لو انها تستطيع ان تروي قصتها لكانت دونت مجلداً كبيراً. ولكنها صمّاء بكماء تحتفظ بالامور والاخبار والاحداث والحوادث لنفسها. وقد رأيت ان اقوم بالنيابة عنها بعرض ما تعرفه لا من الاسرار، فتلك امور لا يجوز ان تكشف، ولكن من الحوادث العامة والخاصة. في مطلع سنة 1975 تزوج ابني رائد وجاء هو وعروسه ريما حيدر وسكنا معاً نحن الثلاثة، يومها اهدى نفر من اصدقائه لرائد سجادة لمناسبة زواجه. كانت كبيرة، جميلة، لطيفة، ناعمة الملمس الخ.. وغطت قاعة الاستقبال في بيت ابو المنى حيث كنا نسكن. طبعاً سمعت احاديث المباركة واحاديث السفر والذهاب والاياب خاصة وان رائد وريما تزوجا ثم ذهبا الى الكويت حيث كان يعمل رائد في طيران الشرق الاوسط. ولكنهما عادا وعادت الامور الى مجراها وتمت زيارات لي ولهما وللجميع لم تكن فيها احداث خطيرة. لكن حدث شيء مهم جداً في العائلة وهو ان كِندة الحفيدة الاولى لي ولدت في بيروت في 6 تشرين الثاني نوفمبر 1975 وكانت تلعب على السجادة، تقوم وتقعد وتنط لما كبرت قليلاً الخ.. وهناك علمتها الشرب ورويت لها قصة ابريق الزيت كما رتبتها انا. بعد مدة انتقل رائد واسرته الى الخرطوم ليعمل هناك مديراً لمكتب طيران الشرق الاوسط. كانت الاسرة تأتي الى بيروت في العطل وكانت كندة تقوم بنفس الاعمال على السجادة لكنها كبرت واصبحت تمشي. ثم بعد مدة ولدت غيدا فجاءت هي الاخرى اثناء العطل مع الابوين الى بيروت فكانت تتمرمغ على هذه السجادة. في هذه الفترة لا يمكن ان اقول ان السجادة شهدت كباراً من القوم. على كل بعد مدة انتقل رائد واسرته الى لندن واستقروا هناك. فاصبحت زيارته الى بيروت محددة في عطل قصيرة او اعمال طويلة او قصيرة. وكانت الاسرة تأتي ايضاً معه او وحدها. فعادت كندة وغيدا تلعبان على هذه السجادة. كنت انا في هذه الاثناء قد انتقلت من بيت ابو المنى الى شقة في الدار الخضراء بشارع مدام كوري في قريطم الطابق التاسع. كانت الشقة في بيت ابي المنى بالايجار لكن الشقة هنا اصبحت ملكاً. وجاءت السجادة معنا وغطت القسم الاكبر من قاعة الاستقبال. وعندها ياما شهدت هذه السجادة من امور. اولاً: زيارات من انواع مختلفة لاصدقائي. على سبيل المثال عيد ميلادي سنة 1999 في 2 كانون الاول ديسمبر داس على هذه السجادة مباركين ومهنئين وآكلين وشاربين نحو مئة شخص. في سنة 2004 السنة الماضية كان عدد الحضور الذين طُعموا واحدا وتسعين شخصاً والذين جاءوا متأخرين وصحت لهم قطعة من كعكة العيد تسعة. فكان العدد مئة. كل هؤلاء وكل اصدقائي وكل الآخرين كانوا يزورونني ويستمتعون بهذه السجادة. وكانت هي تتحمل دعساتهم القاسية لانها كانت تعرف انها صنعت اصلاً من اجل ذلك. واظن انها لم تكن تشعر لعلها كانت تتذكر لكنها لم تحس بالالم كانت تسمع نكات وقد تفهمها ولكنها لا تستطيع ان تعيدها. وفي هذا المنزل وعلى هذه السجادة عقدت اجتماعات علمية وادبية كثيرة تتعلق بالجمعيات او اللجان التي كنت انا مساهماً فيها خاصة بعد ان اصبحت لا استطيع الخروج من البيت. ولم يكن حظ السجادة من العظماء اقل من حظها من العاديين الا من حيث العدد. فقد زارنا وباركنا الرئيس سليم الحص. وزارني في هذه الدار ثلاثة من سفراء العرب الاردن والسودان وتونس. زارني عدد كبير من الادباء والكتاب منهم سعيد عقل، والصديق العزيز هنري زغيب، واساتذة الجامعة اللبنانية اقدمهم صداقة لي محمد مخزوم. وكان ايضاً هناك احمد حطيط وانطوان ضومط وسواهم كثر. وكان من زواري بعض الكتّاب الكبار وزارني ثلاثة بالاضافة الى السفراء العرب مرتين او ثلاثا سفراء بريطانيا في لبنان اقول هذا لا تبجحاً ولكن اريد ان اذكر ان هذه السجادة لها ذاكرة قوية وتحتفظ باحداث كبيرة. فضلاً عن ذلك على هذه السجادة كنت انزل من مقعدي واختبئ عندما يقوم الضرب في اثناء الحرب التي تسمى لبنانية وهي حرب الغرباء في لبنان. وعلى هذه السجادة كانت احياناً مغازلات لطيفة لا تبعد كثيراً. وهذه السجادة شهدت حادثاً مهماً في حياتي. أغرمت الى درجة تكاد تكون جنونية بسيدة. شهدت هذه السجادة تسجيلات تلفزيونية مهمة، منها ثلاث حلقات سجلتها الجزيرة على يد الآنسة البشراوي التونسية التي سجلت الاحاديث هنا وقد اثارت هذه الاحاديث لما اذيعت من الجزيرة اهتمام السامعين والمشاهدين وتلقيت عليها تلفونات من المملكة العربية السعودية من اناس لا اعرفهم، ومن سوريا من اصدقاء وآخرين لا اعرفهم شخصياً. وهنا سجلت العربية لي حديثين ايضاً اذيعا. فضلاً عن ذلك فقد سجلت NBN والمنار اللبنانية وسواهما احاديث في البيت. هذا فضلاً عن مقابلات عادية بمعنى ان مراسل الجريدة يأتي فنتناقش ونتحاور في موضوع عام او خاص. اذكر على سبيل المثال مقابلة مع مارلين خليفة من النهار، في رأيي انها خير من اجرى معي من المقابلات. وهناك مقابلات في مجلة الشراع مع ماجدة صبرا فضلاً عن ذلك كان هناك مقابلة للسياسة مع زينب حمود. كان هناك مقابلات كثيرة لا اذكرها. وفي احيان كثيرة ايضاً، كنا نجتمع شلة صغيرة نتحدث في شؤون السياسة طالعاً ونازلاً شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً احاديث لو سُمعت عنّا لكان لنا من العقاب عليها نصيب. لم تحل مشكلة ولكنها اوضحت لنا نحن فئة من الاصدقاء الخُلّص الموضوع المهم بالنسبة للبنان والفوضى التي شملت منظمة التحرير الفلسطينية والجمود الذي سيطر على سورية سياسياً واجتماعياً وفكرياً بخاصة ايام الدكتور علي عقلة عرسان. كل هذه الامور بحثت وكل هذه الامور درست. وعلى هذه السجادة على طرفها كان في يوم من الايام مكتبي وعليه ترجمت كتباً وكتبت مقالات لكن حظها من هذه الامور كان الاقل لأنني لم البث ان انتقلت من هناك الى غرفة عمل خاصة. وتقضي الاحوال بأن تخطب كندة. تمت الخطوبة في لبنان حيث يقيم الابوان. لكن الزواج كان في لبنان ومن هذه الغرفة ? قاعة الاستقبال ? وعن هذه السجادة نقلت العروس كندة الى بيت الزوجية. فالسجادة التي لعبت عليها كندة طفلة هي التي ودعتها عروساً. كندة عندها طفلان بنت وصبي. تقيم هي وزوجها نصوح الامين في الامارات حيث يقوم بعمله. لكنها تأتي الى بيروت لزيارة الاقارب وزيارتي. تأتي لزيارتي ومعها الطفلان، نور وسامر، والآن يتمرمغ الطفلان على السجادة التي تمرمغت عليها امهما وهي طفلة. السجادة لها قصة، لها تاريخ، لكنها كما قلت تختزن الامور ولا تستطيع الافصاح عنها وهناك رائد وريما لهما في هذه الشقة التي اسكنها حصة كبيرة، ولذلك وهما يقيمان عندي عندما يأتيان الى بيروت ويقيمان في البيت الذي نملكه. لذلك ارتأت ريما مؤخراً ان تبدل اثاث غرفة الاستقبال بما فيه هذه السجادة. فجاءت بسجادة من لندن وضعتها محلها، ولذلك خرجت هذه السجادة عن ان تكون في الدرجة الاولى في قاعة الاستقبال ووضعت في غرفة الطعام. لا يزال لها وجود لكنها احسب انها تشعر بان قدرها انتقص. ويجب ان اقول ان الفتاة الاثيوبية مولي التي تعمل على ادارة بيتي تشاركها اذ انها تشعر بشيء من الحسرة مع السجادة لانها اصبحت منزلتها في غرفة الطعام في الدرجة الثانية. لكنني طمأنتها انها لا تزال عندنا ولا ازال احتفظ انا لها بكل الود والفتاة التي ذكرتها والتي مرت عليها سنتان ونصف السنة وهي تعمل في هذا البيت تمنح هذه السجادة شيئاً من العطف ايضاً. هذا التبديل تم والفتاة في اجازة في بلدها، فلما رجعت وتطلعت الى السجادة الجديدة وتطلعت الى السجادة القديمة قالت لي:"يا دكتور زيادة هذه القديمة سجادة، الثانية الاخرى ليست من درجتها"وهذا صحيح لكن لكل زمن دولة ورجال ولكل زمن منازل اقامة وترحال ولكل زمن سجادة وبساط ينقلان من مكان الى آخر ولا يبقى في النهاية الا العمر الطويل. وانا آمل، وقد اصبحت في الثامنة والتسعين من عمري، انا اظل حياً على الاقل الى ان ابلغ المئة واستمتع بوجود السجادة في الدرجة الثانية عملياً لكن في نظري تظل في الدرجة الاولى.