المكان: سينما بيروت - ساحة البربير، غير بعيد من المتحف الوطني اللبناني، أي من الخط الذي سيقسم بيروت بعد ايام الى بيروتين، واحدة شرقية والثانية غربية... الزمان: يوم العاشر من نيسان ابريل 1975، أي قبل ثلاثة ايام من تلك القسمة الشهيرة... اما الموضوع فهو، بكل بساطة، ولادة السينما اللبنانية. لا نقول ولادة سينما الحرب اللبنانية... بل تحديداً، ولادة السينما اللبنانية. ففي ذلك اليوم، كان العرض، غير التجاري، الاول لفيلم"بيروت يا بيروت"، امام جمع من المشاهدين، من اعضاء النادي السينمائي العربي، وأصدقائهم، اضافة الى عدد من الصحافيين والمهتمين الآخرين. كان الفيلم يحمل توقيع مخرج لبناني شاب عاد حديثاً من بارس حيث درس السينما. كان فيلمه الاول ذاك قد انجز بكثير من الصعوبات والمشقات... وكانت احداثه تتوقف في احد الايام الاخيرة من شهر ايلول سبتمبر 1970، على حدث كان فاجعاً في حينه: موت الرئيس المصري جمال عبدالناصر، بالتزامن مع بدء انخراط الجنوب اللبناني في معركة سيطول امدها مع اسرائيل، اذاً احداث الفيلم توقفت قبل ما يقرب من خمسة اعوام من اندلاع الحرب"الأهلية"اللبنانية. ومع هذا، اعتبر الفيلم، منذ عرضه، وسيظل يعتبر دائماً فيلماً عن تلك الحرب... ارهاصاً بها، بوقوعها؟ على الاقل تلمساً للمناخات السياسية والطائفية التي ادت اليها. والاهم من هذا انه كان الفيلم الاول الذي يحاول ان يسمي الاشياء بأسمائها، ويقول ان ثمة في البلد انقسامات هي، اصلاً، من العمق، بحيث ستخرب البلد ذات يوم. وفي هذا المعنى كان"بيروت يا بيروت"فيلماً لبنانياً حقيقياً، يسير على غير السكة التي اعتاد ان يسير عليها نمط معين من انتاجات سينمائية كان سائداً في لبنان منذ ولادة فن السينما فيه، قبل ذلك بأربعة عقود وأكثر. بدايات... بدايات لقد قدم مارون بغدادي، يومها، هذا الفيلم المؤسس... ومع هذا لم يكن، هو، المخرج الاول الذي ارتبط اسمه بمشروع الولادة الجديدة للفن السابع في لبنان. فمن ناحية كان برهان علوية - الدارس في بلجيكا - سبقه بفيلم هو"كفر قاسم"- غير ان هذا الفيلم كان سورياً عن القضية الفلسطينية. وليس له من لبنانيته سوى جنسية مخرجه، ثم دور هذا المخرج الكبير في المرحلة التالية من مراحل ولادة المشروع السينمائي اللبناني - وسبقه ايضاً غاري غارابيديان، ثم كريستيان غازي، في شرائط طويلة"جدية"عن قضايا سياسية: العمل الفدائي الفلسطيني، اشجان المثقف اللبناني... غير ان هذين لم يكونا سوى طائرين يغردان خارج السرب... ثم ان غارابيديان قتل في حادث مريع وهو يصور فيلمه"كلنا فدائيون"... اما غازي فكان يعتبر مناضلاً وشاعراً يعبر عن نفسه، بالسينما... لا أكثر. مع مارون بغدادي، اذاً، تجسد المشروع... وولد الجيل الذي سيرقم خامساً، في مسيرة تاريخ السينما اللبنانية، بعد جيل المؤسسين - بيدوتي وعلي العريس، ثم جيل سينما الجبل - جورج قاعي وميشال هارون وجورج نصر... وجيل الانتاج المصري في لبنان. وأخيراً جيل المساعدين الذين كانوا وراء الانتاج التجاري مع معلمين مصريين هربهم الى لبنان تأميم القاهرة للانتاج السينمائي المصري. ولقد ضم الجيل الذي كان برهان علوية ومارون بغدادي رائديه، عدداً من فناني سينما آخرين، أتى معظمهم من السياسة وكان هذا جديداً ليس فقط على السينما اللبنانية، بل على معظم السينمات العربية... وكان من الطبيعي لهم ان يتعاطوا بالتالي في مشاريعهم، قصيرة كانت ام طويلة، مع السياسة، وخصوصاً مع شؤون الحرب وهواجسها اذ اندلعت بعد ايام قليلة من ولادة جيلهم... من هنا كان من الطبيعي ان يسمى ذلك الجيل: جيل الحرب... وهو ضم الى جانب علوية وبغدادي، جان شمعون الذي سرعان ما وجد نفسه ينخرط في السينما الفلسطينية، وهيني سرور، التي بعد بدايات لبنانية، نوعت اهتماماتها عربياً، وجوسلين صعب، التي انطلقت من الصحافة، الى الصحافة من طريق السينما، فإلى السينما الروائية فأبدعت الى حد لا بأس به، في كل المجالات التي خاضتها... وصولاً الى رندة الشهال، التي كانت بداياتها، بدورها، سياسية، وظل فيلماها الوثائقيان"خطوة خطوة"و"حروبنا الطائشة"افضل ما حققته حتى وان ظلت تصر لاحقاً على ان السينما الروائية مجالها المفضل... فلم تقنع... ولم تقتنع بالعكس! أجيال وأجيال طوال عقد ونصف العقد من السنين، صنع هؤلاء، وجورج شمشوم وأندريه جدعون، في ضفة اخرى، تلك السينما التي ارتبطت بالحرب اللبنانية... او لنقل ان معظمهم صنع حربه السياسية من طريق السينما... فتلك الآونة كانت مفعمة بالاختبارات السياسية والمواقف الايديولوجية، ومعظم هؤلاء الذين انتموا الى"جيل الحرب"وقفوا عند الضفة اليسرى، عن اقتناع او عن محاولة للخروج من الطائفية بمنطق علماني، او تيمناً بما كان يحدث في فرنسا وفي اوروبا... لا فرق. المهم انهم، فيما كانوا يصنعون اعمالهم، صنعوا السينما اللبنانية، وأسسوا لأجيال ستليهم عند نهاية القرن العشرين، من دون ان يكونوا، هم، تالين لأي جيل سبقهم او يحسوا بأي دين تجاهه. ومن هنا القول ان"بيروت يا بيروت"والى حد ما"كفر قاسم"طلعا كالنبتة الشيطانية من اللامكان... لكنهما عرفا كيف يصبان في كل مكان. ولئن كان لبنان حقق في الاعوام الاخيرة نجاحات سينمائية كبيرة حملت تواقيع دانيال عربيد وزياد دويري وأسد فولادكار وسمير حبشي وبهيج حجيج وغيرهم، فإن هذا النجاح ما كان من شأنه ان يبدو ممكناً لولا سنوات التأسيس"الحربية". ومع هذا يجب ألا يسهى عن بالنا ان ما من احد من الذين انتموا الى الجيل الاول، عمد في سينماه الى مدح الحرب او الدفاع عنها... فبرهان علوية الذي كان منذ البداية يحلم بفيلم"هذياني"يصف به هذه الحرب، ظل في افلامه"اللبنانية"التالية على موقفه الرافض للحرب الصارخ ضدها سواء حمل فيلمه"رسالة من زمن الحرب"او صرخة ضد زمن المنفى، او صورة مؤسسية لاستحالة اللقاء في بيروت. والراحل مارون بغدادي، الذي من دون ان يدافع عن الحرب افتتن بها، سرعان ما رمى ذلك الافتتان الذي عبر عنه، خصوصاً، في"حروب صغيرة" جانباً، ليقف ضد الحرب، حتى لو كانت حربه، في"خارج الحياة"و"الرجل المحجب"وحتى في افلام تبدو للوهلة الاولى غير ذات علاقة بلبنان وحربه"مارا"و"فتاة الهواء"... وحتى جان شمعون الذي لم يبد في افلامه الفلسطينية شديد الانتقاد للحرب، ما إن حقق فيلمه الروائي الطويل الاول، بعد الحرب بكثير،"طيف المدينة"حتى قدم مرافعة ضد الحرب لا لبس فيها ولا غموض... وما يقال عن هؤلاء"المؤسسين"يمكن ان يقال ايضاً عن افراد الجيل الذي تلاهم وخصوصاً ديمة الجندي وسمير حبشي... وعن رفاقهم من ابناء جيلهم الذين تأخروا في تحقيق مشاريعهم مثل جان كلود قدسي وبهيج حجيج... ومع هذا، فإن الهذيان... والمرافعة - الضد، والانتقاد، كانت كلها جوانية، تصدر عن أناس بدت الحرب وكأنها غدرت بهم... انحرفت في مسارها عما كانوا يريدونه لها... وكان على المهتمين ان ينتظروا ولادة سينما اخرى تتعامل مع الحرب، من الخارج... حتى لو استنكفت عن ادانتها: لكي تكتمل السينما اللبنانية، كان من الضروري ان يطلع جيل سينمائي يشعر انه تماماً خارج الحرب... لا داخلها، وبالتالي ليس عليه، ان يستصدر شهادة حسن سلوك تبرئه ولو من شبهة الايمان لحظة بأن الحرب كانت وسيلة ل"التغيير"، أي لتطهير البلد من ضروب فساده الطائفية والانقسامية والسلطوية وما شابه. وهذا الجيل برز، في الحقيقة، ومنذ اواسط التسعينات... من دون ان يفوته اعلان ارتباطه - وأحياناً افتتانه بجيل الحرب -، بدءاً من زياد دويري الذي عرف في"بيروت الغربية"كيف يحكي الحرب، في داخلها ولكن من خارجها في وقت واحد، الى"زنار النار"لبهيج حجيج عن رواية مميزة لرشيد الضعيف ثم خصوصاً الى دانيال عربيد التي أتت في"معارك حب"بالمعادل الموضوعي - الذي كاد يكون"سيمتريكيا"لفيلم زياد دويري ذاك... مروراً بغسان سلهب، الذي كانت ادانته للحرب، فعلاً ثقافياً خارجياً، اكثر منه قناعة داخلية... والحال ان هذا كله كان طبيعياً، طالما ان التيار لا يتكون ولا يكون فكره كمعطى مسبق، بل كفعل ممارسة يومية... وهذا الفعل بدأ، في المجال الذي نتحدث عنه هنا، في ذلك اليوم البعيد من نيسان ابريل 1975، في سينما بيروت... ليخلق، بمبالغاته وهدوئه، بدمويته وسخريته... واحدة من السينمات العربية الاكثر اهمية، بل والاكثر كثافة اذا اخذنا في اعتبارنا كيف ان اجيالاً عدة توالدت من بعضها بعضاً... لتشكل تياراً متواصلاً، لعل اغرب ما فيه انه دون التيارات الفنية والأدبية جميعاً من تاريخ الفنون، كان له موعد ولادة محدداً... بدقة.