من يتبصر في تاريخ لبنان الحديث يرى ان ظاهرتي التقسيم والوحدة، على رغم تناقضهما في الشكل والجوهر، تتعايشان قسرا في اطار جدلية تاريخية مزمنة من دون ان يقدر لاي واحدة منهما ان تلغي الاخرى. فلا محاولات التقسيم على وفرتها ادت الى تجزئة لبنان كانتونات ودويلات تفصل بينها حدود جغراسية مصطنعة، ولا تسويات الداخل والخارج وما نجم عنها من اتفاقات وطنية مكتوبة وغير مكتوبة انتجت كيانا سياسيا واحد موحدا لجميع بنيه، وكأن قدر هذا البلد ان يبقى معلقا على خط تماس يفصل بين التقسيم والوحدة، ما جعله دائما معرضا للاهتزازات والاضطرابات والثورات الاهلية لعجزه عن حل التناقضات التاريخية التي ما تزال تتحكم في تكويناته الاجتماعية والدينية والثقافية. باختصار، ما تزال ثقافة التقسيم والوحدة تتفاعل سلبا في نفوس اللبنانيين الذين لم يحسموا خياراتهم النهائية في هذا الاتجاه او ذاك. فلا هم يذهبون بالتقسيم الى نهايته، ولا يسيرون في مشروع الوحدة حتى انجازه الكامل، والكل يدور في حلقة مفرغة يعجز فيها عن تقسيم البلد اكثر مما هو منقسم، وعن توحيده اكثر مما هو موحد، علما، وللمفارقة، ان الجميع يدعي الحرص على الوحدة ويضمر التقسيم في دواخله. واللافت انه في كل مرة تشتد فيها نزعة التقسيم كان يقابلها اصرار على الوحدة، فيجري انقاذ لبنان في اللحظات الحرجة ويعاد تعويمه موقتا من دون تنظيف الساحة الداخلية من عوامل التفجير المزمنة التي سرعان ما كانت تشتعل بعد مرور عقد ونصف عقد من الزمن او ما يزيد قليلا عند اول احتكاك في تضارب المصالح الفئوية. ففي عام 1943 وجد لبنان نفسه للمرة الأولى في عهده الاستقلالي امام خيار بين التقسيم والوحدة وعلى الخلفيات الطائفية والثقافية والايديولوجية ذاتها، فجرى استيعابها واحتواؤها بتوافق الداخل والخارج تقليد سائر عند كل استحقاق مصيري، فكانت تسوية"الميثاق الوطني" اول"عقد طوائفي"غير مكتوب بين اللبنانيين على قاعدة "العيش المشترك"التي سرعان ما تبين في ما بعد انها اكذوبة لبنانية بامتياز لاخلالها بشروط العقد ومضامينه الوطنية والوحدوية، ما اسس لحال تقسيمية مهدت لنشوب"ثورة"عام 1958 الطائفية، فانتهت الى مصالحة وطنية تحت شعار"لا غالب ولا مغلوب"الذي لم يكن في جوهره سوى هدنة موقتة ريثما يستعيد افرقاء النزاع انفاسهم لينقضوا هذه المرة على الوطن بكامله ويشعلوا فيه حربا اهلية طائفية لم يشهد لبنان لها مثيلا لخطورتها واتساع رقعتها التقسيمية وشمولها، كسابقة تاريخية، كل مقومات الوطن ومرافقه من ارض وشعب ومؤسسات. وكالعادة يتكرر المشهد ذاته وتحسم خيارات اللبنانيين بتوافق قوى عربية واقليمية ودولية على بقاء لبنان وطنا واحدا موحدا لجميع ابنائه واعادة الاعتبار، وهنا المفارقة الكبرى، الى امراء الحرب والتقسيم وخروجهم من اتفاق الطائف عام 1989 ابطالا وحدويين ما زالوا الى اليوم يتناوبون على حكم البلاد والعباد. انطلاقا من كل ذلك يلاحظ ان كل الاتفاقات المبرمة بين اللبنانيين طيلة عهودهم الاستقلالية، كانت"اتفاقات الضرورة"ليس الا. فميثاق الوفاق الوطني الطائف، وان كان الافضل بينها لجهة الاجماع عليه واستدراكه لبعض الثغرات الخلافية التاريخية الكبرى بين اللبنانيين واعادة التوازن لبعضها الآخر، ابقى عمليا على المفاصل التقسيمية من جهة وتغاضى عن تنفيذ النصوص الوحدوية من جهة اخرى، فكرس طائفية الرئاسات الثلاث العرف المعتمد منذ عام 1943 وطائفية المناصب الادارية العليا في الدولة، في حين ابقى النص المتعلق بالغاء الطائفية السياسية لزوم ما لا يلزم وحبرا على ورق يتآكله الغبار ويلفه النسيان عاما بعد عام، لا لشيء الا لانه كان الانجاز الوحدوي الابرز في كل ما تضمنه الطائف من نصوص ولانه يعبر بصدق عن طموحات اللبنانيين ورغبتهم في الاصلاح والتغيير والتقدم سيما ان الطائفية السياسية كانت وما تزال علة العلل في النظام اللبناني ومصدر القلق الدائم على سلمه وامنه الاهليين. اما هوية لبنان العربية وان حسمها الطائف بنص دستوري لا يحتمل التأويل والاجتهاد، الا ان بعضهم ما زال يصر على انها ما تزال مسألة خلافية بين اللبنانيين. فمنهم من يكتفي بوجه لبنان العربي او بعلاقته المميزة مع اشقائه العرب، ومنهم من ينكر هذا وذاك ويتمسك بلبنانيته بمعنى الامة اللبنانية، ومنهم ايضا من يعود به الى اصول فينيقية او متوسطية. ولعل مرد هذا الحذر والتشكيك غياب النموذج العربي للدولة الحديثة دولة المواطنة والديمقراطية والحريات والقانون والعدالة والتنمية الذي من شأنه ان يشجع اللبنانيين على الاعتزاز والجهر بهويتهم وانتمائهم للعروبة خلافا لما يرونه من انظمة عربية قائمة على القهر والغلبة والاستبداد وانتهاك كرامة الانسان وحقوقه وحرياته. اما انقسامات اللبنانيين حول المسائل الداخلية الاخرى، وجلها ناجم عن تداعيات الطائف، فحدث ولا حرج. فأمام اي استحقاق سياسي او وطني او اجتماعي او دستوري تستنفر المشاعر الطائفية والمذهبية ويعود كل فصيل الى مرجعيته وتلتهب الساحة بالسجالات الاعلامية الساخنة المشحونة بخطاب تحريضي وتخويني، وتتقسم ساحات بيروت بتظاهراتها المليونية وشعاراتها بين مؤيدة للمقاومة وسورية ومناهضة لاميركا واسرائيل من جهة، وبين داعية الى استقلال لبنان وحريته وسيادته من جهة ثانية وصولا الى تدويل القضية اللبنانية برمتها. هكذا كانت الاجواء عشية التمديد لرئيس الجمهورية وما تبعه من انسحاب القوات السورية واجراء الانتخابات النيابية واغتيال مجموعة من الزعماء السياسيين والحزبيين وصدور مجموعة من القرارات الدولية وتخصيص لجان لاسيما في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ما يبقي لبنان، اقله في المدى المنظور، في حال من التشويش والقلق والانقسام والتجزئة علاوة على وقوعه مرة اخرى في مدار التدخلات الاجنبية. ويبقى الامل معلقا على تبصر اللبنانيين بما آل اليه حالهم من شرور الشرذمة والتفرقة والتعصب والتبعية، ويقينا ان مثل هذا الامل لا يمكن ان يتحقق الا بتأسيس عقد اجتماعي لبناني جديد يصنع في لبنان ولو لمرة واحدة. كاتب لبناني