إعلان"حماس"يوم 12 آذار مارس قرارها المشاركة في الإنتخابات التشريعية الفلسطينية في يوليو تموز المقبل قرار تاريخي بكل معنى الكلمة. وستكون له، حماسياً وفلسطينياً وإقليمياً، آثار ومنعكسات مهمة. وفي حال سارت الأمور كما هو مخطط لها ونظمت الإنتخابات في وقتها ولم يتم تأجيلها فلسطينياً، أو إجهاضها إسرائيلياً، سيغير هذا القرار والتوجه شكل"حماس"كما عرفناه لفترة طويلة، ويغير شكل المشهد الفلسطيني السياسي، ويترك بصمات بارزة على أكثر من صعيد إقليمي. حماسياً وفي سياق تطور الفكر والممارسة السياسية لحركة"حماس"يمكن إعتبار هذا القرار مفصلاً زمنياً سيميز بين مرحلتين من عمر التنظيم:"حماس"ما قبل الإنتخابات التشريعية و"حماس"ما بعدها."حماس"ما بعد الإنتخابات التشريعية هي"حماس"الإنغماس في الواقع،"حماس"البراغماتية المسيسة والمنخرطة في حمل المسؤولية الوطنية في موقع المشارك في القرار بكل تعقيدات مواجهته للواقع وليس فقط من موقع المعارضة المريح وذي السقف العالي. في مرحلة"حماس"ما قبل الإنتخابات التشريعية كان إهتمام الحركة بالإنتخابات المختلفة طلابية، نقابية، ثم لاحقاً بلدية... شديداً الى حد مبالغ فيه أحياناً. كانت"حماس"تحرص على إبراز كل ما من شأنه أن يؤكد حجم التأييد الشعبي الذي كانت تنسبه لنفسها أو تدعيه. وفي أكثر الفترات كان الحرص على الإنتخابات، كما هو الآن، محدداً مركزياً من محددات فهم تحرك"حماس"ونهجها: تأكيد الشرعية الشعبية. فمنذ تأسس التنظيم في أواخر 1987، وحتى قبل ذلك بكثير خلال حقبة"الأخوان المسلمين"، لم توفر"حماس"فرصة إنتخابية إلا خاضتها للإحتماء بها ولتكريس الوجود. وعبر الإنتخابات حاولت تعويض إحجامها عن الإنخراط في منظمة التحرير الفلسطينية، بحسب شروط هذه الأخيرة، وهو الإحجام الذي كان سبباً في توتر عميق ظل يشتغل على جبهة"الشرعية"داخل"حماس"من ناحية، وعلى جبهة العلاقة مع المنظمة وتحديداً"فتح"من جهة ثانية. وفي وقت لاحق، منذ تأسيس"حماس"حتى إتفاق أوسلو، وخلال فترات توتر العلاقة مع منظمة التحرير بسبب منازعة"حماس"لها في مسألة التمثيلية والشرعية للشعب الفلسطيني، كان ملجأ"حماس"الذي تأوي إليه كلما ألحت مسألة إنخراطها في النظام السياسي الفلسطيني الرسمي هو الإنتخابات التي تحدث هنا وهناك. ثم ساهمت ممارستها العسكرية لاحقاً، سواء ضد الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو عبر تبنيها نهج عمليات التفجير في المدن الإسرائيلية في توسيع هامش المناورة. وهكذا راكمت"حماس"، عبر الإنتخابات وعبر العمل العسكري، رأسمالها السياسي والشعبي وظلت تناور وتتهرب من الإعتراف الصريح بالمنظمة ثم بالسلطة"كممثل شرعي ووحيد"للشعب الفلسطيني، وتستعيض عن ذلك الإعتراف المباشر بتخريجات لغوية وإلتفافية كالإقرار بأنهما"ممثل للشعب الفلسطيني"وليس"الممثل الوحيد". بموازاة ذلك كانت إتفاقات السلام مع إسرائيل - مدريدوأوسلو وما تناسل عنهما - تعقّد الموقف بالنسبة الى"حماس"إزاء مسألة إنخراطها في المؤسسة الرسمية الفلسطينية. فالسقف والشعار والمقولات عن التحرير الكامل وعدم الإعتراف بإسرائيل لا تتصالح وواقع برنامج المنظمة والسلطة في ما بعد. وكان موقف"حماس"في الإنتخابات التشريعية سنة 1996 المحجم عن المشاركة معبراً عن مجموعة من التوترات تجاه الوضع القائم، وتجاه العلاقة مع السلطة ومع أوسلو، وكذلك علاقة"حماس"مع ذاتها خصوصاً أن رأياً قوياً كان تطور داخل"حماس"يدعو الى المشاركة في تلك الإنتخابات، وقد توتر إلى درجة قاربت إنشقاق بعض القيادات عن الرأي النهائي المتبنى من جانب الحركة. في المرحلة الجديدة تحسم"حماس"أمرها تجاه السؤال الذي لازم مسيرتها السياسية وأرّقها منذ النشأة، وهو المشاركة المباشرة في صنع القرار الوطني الفلسطيني من موقع المسؤولية وليس موقع المعارضة. وعبر إقرار المشاركة بالإنتخابات تخطو مسيرتها السياسية خطوة كبيرة وضرورية طال إنتظارها بإتجاه تسيّس أكثر وبراغماتية ملحة تفرض عليها، بعد سنوات طويلة من إثباتها لنفسها، أن تنخرط في المشهد السياسي الفلسطيني على مستوى قيادي يضطرها للمشاركة في تحمل المسؤولية مباشرة. في السنوات السابقة إشتغلت"حماس"من موقع معارضة سياسة منظمة التحرير أولا، ثم معارضة مؤتمر مدريد وما تبعه من أوسلو، وسلطة فلسطينية، وغير ذلك. أما في موقع المسؤولية فيتغير الوضع ويفرض الواقع مفراداته على السياسة. صحيح أن"حماس"ستشارك في الإنتخابات ولم تعلن أنها ستشارك في أي حكومة فلسطينية، وبالتالي فبإمكانها نظرياً أن تحافظ على قدم في المعارضة وقدم في المسؤولية وتستمر في سياسة تفادي الموقع الأول، حيث اللوم والمسؤولية وسوى ذلك. لكن الصحيح أيضاً أن التواجد داخل المؤسسة التشريعية سيفرض عليها مشاركة ولو غير مباشرة في المسؤولية، وهي مسؤولية تتناسب وحجم حماس المتوقع أن تحصل عليه في تلك الإنتخابات. كما أن ممارستها العسكرية ستكون مرتبطة بممارستها السياسية داخل المجلس التشريعي ولن تستطيع الإحتفاظ بهامش المناورة والحرية التي تمتعت بها في السابق. عندما تشارك حماس بقوة في الإنتخابات القادمة مستهدفة الحصول على نسبة كبيرة من المقاعد فسيكون من المطلوب منها إما أن تتخذ موقفاً واضحاً من أي حكومة مشكلة: المشاركة فيها أو تأييدها أو حجب الثقة عنها. وإذا كان بإستطاعة"حماس"أن تحجب الثقة عن أي حكومة فمعنى ذلك ان تملك قدرة على التأثير أو التحكم في المسار السياسي للحكومة المعنية. لكنها لن تستطيع فرض شروطها كاملة على أي حكومة، ولن تستطيع مداومة إستخدام حقها في حجب الثقة عن الحكومات بالتحالف مع أعضاء آخرين في المجلس التشريعي لأن ذلك سيقود إلى شل العملية السياسية وتجميدها. وهنا ستضطر"حماس"إلى منح الثقة بشروط وسيطة، مسايرة منطق السياسة والحلول الوسط. وهكذا تكون"حماس"مسؤولة ومشاركة وإن ظلت معارضة، في صناعة القرار الوطني الفلسطيني، وذلك كما يجب أن تكون. فلسطينياً، قرار"حماس"بالمشاركة في الإنتخابات التشريعية له أيضاً منعكسات أخرى على المشهد السياسي الفلسطيني بشكل عام، وعلى وضع الفصائل الفلسطينية وتوجهاتها ومواقفها. عموماً يضيف هذا القرار شحنة إيجابية إضافية إلى معالم النضوج والديموقرطية الفلسطينية العقلانية التي أنطلقت بعد وفاة ياسر عرفات. فبعدما أنتخب محمود عباس بطريقة حضارية من دون قيام أي إختلالات أمنية وسياسية أو صدامات داخلية للصراع على الرئاسة، وبعدما تمكن المجلس التشريعي من إسقاط أول حكومة فلسطينية زبائنية قبل أن تشكل ويجبر أحمد قريع رئيس الوزراء على إدخال دماء جديدة, يأتي قرار حماس ليستكمل حلقة التسيس الفلسطيني الرشيد. لكن أبعد من ذلك، يرتبط قرار حماس بقوة الوضع الفلسطيني على صعيد الموقف خلال المفاوضات مع إسرائيل وتصليبه إزاء الحقوق الفلسطينية، وكذا في شرعنة الوصول إلى أي إتفاق سلام يكون متوافقاً عليه من قبل جميع الأطراف الفلسطينية. فوجود"حماس"داخل المجلس التشريعي سيعطي الموقف الفلسطيني قوة ومتانة إضافية هو في أمس الحاجة إليها. سيشعر الشعب الفلسطيني بأمان إضافي إلى أن الحقوق الفلسطينية لن يتم التساهل فيها, وسوف تتم تقوية الموقف الفلسطيني العام بحيث أن أي أتفاقات مقبلة يكون عليها أن تحظى بموافقة المجلس بما يرفع من سقفها السياسي للصالح الفلسطيني. إضافة إلى ذلك فإن الموقف الفلسطيني، في حال إصطدامه بالموقف الإسرائيلي، سيكون أكثر صلابة لأنه يعبر عن موقف مشترك صادر عن برلمان منتخب، وعلى الطرف الآخر تحسين شروط موقفه حتى يوافق عليها الطرف الفلسطيني عبر المجلس. كما أن موقف السلطة عامة ورئيسها محمود عباس سوف يستقويان بحماس. إذ لن يستطيع العالم أن يفرض على السلطة والرئيس الفلسطيني موقفاً مجحفاً جداً لأنه سيشير إليهم بعدم إمكانيته إتخاذ ذلك الموقف بسبب المعارضة التي سيلقاها داخل المجلس. جاء الوقت الذي يجب أن تنفك فيه سيطرة الكنيست على القرار الفلسطيني, حيث يتحجج القادة الإسرائيليون بأن المعارضة اليمينية داخل الكنيست لا توافق على هذا أو ذاك، ويتم تمرير تلك الحجة دولياً وبإعتبار أن إسرائيل دولة ديموقراطية تخضع قرارات حكومتها لبرلمان منتخب. فلسطينياً يجب تبني تلك السياسة وإخضاع سياسة الحكومة للبرلمان، وتحرير القرار الفلسطيني إقليميا ودولياً من ضغوطات الطرف الإسرائيلي، بل إمتلاك ورقة الضغط والديموقراطية وإستخدامها تدعمياً للحقوق الفلسطينية. على مستوى آخر فإن قرار"حماس"بالمشاركة القوية في الإنتخابات من شأنه أن يقلق حركة فتح ويدفعها إلى إعادة ترتيب صفوفها والحسم في مشكلاتها الداخلية والخروج من حالة الترهل التي هي فيه. فحماس في نهاية الأمر ليست منافساً من العيار الخفيف لفتح, كما تبدى في الأنتخابات البلدية التي أجريت اخيراً، ومن دون أن تلملم فتح قوتها وصفوفها فإنها ستعاني من خسارات إنتخابية وسياسية كبيرة في الإنتخابات القادمة. لهذا، فمن المتوقع أن يفيد قرار حماس فتح نفسها في نفض ما تبدى من تراخ وشبه إنشقاقات هنا وهناك في الحركة. ومن ناحية أخرى سيساعد قرار حماس فصائل اليسار الفلسطيني على حسم عدد من الأمور وتوضح الرؤية في ما خص المشاركة في الإنتخابات التشريعية أو درجة الإنخراط في القرار الفلسطيني مع السلطة. فإن كانت"حماس"، التنظيم المعارض الأكبر والأهم، قد قرر المشاركة السياسية فإن ذلك يتيح للفصائل الأخرى حرية إتخاذ نفس القرار من دون الشعور بأن ذلك تم على حساب جبهة المعارضة بشكل عام. وهكذا، فإن وجود فتح موحدة وقوية ويسار فلسطيني حاسم لأمره على صعيد خياراته السياسية سوف يقوي الوضع الفلسطيني العام. على أن قرار حماس وما قد يترتب عليه حماسياً وسلطوياً، وفلسطينياً، يحتاج إلى رعاية حتى يتم قطف ثماره كما يجب. أول خطوة "رعائية" هي الحرص والإصرار على إقامة الإنتخابات. فمن حقنا أن نتخوف على تلك الإنتخابات ومصيرها، إذا ما كان التحليل الأخير ينص على أنها تصب في الصالح الفلسطيني العام وتقوية الموقف الفلسطيني. الخطوة الثانية مطلوبة من حماس، وهي التخلي عن"قدسية"العمل العسكري، خاصة مسألة العمليات الإنتحارية، وإعادة موضعته بإعتباره وسيلة وليس هدفاً بحد ذاته. حماس تحقق بالإنتخابات والشرعية الشعبية أضعاف أضعاف ما تحققه بعمليات التفجيرات. والإنتخابات التشريعية تشكل فرصة تاريخية للحركة لبناء جدار أمان واقي يحفظها ليس فقط من أي إصطدام داخلي مع السلطة، بل حتى مع إسرائيل والولاياتالمتحدة من ورائها. إذ سيكون من الصعب مواجهتها كتنظيم"إرهابي"حتى من قبل الولاياتالمتحدة وأوروبا وهي ممثلة بربع أو ثلث أعضاء المجلس التشريعي. الخطوة الثالثة المطلوبة هي من السلطة، حيث لا يجب أن يُنظر لمشاركة"حماس"في الإنتخابات من منظور المنافسة والإحلال البدائلي."حماس"لا تستطيع أن تكون بديلاً عن السلطة في المرحلة الراهنة وحتى في المستقبل المنظور حتى لو أرادت ذلك، إلا في حال أستعدت أن تجلس مع شارون وتتفاوض معه أو مع من يخلفه."حماس"تستطيع أن تشارك وتدعم من الخلف وتقوي الموقف الفلسطيني، لكن لا تستطيع أن تتصدره وتقوده سياسياً. والخطأ الكبير الذي يمكن أن تقع فيه حماس والسلطة هو تبني منطق الإستقطاب الحاد، على حساب منطق المشاركة في المسؤولية، إذ أن ذلك سيؤدي إلى تبعثر تراكم النضج السياسي في التجربة الفلسطينية الذي شهدناه بعد وفاة ياسر عرفات. وللإشارة إلى منطق الإصطراع والتوتر يمكن الإستدلال بتصريحات بعض مسؤولي السلطة بعد الإعلان عن قرار"حماس"الترحيب بالقرار مع التأكيد على ضرورة أن توقف حماس سياستها في المقاومة أو غير ذلك ومحاولة خلق إشتراطات أو مناخ يطلب من حماس هذا الشرط أو ذاك. فهنا وبدلاً من الإنجرار إلى هذا المسار"الإشتراطي"يجب أن يكون الخطاب الرسمي الفلسطيني مرحباً بقدوم"حماس"إلى المجلس على قاعدة المسؤولية. وأن وجود"حماس"بفاعلية داخل دائرة صنع القرار الفلسطيني، وفي مقدمها المجلس التشريعي، يعني أنها ستكون مطالبة بأن تقرر هي نفسها فائدة أو ضرر أي سياسة تتخذها على مجمل المسار الفلسطيني, وستكون في موقع المسؤولية وليس موقع من يحاول الإفلات بضربة هنا أو ضربة هناك. ولن يعود أمام"حماس"خيار أنها تقوم بعمل ما لا تتحمل مسؤوليته السياسية وعلى المستوى الوطني العام, وتحيل تلك المسؤولية ودفع الإستحقاقات للسلطة نفسها. كل ما ذكر مشروط بأن تسير الأمور بإتجاه عقد الإنتخابات ومن دون عوائق إسرائيلية أو فلسطينية أو إقليمية. لننتظر ونرى. كاتب وباحث اردني/ فلسطيني، كمبردج، بريطانيا.