عندما بدأت أقرأ عبدالوهاب البياتي في ستينات القرن الماضي، وظللت في ما بعد أتملى بكلماته وأتوغل في عالمه، وأدرِّس قصائده لتلامذتي، لم يخطر ببالي اني سأتعرف اليه في الثمانينات، لأصبح من الذين يستقبلهم في بيته، أو بالأحرى في مملكته التي لا يدخلها غير المقربين القلائل، الذين لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة. في مدريد، كان مقر جمعية الصداقة الاسبانية - العربية مركزاً يرتاده بين وقت وآخر، إن لم أقل نادراً، بعض الديبلوماسيين العرب، على رغم النشاطات الثقافية المهمة التي كانت تقوم بها الجمعية - رئيسها في مطلع الثمانينات انطونيو غالا، أشهر مسرحي اسباني - لتغيير صورة العرب، والتعريف بثقافتهم الحية في المجتمع المحلي. وهناك تعرفت الى خليل البيات، المستشار في السفارة العراقية في اسبانيا، وطلبت منه أن ألتقي البياتي، الذي كان يعمل في تلك الفترة مستشاراً ثقافياً للعراق في كل أوروبا، ويتواجد في المركز الثقافي العراقي في العاصمة الاسبانية. وتحققت أمنيتي بعد يومين. وصلت الى مقهى فندق "الكوسكو" في جادة الكاستيانا قبل الموعد بربع ساعة. كان خليل البيات - رحمه الله - ينتظرني هناك، بدا لي ان الوقت يزحف ببطء، وان عقارب الساعة لن تبلغ السادسة مساء: كان اللقاء مهماً جداً بالنسبة إليّ، فالظروف لا تسمح لنا كل يوم أن نلتقي شاعراً رائداً أرَّخ لحياة الأمة، تعاطف مع انسانها وبؤسائها، وجعلهم رمزاً للكرامة الانسانية: قصيدة "سوق القرية" المؤثرة، ترجمت الى ثلاث وأربعين لغة. في مقهى فندق "الكوسكو"، كانت عيناي مشدودتين الى باب المدخل، في السادسة تماماً وصل عبدالوهاب البياتي: كان يشبه صوره المنشورة تماماً، جلس قبالتي، وسحب سيجارة من علبة في جيبه، ووضعها على الطاولة، وسألنا ماذا نشرب. لا أذكر اليوم الحديث الذي دار بيننا، على رغم اني أجد صورة ذاك اللقاء أكثر من واضحة في داخلي، وكأنني أعيش الآن لحظاتها، والمشاعر التي ولدتها في أعماقي، ويبدو لي اني أستطيع أن أمد يدي لأصافح البياتي: كنت يومذاك متأثرة باللقاء، وأشعر ببعض خجل لشعوري اني أجلس امام عبدالوهاب البياتي، على رغم اني عرفت كباراً من هذا الزمان، وارتبطت معهم بصداقة، عرفت خليل حاوي، ولم اشترِ يوماً أحد دواوينه، كان يهديني اياها لدى صدورها. وكان بول غيراغوسيان يعتبرني ابنته المدللة، ويهديني غلافات كتبي ويفرح بصدورها. قابلت فيسنتي الكسندري حامل جائزة نوبل للآداب، وغييرمو دياز بلاخا، وهو من أشهر النقاد في اسبانيا وأميركا اللاتينية، وكنت أخيراً طالبة يشرف بيدرو مارتينيز مونتافيز على أطروحتها... كنت متأثرة بلقاء البياتي، ومرتبكة بعض الشيء، وربما لأني كنت أحلم بلقائه منذ زمن طويل، وعندما كنت أقرأ قصائده الخالدة، التي يتجاوز مضمونها تاريخ أمة، لتصير ملكاً للإنسان المقهور والشعوب المستغلة في كل مكان وزمان. والبياتي ذو حضور طاغ، يتحدث بصوت هادئ حزين عندما يتوجه بالكلام الى الآخرين، ويأسر بكلامه عندما يتحدث عن تاريخ الحضارة العراقية، بتسلسل تاريخ ووضوح مدهشين: هو صاحب ذاكرة قوية، ويتحدث عن عناوين الحضارات وتفاصيلها، وكأنه يقرأ في كتاب. وكان هدوء صوت البياتي الحزين، يتوافق مع حزن عينيه العميقتين، والصغيرتين بعض الشيء، تصرخ فيهما الغربة والمرارة، فيشعر جليسه ان هناك مسافات ومسافات تفصله عنه، وتقف حاجزاً بينهما، مهما كان قريباً منه. في ذاك المساء، دعانا البياتي للعشاء في مطعم الفندق. اذكر اني ظللت صامتة، على رغم اني كنت أريد أن أطرح عليه أسئلة كثيرة، وأسأل نفسي: هل ألتقيه ثانية. ودعاني البياتي لأزور المركز الثقافي العراقي: هناك تعمل ابنته ناديا أمينة للمكتبة، التي قد أجد فيها بعض ما أحتاج اليه، لأظل متواصلة مع الثقافة العربية، ولما تعرفت الى ناديا بالتالي، صرت أزور البيت - المملكة، وشعرت في غربتي ان عائلة البياتي، عائلة ثانية لي في مدريد، وقاسمت الغالية ناديا غرفة واحدة، عندما كنت أنام هناك. في عام 1982، كانت أسماء، ابنته الثانية تدرس الفنون في سان دييغو، ولم تلبث ان عادت الى العاصمة الاسبانية. وفي ذاك العام، اخترت موضوع "البياتي والبحر"، واحداً من أربعة أبحاث كان علي أن أقدمها في اطار الدراسات التحضيرية - أو ما يعادل الماجستير - لأخطو نحو الدكتوراه، وكان البحث بإشراف أستاذي وصديقي رائد الدراسات العربية في اسبانيا، والمرجع في كل ما يتعلق بالأدب العربي الحديث، والعالم العربي. اعارني البياتي ديوان أعماله الكاملة، الذي أعدت قراءته بمتعة، وأنا أدرس العلاقة بين الرمز والمضمون، وأتوغل بفرح في عالم البياتي الشعري، لأستوعب بعمق جديد تاريخ أمة وعصر، وأطرح على الشاعر أسئلة كثيرة، هادفة الى أن أنال أعلى المعدلات على دراستي: كان الشاعر الكبير يمنحني كل الوقت الذي أحتاج اليه، وكأنه يساعدني على أن أنجح في الدراسة بتفوق. وحدث اجتياح جنوبلبنان وعشت في غربة موجعة لا تحتمل، على رغم كل المحبة والعطف اللذين احاطني بهما أصدقائي وصديقاتي في مدريد: الأخبار التي كانت تذاع ملغومة، ولم يكن الاتصال بعائلتي ممكناً في غالبية الأحيان، وقد بقيت طوال أكثر من شهرين لا أعرف عن أمي واخوتي شيئاً، وانا أعرف أن وطني يحترق في كل حين. وكان البياتي يحتفظ لي ببعض المجلات العربية التي تصله، وبعد أن ينتهي من قراءتها، زرته في عشرينات حزيران يونيو في المركز الثقافي العراقي. أذكر انه كان يبدو متألماً من أمر ما، ويدخن بصمت سيجارة تلو أخرى، ينظر إليّ كأنه يريد ان يقول لي شيئاً ما، ثم يشيح ببصره عني. شعرت بالحيرة والقلق، وأنبأني حدسي ان هناك أمراً سيئاً يخفيه البياتي عني، ولم أستطع أن أتكهن ما هو، لما تسلمت رزمة المجلات العربية القليلة، سحب البياتي من بينها مجلة "الدستور"، ووضعها على وجه الرزمة، كأنه يوحي لي أن أبدأ بقراءتها، فتكثف قلقي وضيقي، وغادرت المركز بسرعة، كأني أريد أن أصل الى غرفتي البعيدة، لأعرف ما الذي يجري في وطني. تصفحت المجلة بسرعة وأنا في الباص. كنت متلهفة لأقرأ الخبر الذي سيريحني من قلقي أو يزيد من همومي، كانت عيناي تلتهمان العناوين، وتقلب أصابعي الصفحات بسرعة وعصبية، وأنا أشعر ان غربتي تنهش قلبي نهشاً، واني وحدي كلية، في عدم لا قرار له. ووقع بصري على الخبر الذي آلم البياتي، وأثار في أعماقه شجوناً كثيرة، وتوقع أن يؤلمني كثيراً، ويزيد من ضياعي في غربتي: وقع بصري على صورة خليل حاوي، وقرأت كلمات عدة اختصرت على قلتها مأساة وطني البعيد المحترق، وأغرقتني في صقيع فراغ ضبابي قاس، وخزه مؤلم كجرح نصل شفرة، يسلخ بلا رحمة عن الجذور: العرب قتلوا خليل حاوي. استوعبت في تلك اللحظة صمت البياتي، وحزنه الكبير، لمست وجع جرحه، الذي ولدت منه في تشرين الثاني نوفمبر ستة أبيات مؤثرة، تختصر كلماتها الألم الذي يخلفه في القلب رحيل الصديق الشاعر عن دنياه، وكانت مهداة الى خليل حاوي. أعطاني البياتي ستة أبيات منظومة مرتين، أو بالأحرى مصححة، مع اختلاف بسيط جميل. أعطاني الورقة المكتوبة بخط يده، من دون أن يقول شيئاً: في أحيان كثيرة يعبر البياتي بصمت: أدركت ان البياتي يميزني بتلك الأبيات التي أهداني اياها، وشعرت بنوع من العزاء، لكني لم أستطع أن أرتاح كلية، الا بعد أن جرى تكريم خليل حاوي في قسم اللغة العربية والإسلام، باقتراح من صديقتي المستشرقة الرائعة كارمن رويز برافو، في السابع عشر من شباط عام 1983، وقد عايشت حزني وعذابي خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان، وبعد زيارتي الخاطفة لأهلي في طرابلس في أيلول سبتمبر، وقد عرفت الى أي حد أثر في نفسي انتحار خليل حاوي، الشاعر الصديق. قبل السابع عشر من شباط فبراير كنت أشعر في غربتي ان خليلاً يموت كل يوم، وأن علي ديناً أوفيه له، وأعد الأيام التي تفصلني عن موعد التكريم، الذي شارك فيه البياتي، واستاذي وصديقي بيدرو مارتينيز مونتافيز، والصديق محمد الضاهر، الذي كان قنصلاً للبنان في مدريد، ووزعت وكالة أنباء محلية خبر التكريم، مع كلمة مونتافيز في جرائد في كل المقاطعات الاسبانية، وتحدثت أنا الى القسم العربي في الاذاعة الاسبانية عن خليل الشاعر والصديق، وقرأت مقاطع من شعره، وذلك في لقاء أجراه معي الزميل عدنان الأيوبي. وشعر بعد هذا التاريخ، الذي كان فيه تكريم خليل حاوي على مستوى مميز، وشارك فيه البياتي... شعرت بعد ذلك اني تحررت من ثقل ما يضغط على قلبي، وقد تركت كلمات خليل صدى في عالم جديد... قلت ان البياتي كان يعبر عن ذاته في أحيان كثيرة بالصمت: لما تزوجت المرحومة ناديا، ورحلت مع زوجها إلى أميركا، أوصلناها صباحاً الى المطار. غمرها بحنان عظيم، قبل ان تدخل الى قاعة المسافرين. أشعل سيجارة بعد أن حملت حقائبها، وغابت مع زوجها عن أبصارنا، اتجهنا بصمت الى خارج مطار بابراخاس. أعطى البياتي سائق سيارة الأجرة، عنوان المركز الثقافي العراقي، جلس صامتاً في المقعد الأمامي، تكومت أنا وأسماء في المقعد الخلفي. ظل البياتي صامتاً طوال الطريق: ثلاثون دقيقة تفصل المطار عن مركز عمله. ترجل الشاعر الكبير من السيارة، قبل أن يصل الى العنوان المطلوب: أغلق باب السيارة وراءه، من دون أن يتطلع الينا أنا وأسماء، ولم يقل لنا كلمة واحدة. أراد أن يمشي وحده. تابع بصري للحظة قامته المربوعة بعض الشيء. مررنا قربه في سيارة الأجرة، وقد أعطت أسماء عنوان البيت للسائق. رأيت عبدالوهاب البياتي يسير بخطى بطيئة، وحيداً ومهموماً، ونظره مسمر في الفراغ أمامه، وكأنه يبحث عن شيء ما، كان يرفع يده ليمج من سيجارة أشعلها، وهو يسير متعباً. ولم يلتق البياتي الغالية ناديا الا مرات قليلة بعد ذلك. زارها لفترة قصيرة ثلاث مرات ليحضر ولاداتها، ناديا انتحرت في مطلع عام 1991، في بداية اجتياح القوات الأميركية وعاصفتهم الصحراوية العراق: اعتقدت ان موتها سينقذ عائلتها، فتخرج أو بالأحرى تغادر العراق لتحضر دفنها، فكان موتها فاجعة كبرى دمرت الشاعر الكبير. "موت ناديا دمر أبي وأنقذه في آن" قالت لي أسماء في احد أحاديثنا الحميمة التي تستغرق وقتاً، حين نلتقي بعد فراق طويل، ونستعيد ذكرى الأيام الحلوة في مدريد، والتي عشناها في دفء عائلة طيبة وحنونة، شتت الموت القاهر أفرادها بعد سنوات. بعد رحيل ناديا الى أميركا، ظللت ألتقي باستمرار عائلة البياتي، وبعد أن أصبحت أتنقل بعد عام 1984 ما بين بيروتومدريد، التي كانت لا تزال تتخبط في شراسة واقعها، ويتعذر على أهلها في غالبية الأحيان الاتصال بالخارج. ولما عدت في أوائل صيف عام 1988 الى مدريد، التي كنت انسخلت عنها أربعة أشهر، كانت عائلة البياتي عادت الى بغداد، قالت لي صديقتي المستشرقة كارمن رويز برافو: "انهم راحوا بعد سفرك بقليل". وصرت أعرف شيئاً عن أخبار الشاعر الكبير من بعض الصحف العربية. آلمني كثيراً موت ناديا المفاجئ، وآلمني أكثر أني لم أستطع أن أكون مع العائلة في هذا الظرف العصيب، واني لا أعرف الى أين يمكن أن أكتب لها كلمة حب وعزاء صادقة. والتقيت البياتي صدفة ومرة واحدة في بيروت، بعد سنوات، وكان انتقل الى العاصمة السورية: كان يجلس في مقهى المودكا وحيداً. تحدثنا لبضع دقائق، سألني فيها عن أحوالي، وسألته أنا عن أسماء. كان يبدو أكثر وحدة، وتسكنه المرارة المرة، وقد شاخ كثيراً، أعطاني رقم هاتفه الأخير في دمشق، ورحل...