بعد غياب عقد من الزمان عن المسرح السوري الذي قدم عبره"مغامرة رأس المملوك جابر"، و"الاغتصاب"، وپ"تقاسيم على العنبر"... وسواها، يعود المسرحي العراقي جواد الأسدي إلى الجمهور السوري ليقتسم معه"خبز الألفة والجدل المسرحي الحر"، من جديد، وليحاول بناء وطن صغير على الخشبة، بعد ربع قرن من المنفى والاغتراب، من خلال مسرحية"حمام بغدادي"التي افتتح بها قبل ايام موسم المسرح القومي السوري. منذ البداية يقرر الأسدي ان"حمام بغدادي"تنتمي إلى المسرح التجريبي الذي يعد أحد رواده في العالم العربي. وهذه الإشارة الواردة في"البروشور"تفترض طقساً مسرحياً مغايراً، يستقطب، بدوره، جمهوراً مغايراً يأتي إلى المسرح لا للتسلية، بل بحثاً عن الجديد. وهذا ما تجلى في رغبة الأسدي في عدم استخدام مقاعد الصفوف الخلفية وتغطيتها بقماش اسود، كجزء من المشهدية العامة لمسرحيته، مثلما فعل مع الأشخاص الذين يحركون الديكور، بحركات فنية، مدروسة تظهر وتختفي بحسب إضاءة ماهر هربش. انه يبحث عن عدد قليل يستوعب مسرحه الإشكالي الذي يثير أسئلة عميقة، ويسعى إلى تقديم إضافة، مهما كانت ضئيلة للمشروع الثقافي العام. يستعرض الأسدي في"حمام بغدادي"تراجيديا إنسانية قاسية، وهو يوثق الأوجاع المزمنة المتراكمة في ذاكرة أخوين عراقيين يعملان سائقين على خط بغدادعمان. يتبادلان الهموم المشتركة في حمام بغدادي لكنهما يؤمنان، كل منهما، بقيم ومبادئ مختلفة. فالأخ الكبير مجيد فايز قزق انتهازي، وأناني يعشق النساء والخمر والمغامرات، بينما شقيقه حمود نضال سيجري هو على خلافه تماماً، فهو أكثر نقاء وبراءة وصدقاً، لتكون العلاقة بينهما، والحال كذلك، علاقة استلاب وتبعية وخضوع، نستطيع أن نعثر لها على تأويلات كثيرة في الوضع العراقي الراهن. يجتمع الشقيقان، بمفردهما، كل مساء، في"حمام بغدادي"موحش، يكاد يختزل، بكآبته وخوائه، يوميات وطن مسيّج بالنار والدخان. تتصاعد من أرضية الحمام أبخرة رمادية، وخرير الماء يبعث في النفوس المحطمة دفئاً كاذباً يقود الأخوين إلى حديث حافل بالقهر والارتياب والشكوى. جدارية علوان في هذه المساحة الضيقة المزينة بجدارية ضخمة للفنان التشكيلي العراقي جبر علوان، الذي آثر، بدوره، التخلي عن كرنفال اللون في لوحته لمصلحة فكرة المسرحية، وعبر مشهدين اثنين: حمام بغدادي، والحدود العراقية الأردنية. وينجح الأسدي في التقاط اللحظة العراقية الراهنة، والجريحة، الممتدة على تضاريس"أرض السواد". يختزل مشاهد الانفجارات والقتل والدماء في هواجس الأخوين وثرثراتهما الوجلة، ويزيد في قتامة اللوحة عبر توظيف مؤثرات صوتية متمثلة في أصوات انفجارات مدوية متكررة جعلت من الموت أمراً مألوفاً و"عادياً"، كما يردد الأخ الكبير، أو كذلك من خلال موسيقى رعد خلف الجنائزية، الحزينة والأقرب إلى النشيج. لا شيء أقسى من أن يتحول الموت، في أبشع صوره، إلى حدث يومي مبتذل، حتى أن فكرة الموت على فراش دافئ، وسط حنان الأهل، أصبحت أمنية مستحيلة. وسط هذه الأجواء الحزينة، المتشحة بالسواد تسنح للأخ الكبير فرصة الاستفادة من صفقة تنتشله، وشقيقه من الفقر. وذلك بان ينقل أحد الأثرياء من عمان إلى بغداد للمشاركة في الانتخابات العراقية. غير أن هذا الحلم أيضاً يجهض إذ يموت الثري على الحدود، وينفجر التابوت الذي يذهب بأمل الخلاص لتبقى الدورة الجهنمية دائرة تقود الأخ الكبير إلى سجن أبو غريب، ويخرج منها محطماً، متهالكاً، بينما الأخ الصغير، المحطم والمتهالك، بدوره، يواسيه، مثلما يواسي نفسه بلا أمل، في"حمام بغدادي"، يسدل عليه الستار في أجواء كابوسية، يوحي حوض الاغتسال فيه بتابوت يستقبل حطام شقيقين يحتضران. إزاء واقع العنف والبؤس والمعاناة، شكل هذا الحمام للأخوين ملاذاً وحيداً للبوح، وفضاء لاستعادة الذكريات المريرة. ها هو حمود يتذكر، كيف أجبرته الاستخبارات على العمل لمصلحتها، مشترطة عليه التعهد بألا يتفوه بأي كلمة مما يسمع أو يشاهد. وإذ يتم الاتفاق يجد حمود نفسه، ذات صباح كئيب، وهو يقل في سيارته مجموعة من المعتقلين العراة المعصوبي العيون إلى جهة مجهولة في الصحراء حيث يُطلق عليهم وابل من الرصاص بعشوائية. ومن هناك تنقل الجثث إلى جهة أخرى إذ يُرمون في مقبرة جماعية واسعة، وسط صيحات الجلادين، وكلماتهم البذيئة. هذه الصورة البشعة لعهد الديكتاتور صدام حسين، والتي تكررت مراراً، لا تفارق مخيلة الأخ الصغير الذي لا يني ينتقد شقيقه الأكبر لأنه يتعامل مع الأميركيين. الأخير يبرر تعامله معهم بضرورة تأمين لقمة العيش. ولئن اختلفت رؤى الاثنين في التعامل مع الوضع القائم، فان الاثنين، في المآل الأخير، هما ضحية لمرحلة القمع"البعثي"، ولزمن الحرب الأميركية، والسيارات المفخخة. إنهما أشبه بحطام بشر، يحلمان بپ"منزل مغرد وشارع مضاء". لكن تلك الأماني العراقية تبقى مؤجلة، في الداخل والمنفى الخارجي، انهم ينتظرون صباحات عراقية مشرقة عصية على المجيء. وعلى رغم أن مفردات المسرحية تتكئ على السياسة، وتستوحي الظروف السياسية القائمة في العراق في هذه اللحظة، فإن ما يهم الأسدي في الدرجة الأولى، ليس الخراب الذي أصاب العراق، بل الخراب الذي أصاب روح الإنسان العراقي الذي يعيش تمزقات نفسية فظيعة، وسط تحولات دراماتيكية قاهرة. بدا الإنسان العراقي، من خلال الشخصيتين اللتين جسدهما قزق وسيجري في أداء تمثيلي بارع، شبحاً يقتات من الخوف والانكسار والعزلة، ولا يستطيع أن يتصالح مع واقع شديد الالتباس والغموض. غير أن من يتابع مسرحية الأسدي، الذي يعد واحداً من أولئك"المعذبين في الأرض"، يعي فداحة الخسارة، ويبحث معه عن سبيل لإنقاذ شعب ينام على رائحة النعوش، ويستيقظ على هدير الدبابات وأزيز الطائرات. يستنطق الأسدي، بلهجة عراقية مطعمة بالفصحى، أرواح شخصياته، ويمضي معها إلى أقصى حدود الألم. ينقب في أرشيف الهموم التي تزدحم في أروقة النفس فيختار منها فصولاً تتسرب كرثاء متواصل لوطن" تلوح النعوش على مداه"، ولا مهنة تدر ربحاً وفيراً فيه مثل مهنة"حفار القبور"الذي تحسده شخصيات الأسدي، على عمله المضمون، مثلما سيحسده"حفار القبور"في قصيدة السياب الذي يقول بلسانه:"ما زلت اسمع بالحروب - فأين أين هي الحروب؟ أين السنابك والقذائف والضحايا في الدروب.../لأظل أدفنها وأدفنها... فلا تسع الصحارى/فأدس في قمم التلال عظامهن وفي الكهوف؟". ينأى الأسدي بمسرحيته عن تقديم موقف سياسي واضح مما يجري في بلاده، لينتصر للحياة ثم للمسرح الذي يبرز محنها ومآزقها. بيد أن انهماكه في إنجاز عمل مسرحي يرسم تفاصيل الموت المجاني في بلاده، ينحو بالعمل إلى الاحتجاج والرفض لما يجري، من دون أن يعلن ذلك صراحة، فهو يتخذ من خشبة المسرح ذريعة لإطلاق صيحة تحذير لا تلتبس دلالاتها على ذلك الجمهور القليل الذي يريده الأسدي لمسرحه. فالأسدي، ومنذ أن وطأ هذه الخشبة، لم يشأ أن يغرق في جماليات الشكل، أو عمق المضمون، بل هو يبحث باستمرار عن صيغ ومقترحات جديدة للفرجة المسرحية شكلاً ومعنى. ومسرحيته الأخيرة تجسد هذا الفهم، فيولي الجماليات المسرحية أهمية خاصة، مثلما يبحث عن مضامين عميقة، مفتوحة النهايات. وعلى رغم انه في عمله الأخير، الذي كتب نصه إضافة الى الإخراج والسينوغرافيا، يضع يده على جروح غائرة لا تزال نازفة في بلده، فهو ينجح، وسط هذه الفوضى العارمة، في إشاعة إحساس مختلف بحرائق تلتهم البلاد، وتضطرم في نفوس شخصيات محرومة من كل شيء، تعيش في انتظار موت مؤكد ووشيك.