من المتعارف عليه عادة ان فيلم مارون بغدادي الروائي الطويل الأول "بيروت يا بيروت"، اذ قُدم في عرضه الأول في العاصمة اللبنانية وتزامن عرضه نيسان - ابريل - 1975 مع الرصاصات والقذائف الأولى، اعتبر الفيلم / النبوءة، أي العمل الفني الذي، بشكل أو بآخر، وضع لبنان في خضم الحرب الأهلية التي دامت نحو عقدين، مع انه لم يفه بكلمة عن الحرب: كان فيلماً يقول الحرب وحتميتها من خلال تصويره لمدينة أوصلتها تناقضاتها وأزماتها الى ما سيسميه الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران بفصاحة شديدة: منطق الحرب. بعد "بيروت يا بيروت" مرّت مياه كثيرة تحت أنهر كثيرة، وقامت أحداث وقعدت امبراطوريات... وحتى حرب لبنان آذنت اخيراً بالانتهاء. ولكن بعدما خلقت من رحم "بيروت يا بيروت" وجهود مارون بغدادي وبرهان علوية وجان شمعون ورفاقهم سينما لبنانية حقيقية، صادقة وفاعلة، صنعت للبنان مجداً فنياً في الوقت الذي كان وطن الأرز يغوص في وحول مآزقه. ومنذ فيلم بغدادي الأول وحتى اليوم، حقق مخرجون لبنانيون، داخل لبنان وخارجه، عشرات الأفلام التي وصل بعضها الى ذرى التكريم والبعض الآخر الى ذرى النجاح التجاري، والبعض الى كل هذه الذرى في الوقت نفسه. ولكن كل الافلام أتت لتحكي عن الحرب، تحكي الحرب، تحكي عن حرب لبنان ولبنان الحرب. وهذا الأسبوع كان موعد المتفرجين مع آخر العنقود بين هذه الافلام: فيلم "زنار النار" للمخرج بهيج حجيج الذي يقدم هنا تجربته الروائية الطويلة الأولى متأخراً نحو عقدين عن ركب رفاقه المؤسسين الذين، مع هذا، كانت بداياته معهم، منذ العودة من فرنسا أواسط السبعينات مروراً بتجربة الاحتجاج ضد مهرجان السينما الفرانكوفونية بيت مري 1972 وتجربة النادي السينمائي العربي. طبعاً لن يكون من الصعب على بهيج حجيج ان يفسر سبب هذا التأخير. غير ان النتيجة التي تمخض عنها "زنار النار" ستعفيه من هذا، فهو - بعد كل شيء - فيلم يبرر تأخيره وله من الشفافية ما يكفيه لأن يفسر مبدأ انك ان تأتي متأخراً، خير من ألا تأتي ابداً. ذلك ان الملاحظة الأولية التي يخرج بها المرء من مشاهدة هذا الفيلم هو انه أتى ليلخص - أو يكاد - كل الافلام التي حققت حتى الآن عن الحرب اللبنانية، يستفيد من اخطائها، يسير على خطاها في الوقت الذي يسعى الى تجاوزها حقاً. لكن الأهم من هذا هو ذلك الانطباع الذي يتركه الفيلم عند المتفرج المعني: انطباع انه فيلم يقفل، من قلب الحرب وآلامها وعبثيتها، دائرة الحرب التي كان "بيروت يا بيروت" قد فتحها من خارج الحرب. صحيح ان هذا الكلام قد يبدو عبثياً للوهلة الأولى، طالما ان واقع الفيلمين يقول لنا ان "بيروت يا بيروت"، ليس فيلماً عن الحرب اللبنانية، فيما نعرف ان "زنار النار" فيلم عنها. ولكن ماذا لو كان المنطق التناقضي هنا هو المنطق السليم؟ ماذا لو كان "زنار النار" هو أول فيلم عن الحرب اللبنانية يعلن بوضوح عدم افتتانه بالحرب، وبالتالي وقوفه تماماً خارج هذه الحرب؟ يقيناً ان ثمة من عناصر الضعف داخل الفيلم ما قد يؤدي، خطأ، الى عكس هذا الاستنتاج. ويقيناً ان المرء لكي يصل الى هذا الاستنتاج يكون عليه، أولاً، ان يعرف عن كثب رواية رشيد الضعيف "المستبد" التي اقتبس منها بهيج حجيج موضوع فيلمه، مع شيء من التصرف. وعليه بالتالي ان يدرك الفارق الجذري بين شخصية بطل الفيلم، الاستاذ الجامعي، وشخصية بطل الرواية كما صورها قلم رشيد الضعيف. ذلك ان البطل الهاذي الساخر القلق العابث الذي كان الضعيف في "المستبد" قد جعل منه واحدة من أغرب وبالتالي أصدق الشخصيات الروائية في الأدب اللبناني الجديد، تحول لدى بهيج حجيج الى بطل تراجيدي يدنو من مارسو بطل "غريب" كامو في الوقت الذي كان يتوجب عليه أن يكون أكثر دنواً في "ك."، "محاكمة" فرانز كافكا. لقد أحدث الفيلم في الشخصية الأساسية، إذاً، تحويلاً لم يأت في صالح العمل. ومع هذا، إذا تغاضينا عن ذلك الفارق الرئيسي بين الرواية والفيلم، سيظل أمامنا ذلك الهذيان الذي استطاعت كاميرا بهيج حجيج ان تصوره، وإن من خلال شخصيات ثانوية حارس البناية، أستاذة الجامعة التي قامت بدورها، ببراعة نادرة، جوليا قصار.... هذا الهذيان موجود أصلاً في رواية "المستبد"، بل انه يشكل عنصرها الرئيسي، لكن نقله الى الشاشة اعطاه زخماً مفاجئاً، وجعله العنصر الأساسي في ذلك الاحساس الذي أشرنا اليه: الاحساس بأننا أمام فيلم يقفل الحرب، ينهيها، لا يصورها كحنين وافتتان، بل ولا حتى كتراجيديا اجتماعية جماعية. انها هنا مجرد وباء مثل داء زنار النار الذي يرعب جوليا قصار، مجرد عائق أمام محاولة الانسان عيش حياته، مجرد ديكور أرعن، مثل القمامة التي تملأ شوارع المدينة، مكان للقهر، حاجز يمنع التواصل ليس بين كائن وآخر، بل بين الفرد وذاته. الحرب جرثومة لا أكثر، يصح التخلص منها ونسيانها بسرعة. يصح أن ينساها المفتون بها، المستفيد منها، والذي تسببت له بكل أضرار العالم. صحيح ان الحرب وبؤسها هما ما أوقع الفاتنة المجهولة في حضن الأستاذ الجامعي، ما أعطاه - بالتواتر - مبرراً يجعل لحياته اليومية الخاوية معنى وهدفاً، ولكن الحرب نفسها هي التي أبقت المجهولة مجهولة، ما جعل اشتهاء الأستاذ الجامعي لها غير مكتمل. مثل حلم مضى ولا نزال نسأل أنفسنا عما إذا كان حلماً حقاً. بل حتى الدفتر الذي يعثر عليه الأستاذ في غرفة الحارس كدليل على أن الأمر لم يكن حلماً، وكطريق للوصول الى الفتاة... من أدرانا انه، حقاً، دفترها؟ مهما يكن من الأمر، كل هذا لا يبدو كبير الأهمية هنا. المهم هنا هو قدرة الصورة - وتحديداً في تصويرها الحرب والدمار والذل بشكل لم يتمكن أي فيلم عن الحرب اللبنانية من تصويره بهذه القوة قبل الآن - قدرة الصورة على اخراجنا، نحن المتفرجين، من الحرب، وتحويلنا حقاً الى متفرجين محايدين فاصلين انفسنا تماماً عما يحدث أمامنا على الشاشة داعين الأستاذ الجامعي، أنانا - الآخر، الى البقاء خارجها بدوره، تماماً مثلما هو خارجها حارس البناية المتورط فيها تدريجاً وجوليا قصار وأهل الحي وأساتذة الجامعة وطلابها بل حتى أفراد الحاجز الطائفي. ان لا أحد هنا من الحرب أو معها. الحرب شبح دخيل آت من اللامكان. يملأ الديكور ولكن في طريقه للعبور الى اللامكان. هل هذا، بعد كل شيء، شعور ذاتي أم شعور عام لدى المتفرجين؟ من الصعب تقديم إجابة حاسمة. ولكن من المؤكد أن "زنار النار" لبهيج حجيج، من شأنه أن يجعل كل فيلم يأتي بعده، عن الحرب اللبنانية، فيلماً من دون فعالية، ومن دون جدوى... فيلماً زائداً. انه الفيلم الذي، على رغم تفاوت في ادارة الممثلين، وعلى رغم بعض الثقل في الحوار، وعلى رغم مناخ أحلّ التراجيدي محل التهكمي الهذياني ما أفقد سياق الفيلم بعض دلالاته وجعل بعض مشاهده، التي كان من المفروض أن تُعامل بعبث وهذيان، غير قابلة للتصديق اذ ارتدت مسوح التراجيديا وربما الميلودراما كل المقطع المتعلق بقريبة حارس البناية واقامتها في شقة الأستاذ، انه الفيلم الذي على رغم كل هذا، تمكن في رأينا من أن يغلق من الداخل دائرة فتحها "بيروت يا بيروت" من الخارج. وهو لو لم يفعل غير هذا، لكان في وسعنا أيضاً أن نعتبره فيلماً متميزاً، ينتمي بقوة الى تيار سينمائي لبناني ولد قبل ربع قرن ولا يزال يولد في كل مرة من جديد.