لعلنا لا نبالغ إذا ما خرجنا بالاستنتاج من رد الفعل اللبناني والعربي والعالمي، شعبياً وسياسياً، على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بأن المشهد يكاد يكون هو ذاته، وإن في ظروف تاريخية مختلفة، الذي عرفه لبنان في أعقاب اغتيال قائد الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط في المرحلة الأولى من الحرب الأهلية. ويكاد يكون هو ذاته، وإن في ظروف تاريخية مختلفة أيضاً، المشهد الذي عرفته مصر وعرفه العالم العربي والعالم في أعقاب وفاة الزعيم العربي الكبير الرئيس جمال عبدالناصر في صورة مفاجئة. ونسارع الى القول بأن لكل من الثلاثة الكبار، في بلديهما وفي الوطن العربي وفي العالم، مواقع وسياسات وسمات تختلف عن الآخرين في أمور عدة، وتختلف، في الوقت عينه، ظروف الزمان والمكان ووقائعها والمنعطفات التاريخية التي وقع فيها كل من الأحداث الثلاثة المفجعة. والمقارنات التبسيطية بين الأحداث التاريخية وبين الشخصيات التاريخية هي، في كل الأحوال، من أكثر المقارنات سذاجة وبؤساً، ومن أكثرها بُعداً عن الواقع وخروجاً على قوانين حركة التاريخ. ولا يغير في ذلك شيئاً تكرار المشهد، حتى في أكثر أشكاله تعبيراً عن المشاعر الانسانية، وتجسيداً للمأساة التي تعيشها الشعوب وهي تواجه أقدارها. واغتيال رفيق الحريري، بالقوى والأدوات القديمة ذاتها، هو الدليل القاطع على أن عصرنا العربي البائس لا يزال بائساً، ولا يزال على شعوبنا أن تدفع من حياتها ثمن ذلك البؤس، الى أن تنضج الشروط التي تجعلها قادرة على إحداث التغيير الذي ينقلها من هذا الواقع المأزوم الى مستقبل أكثر أمناً واستقراراً، وأكثر حيوية وأكثر حرية وتقدماً وعدالة. وفي الواقع، فإن اغتيال شخص من نوع الرئيس الحريري، في مثل الظرف التاريخي الذي يمر فيه لبنان وتمر فيه المنطقة العربية برمتها، هو حدث استثنائي بكل المقاييس. ولن نكرر هنا ما قاله الكثيرون بصدق، أو بغير صدق، حول شخصية الرجل الاستثنائية، التي لا يبدد هذا التوصيف لها الاختلاف مع الرجل في سياسته، أو في بعضها على الأقل. ذلك ان صفة الاستثنائي في شخصية الرئيس الشهيد هي صفة أعطته إياها جملة من المهمات التي التزم بها وانخرط في تحقيقها، داخل لبنان وخارجه، من داخل المسؤولية في السلطة ومن خارجها، بما في ذلك في السياسة وفي العمل الاقتصادي والاجتماعي والعمراني والثقافي. وهي مهمات لم يسبق أن اجتمعت في شخص مثلما اجتمعت في شخص الحريري. فهل كان ذلك من مصادفات التاريخ التي تأتي على غير موعد، أم ان الظروف الخاصة التي رافقت انتقال العصامي من رجل أعمال الى رجل سياسة، في مواقع المسؤولية تحديداً، هي التي أسهمت في تكوين هذه الشخصية الاستثنائية؟ غير أن ما هو أهم من هذه الأمور يكمن في اختيار هذا الظرف السياسي بالذات في لبنان وفي المنطقة لجعل الحريري هدفاً للاغتيال بهذه الطريقة الوحشية التي كثيراً ما يلجأ اليها العابثون بمصائر الشعوب، عندما يقررون في شكل جنوني إزالة العقبات التي تعترض، أو تحاول اعتراض، مشاريعهم العبثية، مثلما هي الحال في لبنان. وهو، بالتحديد، الظرف الذي يحاول فيه الحريصون على حرية لبنان وعلى استقلاله، في ما يشبه الصحوة الوطنية، على إخراجه، ولو بصعوبة قصوى تصارع المستحيل، من الأسر الى الحرية، ومن الاضطراب الى الاستقرار، ومن الخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الى العافية التي يستحقها أهله، بعد كل التضحيات التي قدموها، طوعاً وكرهاً، في معاركهم الوطنية وفي معارك العرب الكبرى. لم يكن اغتيال الحريري، إذاً، إلا جزءاً من سياسة عامة طال أمد فعلها التدميري في لبنان، التدمير الذي طاول ماضيه وحاضره، ويستهدف اليوم مستقبله، وهو فصل من فصول سابقة لا تزال تحتفظ بها ذاكرة اللبنانيين، استهدفت كباراً من بلادنا في مواقع المسؤولية، وكباراً آخرين من أهل السياسة والثقافة، من دون أن توفر المرجعيات الدينية. إلا أن اختيار هذا الوقت بالذات لتنفيذ عملية الاغتيال إنما يشير الى ان الأزمة اللبنانية دخلت في منعطف جديد، لعله المنعطف الأكثر حسماً في تاريخ هذه الأزمة المستعصية على الحل. يقودنا الى هذا الاعتقاد، الحامل إشارات تفاؤل حذرة، حدثان كبيران راهنان، أحدهما لبناني والآخر عربي. يتمثل الأول في ولادة معارضة من نوع غير مسبوق في تاريخ لبنان منذ الاستقلال، ومتعددة القوى والسياسات والتواريخ والمصالح والأمزجة. لكنها استطاعت، على رغم حداثتها وتنوعها المدهش المثير للجدل وللحذر، أن تلتقي على قواسم مشتركة، وطنية وديموقراطية في جوهرها، من دون أن يتخلى أي من الفرقاء المنضوين في التحالف عن أفكاره وعن توجهاته وعن مشاريعه. الوطني في هذه القواسم يتمثل بالدعوة الى تحرير لبنان من أسر الوصاية السورية عليه، بعدما طال أمدها، والتحرر من هذا النمط المفرط في الفساد الذي دمَّر البلاد، والتحرر من الاتجاه المتزايد نحو إقامة دولة أمنية. وهو تحرر متعدد الوجوه يرمي الى تحقيق سيادة هذا البلد واستقلاله واستعادة قراره الحر، والى الانتهاء من كل حديث معلن أو مضمر، قديم أو حديث، عن أن لبنان وطن مصطنع، وأن مصيره الحتمي هو أن يظل خاضعاً، بالإكراه وبالأمر الواقع، وبالتهديد بالحرب الأهلية، لإدارة شؤونه من خارجه. ويتمثل الجانب الوطني من هذه القواسم، أيضاً، بالدعوة الواضحة الخالية من أي التباس الى إعادة صوغ العلاقة مع سورية، في صورة عميقة ومميزة، على قاعدة هذه السيادة والحرية والاستقلال للبنان. أما الديموقراطي في هذه القواسم المشتركة فيتمثل، ولو من الناحية المبدئية، في إعادة لبنان الى نظامه الديموقراطي المخطوف، والى تقاليده الديموقراطية التي اختلف فيها هذا البلد العربي على الدوام عن جميع أشقائه في البلدان العربية الأخرى. كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري، في جوهر موقفه السياسي، جزءاً من هذه المعارضة الجديدة الناشئة، من دون أن يعلن ذلك جهاراً. لكنه كان يقترب من ذلك الإعلان، مدفوعاً الى ذلك دفعاً، لكثرة الاستفزازات التي كان عرضة لها في صورة متواصلة من أهل السلطة ومن امتداداتها، ولو بالواسطة، أعني سلطة الوصاية السورية. وكانت محاولة اغتيال النائب مروان حمادة رسالة الى أولئك الذين كان الحريري يمثل موقعاً رئيساً بينهم. أما الحدث العربي فيتمثل في ما نشهده من بداية تحولات كبيرة وصعبة، في اتجاه إخراج العالم العربي، بلداً بلداً، ولو من خارجه، ولمصلحة المتدخلين الخارجيين، من حال التخلف والاستبداد والفساد والدمار، الى حال أخرى يقرر نوعها وحجمها مدى قدرة الشعوب العربية وقواها الحية على استعادة إرادتها لتقرر مستقبلها بحرية، ولتحدد مكانها، الى جانب شعوب العالم الحرة، في قلب حركة التاريخ المعاصر. لكن اغتيال الحريري، والصدى الذي أحدثه في لبنان وفي العالم العربي وفي العالم، وضع المسألة اللبنانية في المكان الذي لم يكن يريد أحد من الوطنيين اللبنانيين أن توضع فيها. إذ أصبحت المسألة اللبنانية مسألة دولية بامتياز، من خارج إرادة اللبنانيين، أي قبل أن تصبح هذه الإرادة موحدة وجامعة وقادرة. وهذا التدويل لا يزال في أول الطريق. وجاءت بداياته مع القرار الرقم 1559، الذي قاد الى اتخاذه في مجلس الأمن قرار خال من المسؤولية، اتخذ، لبنانياً وسورياً، بالتمديد للرئيس إميل لحود، ضد الدستور نصاً وروحاً، وفي الاتجاه المعاكس لآمال اللبنانيين بالخروج من النفق المظلم الذي وضعوا فيه منذ عقود. وتدويل المسألة اللبنانية إنما يجعل لبنان، بعكس ما كان يريد أهله والوطنيون والديموقراطيون من قواه الحية، جزءاً من تلك التحولات التي تجري في بلدان عربية أخرى، بطريقة قيصرية، وبدور خارجي، تتعدد أشكاله وتختلف صيغه، من عسكرية وسياسية واقتصادية، وتتقاطع المصالح فيه، موضوعياً بين أهله الذاهبين الى حريتهم بالنضال وبالتضحيات الجسام، وبين القوى الخارجية المتدخلة، التي لها مصالحها الخاصة بالتأكيد. وتقاطع المصالح في ما نحن إزاءه في لبنان اليوم من وضع مأزوم وخطير، بعد العراق بالأمس، وفلسطين غداً أو بعد غد، يتطلب من الوطنيين اللبنانيين إعمال العقل، والأخذ بالواقعية السياسية، من جهة، والحذر إزاء القوى الكبرى التي دخلت على خط الأزمة بقوة، من جهة ثانية، والذهاب، من جهة ثالثة، في معركة الحرية لبلدهم على قاعدة واضحة من السيادة والاستقلال لا تقبل المساومة. ولعل أهم ما يجب استخلاصه من اغتيال الحريري، ومن حجم الغضب الذي أثاره في صفوف الكثرة من اللبنانيين من كل الجهات والاتجاهات ومن كل الطوائف، في ما يتجاوز المعارضة حجماً ووزناً، هو الاستعداد غير المسبوق لدى اللبنانيين عموماً، ولدى الشباب خصوصاً، للاندماج في حركة وطنية من نوع جديد، أقرب ما تكون الى ما أعطته المعارضة صفة الانتفاضة من أجل الاستقلال الحقيقي. وهو استقلال سيحرص فيه اللبنانيون حتماً، من مواقعهم المختلفة، ربما في شكل أرقى من أي وقت مضى، على أن يكون تمسكهم بحرية بلدهم وسيادته الأساس الراسخ لتطوره الديموقراطي، أولاً، وللتعامل، في الوقت عينه، في المجالات كافة، مع الأشقاء العرب في بلدانهم المختلفة، وبالأخص منهم الأشقاء السوريون، وذلك على قاعدة واضحة من الديموقراطية والمصالح المشتركة. والمدهش في هذا التطور العاصف، الذي لم تكتمل فصوله بعد، هو أن السياسة التي كانت غابت وغيبت في العقود السابقة عادت من جديد بمستويات أرقى الى الشعب اللبناني بكل فئاته من الباب الواسع. فالحديث في السياسة أصبح بعد اغتيال الرئيس الحريري الحديث اليومي عند جميع اللبنانيين. وهو حديث يمتزج فيه الغضب بالقلق وبالأمل، الغضب الذي أثارته جريمة الاغتيال وما سبقها من جرائم سياسية واقتصادية واجتماعية، والقلق من أن يتحول الإصرار من قبل أهل الحكم في لبنان، مدعومين من الأشقاء السوريين، على البقاء في سياسة المكابرة والمغامرة ذاتها، وصولاً الى احتمال وقوع ما لا يريد اللبنانيون تكراره من صراعات وانقسامات وفتن، والأمل بأن يتمكن هذا الإجماع اللبناني الشعبي المتنامي المتصاعد من تغيير مسار الأحداث في اتجاه الخلاص من مآسي الماضي ومن الكوارث التي نتجت منها وارتبطت بها. وهي أمور تبشِّر جميعها بالانتقال عند اللبنانيين من حال يأس طال أمدها الى رحاب مستقبل جديد مملوء بالوعود، ولو على مراحل، ولو بالتدريج. ويشكِّل هذا التحول في مشاعر اللبنانيين وفي وعيهم فرصة تاريخية كبيرة لإحداث التغيير. والتغيير هنا لا يقتصر على اجراء موقت هنا، مثل استقالة الحكومة والذهاب بالتحقيق في جريمة الاغتيال الى مداها النهائي، وهما مطلبان ينبغي الإصرار عليهما الى أن يتحققا، ولا يقتصر كذلك على انسحاب القوات السورية من لبنان، تطبيقاً، ولو متأخراً، لاتفاق الطائف، وتصحيحاً عملياً، ولو متأخراً، للسياسات التي أوصلت لبنان الى المأزق الخطير الذي هو فيه الآن، وتجنيباً لسورية العزيزة علينا المخاطر التي يمكن أن تقود اليها مغامرات غير محسوبة النتائج. إن التغيير الحقيقي في لبنان إنما يتمثل أساساً في قدرة القوى الحية من الأجيال الجديدة من اللبنانيين على الانخراط في إعادة صوغ المشاريع التي ترسم صورة لبنان المستقبل، لبنان الديموقراطي الحقيقي، المتحرر، ليس من الوصاية وحسب، بل المتحرر أصلاً من الفساد الذي شاع على امتداد العقدين الأخيرين، فدمَّر الدولة والمجتمع، وفكك عناصرهما، وعطّل عملية تطور لبنان، وشوَّه فكرة التكامل بينه وبين أشقائه العرب، وأخَّر فكرة اندماجه في المجتمع الدولي وفي تحولاته الكبرى، من دون أن يلغي هويته، أو يتجاوز مصالحه، ومن دون أن يمس استقلاله وسيادته. وهذا التغيير، الذي افتداه الرئيس رفيق الحريري بحياته، إنما تهيئ له شروطه، الى جانب ما أشرنا اليه من صحوة لبنانية ومن انتفاضة شعبية، بداية انهيار الركائز التي قامت عليها سلطة الدولة اللبنانية في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، على أنقاض اتفاق الطائف، كوثيقة للوفاق الوطني بديلاً من الحرب الأهلية، تحولت الى دستور. إن مستقبل لبنان، الذي كان للرئيس الشهيد رفيق الحريري مشروعه الخاص حوله، هو القضية التي تستحق أن تكون لها الأولوية في هذه اللحظات الصعبة بالنسبة الى كل اللبنانيين، حتى وإن اختلفت حتى التناقض أفكارهم وآراؤهم واتجاهاتهم. ذلك أن حجم الحدث الذي عبَّر عنه الاغتيال والصدى الذي أحدثه، يهيئان بقدر كبير الشروط لجعل هذه اللحظات الصعبة منعطفاً حقيقياً، ولو مؤلماً، في اتجاه مستقبل أفضل للبنان. كاتب لبناني.