غير مدركين أن اللغة التي يستخدمونها صارت بالنسبة الى سورية اليوم لغة ماضية، وأن استحضار مفردات التخوين من مخلفات الحرب الأهلية التي لم تعد تجدي نفعاً في إعادة الانقسام إلى اللبنانيين. وكأن هؤلاء يأملون، في سلوكهم هذا، أن تحصل معجزة ما، أو فتنة مفتعلة ما، تعيد لهم بقرار لبناني ذهب وقته، أو بقرار عربي ودولي ذهب وقته أيضاً، الوصاية السورية التي ذهب دورها. المطلوب تحقيقه من دون إبطاء هو مجموعة أمور تتحقق بالتزامن، بدءاً باستكمال انسحاب القوات السورية واستخباراتها إلى داخل الحدود الدولية، وأن يرافق ذلك تشكيل حكومة موثوقة ذات وظيفة واحدة هي تأمين الإشراف على الانتخابات النيابية، والشروع، باسم المجلس النيابي المنتخب، بتحقيق ما يطالب به اللبنانيون، من تحقيق مضامين الحرية والسيادة والاستقلال التي كانت مخطوفة من الداخل والخارج خلال الأعوام السابقة التي أعقبت انتهاء الحرب، وتغيير الطاقم السياسي القديم بكل رموزه، وإجراء مصالحة وطنية شاملة من خلال إنهاء ملفات الحرب من دون استثناء، والشروع في معرفة الحقيقة حول اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. والحقيقة في هذه القضية تتجاوز معرفة الذي دبر الاغتيال ونفَّذه، ومعاقبته، إلى تحرير لبنان في صورة نهائية من كل محاولة كانت ترمي إلى إلحاقه بأنظمة الاستبداد العربية، الذاهبة إلى الانقراض الواحد تلو الآخر. وواضح، بالنسبة إلى ما تشير إليه هذه الإرادة اللبنانية الجديدة الواعية، أن الجوهر الأساس في كل ما ترمي إليه هذه الخطوات في ترابطها ببعضها بعضاً، وفي تسلسلها الزمني، هو الذهاب في عملية الانتقال من لبنان الماضي إلى لبنان المستقبل إلى نهاياتها، من دون السماح لأي قوة داخلية أو خارجية بتضييع الاتجاه أو تشويهه أو حرفه عن الطريق الموصل إلى ذلك اللبنان الجديد المنشود، المولود في هذه العملية القيصرية، الأقل إيلاماً، بفعل التقاليد الديموقراطية اللبنانية العريقة، من أي عملية قيصرية مما نشهد مثيله بالقرب من حدودنا، العراق، وفي الأماكن البعيدة، السودان، وقبل كليهما الجزائر. إنَّ لبنان الذي يريده اللبنانيون اليوم مختلف، بالنسبة الى اللبنانيين والأجيال الشابة خصوصاً، وبالنسبة الى القوى السياسية على اختلافها، عما كانوا اختاروه وخبروا سيئاته في الجمهورية الأولى، قبل الحرب الأهلية وخلالها، وحتى في زمن الجمهورية الثانية، جمهورية الطائف التي ولدت ميتة بفعل الانقلاب على الطائف. لبنان الجديد هو لبنان الجمهورية الثالثة التي تنشأ اليوم، بفعل الانتفاضة الشعبية التي فجَّرها اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ودعت إليها قوى المعارضة، تطبيقاً متأخراً لبنود الطائف، في ظروف جديدة مختلفة جوهرياً عن الظروف السابقة، لم يعد ممكناً القفز فوقها. وهي ظروف نزعم أن اللبنانيين حينما خرجوا بكامل وعيهم وإرادتهم إلى الشارع إنما كانوا يريدون التأكيد بأن زمن المحاصصة الطائفية ولَّى، وأن لبنان الوطن الحقيقي الديموقراطي التعددي، هو الوطن الذي أعلنوا انتماءهم إليه. وهو الوطن الذي يريدون أن تكون مؤسساته ديموقراطية بالمعنى الكامل للمفهوم، وأن تكون لكل مؤسسة وظيفتها التي يحددها لها الدستور، من دون أدنى تجاوز لها، وأن تكون مؤسسة القضاء مؤسسة مستقلة محصنة ضد تدخل السياسيين فيها، وأن تكون القوانين التي تحكم الانتخابات كلها، البلدية والمحلية والنيابية، قوانين ديموقراطية، وأن يكون الجيش جيشاً لكل لبنان، جيشاً للدفاع عن الوطن، لا شريك له في وظيفته هذه أحد، ولا وكالة لأحد بالنيابة عنه للقيام بها، وأن تكون الأجهزة الأمنية معنية بما هو مطلوب منها في الحفاظ على أمن البلاد وأمن المواطن، والإقلاع نهائياً عن تدخلها وإدخالها في السياسة، وأن يُصار إلى تطهير الإدارة وتحريرها من كل فساد، وتحصينها، أسوة بكل مؤسسات الدولة، من كل تجاوز لصلاحياتها، بواسطة مؤسسات المراقبة، وبواسطة المجتمع الذي ينبغي أن يعمل الجميع لكي يكون ديموقراطياً بكل المعاني، وأن تكون مؤسساته ديموقراطية، وأن يكون المواطن، الذي هو الأساس في حياة كل وطن، مصانة حقوقه كاملة، من دون أي تمييز. هذا كله، بتفاصيله، يحدد مضمون شعار الحرية الذي يرفعه اللبنانيون في انتفاضتهم. أما السيادة والاستقلال فيحدد مضمونهما الحقيقي التأكيد من جانب اللبنانيين ومن جانب الأشقاء العرب جميعاً، لا سيما البلد الشقيق سورية، من دون أي التباس بأن لبنان بلد سيد مستقل، أسوة بكل البلدان العربية الأخرى، يقرر هو سياساته وخياراته من خلال مؤسساته التمثيلية ومن خلال أحزابه ومنظماته ومجموعاته المدنية على اختلافها. وهو إقرار لا يحق لأي فريق من اللبنانيين أن يخرقه باسم عقائد وسياسات ومشاريع واقتناعات إيديولوجية من أي نوع. على أن يترافق ذلك بتأكيد آخر، وهو أن لبنان جزء من الدول العربية، شريك لأشقائه في كل ما يتصل بالقضايا المشتركة من دون أن يحمّل، في أي شكل من الأشكال، أي عبء يفوق قدراته في أي من القضايا العربية المشتركة بما في ذلك في القضية الفلسطينية التي أعطوها أكثر مما في وسعهم. وكانوا أول من حرَّر أرضهم من الاحتلال الإسرائيلي، بالصمود فيها وبالمقاومة. وسيكونون آخر من يوقِّع سلاماً مع إسرائيل، إذا ما أتيح لهذا السلام أن يأتي. وانتماء لبنان العربي هذا لا يختلف عليه اللبنانيون. بل هم معنيون بأن يكون بلدهم شريكاً لأشقائه في إقامة اتحاد عربي من نوع الاتحادات التي تنشأ في عالم اليوم، على أساس احترام سيادة كل بلد. لكن عملية التغيير هذه التي تعبِّر عنها مضامين الشعارات التي يرفعها اللبنانيون في انتفاضتهم، إنما تتطلب أن تكون القوى السياسية على اختلافها خرجت جميعها من الحرب الأهلية ومن منطقها، وبدأت تمارس نقدها لتاريخها السابق كله، من أجل أن تتحول إلى قوى ديموقراطية في تعاملها مع المنتمين إليها، وفي تعاملها مع بعضها بعضاً من دون أفكار مسبقة، وفي تعاملها مع شعبها، وأن يكون الطائفيون بينها قد بدأوا يشعرون بالحاجة الوطنية إلى الخروج الحقيقي من الصيغة التي شهدنا نماذج صارخة عنها في كل العهود، منذ الاستقلال وحتى هذه اللحظة التاريخية التي نعيش تحولاتها الكبرى في اتجاه المستقبل. وعندما يصبح لبنان، مثلما هو سائر في اتجاهه من الحرية والسيادة والاستقلال والالتزام بالنظام الديموقراطي التعددي، يصبح أكثر قدرة على إقامة علاقات صحيحة مع أشقائه، لا سيما الأقربين إليه في التاريخ والجغرافيا، سورية، وغداً فلسطين بعد أن تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة، على قاعدة الاحترام المتبادل لسيادة وخصوصية كل بلد، وفي ضوء المصالح المشتركة. إن مصلحة لبنان وسورية، ومصلحة الشعبين الشقيقين، ومصلحة كل اللبنانيين على وجه الخصوص، هي أن تتم عملية التغيير الجارية من دون تدخل خارجي من أي نوع . فللخارج دائماً مصالحه. ومصالحه، حتى وإن تقاطعت في لحظات معينة مع مصالحنا، فإنها تبقى مصالح خارجية، يحدد دورها اللاحق في بلداننا مستوى قدراتنا المتدني، يا للأسف، وتفكك بلداننا بفعل سيادة أنظمة الاستبداد فيها. كما يحدده حجم القوى المتدخلة، وموقعها الراهن في ظل المتغيرات الكبرى التي يشهدها العالم منذ مطالع العقد الأخير من القرن الماضي. أما قضايانا الداخلية، ذات الصلة بترتيب بيتنا وشؤوننا، من سلاح المقاومة، إلى وضع المخيمات الفلسطينية، إلى نوع السلطة، إلى كل ما يتصل بإعادة ترتيب العلاقة بين القوى السياسية من مواقعها المختلفة، فتلك أمور سيجد اللبنانيون الصيغة الأفضل لحلها وحدهم، وبإرادتهم، وبوعيهم لمصالح تطور بلدهم، ومن موقع المسؤولية الوطنية، التي هي الأساس في كل الظروف. * كاتب لبناني.