أواخر شهر كانون الثاني يناير 2005 تسنت لي زيارة لبنان بعد غياب دام 16 عاماً. والتقيت كوادر وقادة فصائل منظمة التحرير في بيروت وصيدا وصور. وغمرني، بلطفهم وكرمهم، أصدقاء لبنانيون قادة وكوادر من"الحركة الوطنية اللبنانية"، الاطار الذي جمع قوى وشخصيات لبنانية في مرحلة الحرب الأهلية التي دامت أكثر من خمس عشرة سنة. ومددت اقامتي بضعة أيام لتتسنى لي زيارة أماكن لي فيها ذكريات والاستمتاع أكثر بجمال جبل لبنان وساحله ومدنه بخاصة بيروت التي زادتها مشاريع رئيس الوزراء اللبناني السابق المرحوم رفيق الحريري جمالاً وأهمية اقتصادية، خصوصاً ترميم وسط البلد وساحة النجمة والبرلمان ومنطقة الفنادق التي كانت يوماً ميدان قتال مرير. ومددت الاقامة ايضاً لغرض أهم، هو استكمال اتصالاتي ولقاءاتي بأشخاص وقوى جمعتنا صداقة شخصية ونضالية عميقة ولم يبخلوا يوماً في التضحية من أجل بلدهم ومن أجل فلسطين، وقدموا أعز ما يملكون. فتحوا لمنظمة التحرير وقيادتها صدورهم وبيوتهم. ودافعوا عنها من دون تردد. دافعوا عنها وهي مظلومة من الأعداء والأشقاء، ودافعوا عنها وهي ظالمة لنفسها ولشعبها واللبنانيين. دافعوا عن الثروة بمختلف فصائلها منذ وجدت في بلدهم وشاركوا القتال ضد اسرائيل. وفي حرب 1982 صمدوا في مواجهة الغزو الاسرائيلي ولم يحقدوا على الثورة الفلسطينية على رغم ان وجودها كان سبباً في الدمار الذي لحق ببلدهم. وعندما تعرضت المخيمات بين 1984 - 1988 لحرب ظالمة من الأشقاء انبروا للدفاع عنها، ودخلوا في صراع مع قادة حركة أمل ومع الأشقاء السوريين. وأخفوا في بيوتهم ومناطق نفوذهم قادة وكوادر في الثورة صاروا مطاردين بعد رحيل قيادة وكوادر ومقاتلي منظمة التحرير عن بيروت عام 1982. الى ذلك، اعترف بأنني غادرت بيروت مطلع شباط فبراير بشعور مختلط. سعدت بزيارة بلد أحببته وبلقاء اصدقاء احترمهم بعد غياب تغير خلاله كل شيء فينا الا الصداقة التي جمعتنا. ومن جهة أخرى غادرت قلقاً حزيناً، ولم يغادرني القلق منذ لقاء الصديق وليد جنبلاط الذي ختمت به الزيارة. كان اللقاء قصيراً وجاء متأخراً وتم بعد تأجيل قسري سببه لقاء طارئ جمعه بقطب المعارضة الوطنية الثاني الرئيس الحريري. كل لقاءاتي السابقة مع الصديق وليد كانت مريحة وممتعة، لكن هذا اللقاء كان مختلفاً شعرت برجفة خوف قوية هزتني من الأعماق وأنا استمع الى حديثه الواضح والصريح، كابرت على نفسي ونجحت في اخفائها عنه وعن صديق فلسطيني شاركني اللقاء. اهتزت مشاعري بقوة عندما رد من دون نقاش أو تردد على استئذاني بنشر كتاب"مغدوشة"الذيأ عرض لمجريات الحرب على المخيمات ومواقف القوى الوطنية اللبنانية، وقال: انشر، لم يعد لدي ما أخاف عليه واخشاه. يبدو اننا في عام 1977 - 1978 حيث كان الانقسام الداخلي عميقاً وخطيراً، وكان التوتر مع الشقيقة سورية على أشده وفي ذلك العام المشؤوم اغتيل كمال جنبلاط ووقعت حوادث كبرى في البلد والمنطقة. قلت: لكن الكتاب يتحدث عن دور الحزب التقدمي ودور وليد شخصياً في مساندة حركة"فتح"والجبهة الديموقراطية عسكرياً وسياسياً ومعنوياً في مواجهة حركة"أمل"ومن ساندها في حربها الظالمة على المخيمات. قال:"انشر، من يدري ماذا تخبئ لنا الأيام، هذا تاريخ يجب أن يعرفه الناس". وعند عودتي الى رام الله تحدثت مع من يعنيهم أمر لبنان ومصير الفلسطينيين فيه. رويت ما سمعت وشاهدت وكنت في كل مرة أنهي الرواية بمشاعر حزن وقلق على لبنان والمخيمات، وعلى حياة جنبلاط والأصدقاء الآخرين. وحتى اللحظة لم يغادرني القلق ويتحول أحياناً الى كوابيس، ويلاحقني قوله وهو يودعنا:"يريدون قتل وليد والانسان يموت مرة واحدة"..."لا مجال للتراجع في الدفاع عن استقلال لبنان". وجاء اغتيال رفيق الحريري وأعاد شريط الزيارة كاملاً ونبه ذاكرتي لكل كلمة سمعتها من الأصدقاء الفلسطينيينواللبنانيين حول الاتجاهات الخطرة المنحدر نحوها وضع لبنان بتسارع شديد. سمعت كلاماً عن تفجير الوضع الأمني والعسكري بين القوى اللبنانية وضرب بعضها ببعض، وانفجار الصراع بين قوى واجهزة أمن السلطة وقوى في المعارضة الاسلامية والمسيحية. وسمعت كلاماً حول توزيع السلاح بكثافة في بيروت الغربية. وكيف تلقى قادة فصائل العمل الوطني الفلسطيني في لبنان تشجيعاً على تنفيذ عمليات عسكرية ضد اسرائيل من جنوبلبنان، واعادة احياء قوة الكفاح المسلح كقوة أمن داخلي في كل المخيمات بدءاً من الرشيدية جنوباً مروراً بمخيم بعلبك في البقاع وانتهاء بمخيمي نهر البارد والبداوي في الشمال، وعدم الانضباط لمواقف السلطة اللبنانية وطلباتها... الخ. لا شك في أن اغتيال رفيق الحريري خسارة كبيرة للبنان ولتيار الواقعية والاعتدال ودعاة نشر التقدم والديموقراطية في العالم العربي. وخسارة للقضية الفلسطينية وشعب فلسطين خصوصاً ناس المخيمات في لبنان. وعلى رغم ملاحظات خصومه إلا أن جميع اللبنانيين في مختلف الطوائف يقدرون دوره ليس فقط في انعاش الاقتصاد واعادة اعمار ما هدمته الحروب، بل وأيضاً في لملمة جراح الفلسطينيين في المخيمات وجمع اللبنانيين في مؤتمر الطائف، ودوره المتواصل حتى وهو في موقع المعارضة في تثبيت السلم الأهلي وبناء تحالفات داخلية ساهمت في انقاذ لبنان من مطبات كبيرة. ويقدرون دوره في تحسين صورة بلده في الحقلين الدولي والاقليمي واستعادة مكانته العربية والدولية والاقتصادية. وبصرف النظر عن نيات وأهداف من دبر الجريمة، وكان بارعاً في التخطيط والتنفيذ، فعملية اغتيال الحريري جاءت بعد تهديدات تلقاها وترافقت مع اتهامه علناً بالخيانة والعمالة للأجنبي. وأظن ان ملف الجريمة لن يبقى محصور التداول في حدود قصر العدل اللبناني، ويجب على جميع المتهمين قراءة ابعاد تحرك فرنسا والادارة الأميركية والأمم المتحدة لمعرفة الفاعل ومعاقبته بدقة وإمعان. وفي سياق الدفاع عن النفس ورد الفعل، لم تتردد المعارضة في المطالبة بتدويل القضية، ودعت العالم للتدخل وحملت السلطة اللبنانية وسورية المسؤولية، ولم تتورع عن الحديث عن انتداب دولي إذا كان في ذلك ما يخلصهم من وصاية واحتلال الشقيقة الكبرى الذي دام حسب تعبيرهم أكثر من ثلاثين سنة ونهايته لا تزال مجهولة بعكس كل الانتدابات الدولية التي لها دائماً زمن معروف. شخصياً، لست من أنصار التطير في تقدير الموقف واعتبر بعض ما قيل يندرج في اطار رد الفعل والمبالغات السياسية والأمنيات الخاصة. صحيح ان الزلزال حرك عاصفة قوية لكنني لا اعتقد بأن لبنان مقبل على حرب أهلية جديدة على غرار ما حصل في 1975 - 1990 أو سيدخل في حرب عسكرية مع سورية. وإذا كان ما يجري على أرض لبنان في هذه الأيام يشبه مقدمات الحرب الأهلية السابقة، فالوضع الذاتي مختلف والانقسام الداخلي لا يحمل في ثناياه حرباً طائفية، والمعارضة تضم في صفوفها الدروز والسنة أنصار الحريري والموارنة، وطيفاً واسعاً من بقية الطوائف المسيحية. ولا مصلحة للطائفة الشيعية في التورط في مواجهة المعارضة دفاعاً عن النظام اللبناني وعن سورية. كما وأن العامل الدولي وامتداداته الاقليمية الذي لعب دوراً حاسماً في تفجير تلك الحرب وادامتها قد تغير تماماً مع انتهاء الحرب الباردة بين قطبيها الاتحاد السوفياتي سابقاً والولايات المتحدة الأميركية. وتبخر كمفجر للحروب بعد انهيار سور برلين وسيادة ارادة قطب واحد أميركا في تقرير السياسة الدولية وضمنها النزاعات المحلية والاقليمية. الى ذلك، يخطئ من يعتقد ان عدم انزلاق البلد في حرب أهلية جديدة يعني تبدد الغيوم السود التي تجمعت في سماء لبنان وسورية. ومن يريد نشر الفوضى والقتل والتخريب لن يعدم وسيلة وبعض الذي يجري في العراق نموذج قابل للتعميم. واغتيال الحريري ومرافقيه زلزال قوي هز المنطقة برمتها ويصعب الآن تقدير تفاعلاته الأمنية والسياسية والاقتصادية، التي ستتخطى حدود لبنان وتطال دول الجوار، وسيكون له أثر واضح على العلاقة السورية - اللبنانية، والسورية - الأميركية والأوروبية وعلى عملية السلام في مساراتها الثلاثة: الفلسطيني والسوري واللبناني، وقد تظهر لاحقاً في العراق وايران. في كل الأحوال يجب أن يعرف جميع الفرقاء ان الفلسطينيين في لبنان ليسوا طرفاً في هذا النزاع. وعلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والقيادة الفلسطينية في لبنان التنبه الى ابعاد اتهام فلسطيني يدعى احمد أبو عدس يسكن في الطريق الجديدة بالجريمة. فهذه اشاعة ليست بريئة هدفها أبعد من تضليل التحقيق، وهي حركة استخباراتية مكشوفة لتسليط الأضواء على الوجود الفلسطيني في لبنان باعتباره منبع ارهاب. وإذا كانت القيادة الفلسطينية لم تراجع تجربة الثورة في لبنان، ولم تعترف رسمياً بخطأ تورطها في الحرب الأهلية ولم تعتذر عن مقولة تحرير فلسطين يمر عبر عينطورة وجونية، فإن مؤازرة طرف ضد آخر، والحديث عن فتح جبهة جنوبلبنان ضد اسرائيل، يلحقان أذى بالغاً بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني وبخاصة الفلسطينيين في لبنان. لا جدال في أن اغتيال الحريري جريمة كبرى لا تغتفر، يدينها الفلسطينيون في كل مكان ويرون في توريط المخيمات الفلسطينية في الموجة الجديدة من الصراع في لبنان جريمة لا تقل عن جريمة الاغتيال، بغض النظر عن الساعي للتوريط فلسطينياً كان أو لبنانياً أو سورياً، ويتضامنون مع أهل الشهيد ويعزون أنفسهم بالفقيد، ويتضامنون في كل الظروف والأحوال مع نضال الشعب اللبناني ضد الارهاب، ويتمنون أن ينجح في صون وحدته وتجنب الفتنة وصون تراث رفيق الحريري الوطني والانساني. * كاتب فلسطيني، رام الله.