في مواقع رئيسة من بيروت - وربما في الكثير من العواصم العربية الأخرى أيضاً - ثمة يافطات اعلانية شديدة الأناقة تقول ما معناه أن محطة"العربية"باتت الأولى في العراق بالنسبة الى إقبال المتفرجين عليها. ونعرف كذلك استناداً الى دراسات نشرت قبل فترة الى أن"العربية"نفسها هي الآن الأولى، مشاهدة، في السعودية. والحقيقة ان ليس ثمة ما يمكننا من التشكيك في هذه التأكيدات، اذ نعرف منذ زمن أن"العربية"التي كانت لسنوات قليلة خلت مجرد"معركة يائسة"في مقابل"أم المحطات الاخبارية العربية"، أي"الجزيرة"، عرفت كيف تشغل مكانتها المتقدمة بالتأكيد مسجلة نقاطاً عدة على منافستها الرئيسة. لا يعني هذا، بالطبع أن"الجزيرة"فقدت رصيدها القديم الذي جعل منها أوسع المحطات العربية انتشاراً، وخصوصاً عند اندلاع الاحداث الساخنة. فقط يعني ان ثمة ملايين المتفرجين بدأوا يسأمون مما سماه مراقب"استفزازية"محطة"الجزيرة"ونرجسيتها المضحكة أحياناً. مهما يكن، فإن"العربية"وپ"الجزيرة"محطتان حاضرتان في المجتمع العربي بقوة... وربما على المستوى نفسه حتى وإن كان يحلو للبعض أن يقول:"أجل هما على المستوى نفسه ولكن أولاهما صاعدة والثانية في هبوط...". قد لا يكون هذا الكلام دقيقاً. ولكن من المؤكد ان"الجزيرة"التي ترتبط أكثر وأكثر بما هو متطرف، وتكاد تشبه خطاب الستينات في مواقفها واختياراتها، فقدت الكثير من بريقها الذي صنعته، أصلاً، بدايات شديدة الغموض، ثم عون من طالبان والقاعدة في أفغانستان، فعون من السلطات العراقية المخلوعة قبل سقوط بغداد... حيث نذكر ان النظامين اللذين كانا على حافة الانهيار أمام الهجمة الأميركية حرصا في آخر أيامهما على طرد كل المحطات العالمية ومراسليها، والابقاء على"الجزيرة"، ما مكنها من غزو السوق، ولعب الدور الذي كانت ال"سي ان ان"لعبته إبان الهجمة الأميركية الأولى على العراق. بين النوع والكم طبعاً يمكننا أن نقول هنا أن"الجزيرة"ثم"العربية"، أعادتا - بتفاوت وأحياناً بتناقض - ثقافة سياسية معينة الى الشارع العربي، على خلفية الأحداث الخطيرة التي عاشتها المنطقة خلال السنوات الخمس الأولى من القرن الجديد... وأعادتا، كل على طريقتها، وهم الحرية والديموقراطية الى الرأي العام العربي... غير انهما معاً، وفي أحسن الأحوال، لا تشغلان في حقيقة الأمر سوى نسبة يسيرة جداً من المناخ الفضائي العربي، ما يعني أن تأثيرهما نوعي أكثر منه كمي، إذ نعرف ان محطات كثيرة استمدت منهما شجاعة وتجديدات تقنية وإعلامية لتطور نفسها، خالطة في هذا كل أنواع المحاسن بكل أنواع العيوب، معيدة الى الحكي السياسي مكانته، نابشة في المواقع وفي التاريخ، مخترعة نجوماً جدداً، ومفبركة محللين وخبراء استراتيجيين لا بأس من القول ان معظمهم كان من نتيجة تدخله الانهيار العام الذي نشهده اليوم على صعيد الاختيارات الايديولوجية والسياسية لقطاعات عريضة من الرأي العام العربي. مهما يكن فإن المحطات العامة، والسياسية بخاصة، اذا استبعدنا المحطات العربية الرسمية من حسابنا، لا تشكل الأكثرية في المناخ التلفزيوني العربي... فهذا المناخ، عبر المئتي محطة ونيف التي نفترض انها قادرة على الوصول الى بيوت عربية كثيرة، يحفل الآن، بكل شيء... كل شيء تقريباً - وليعذرنا كل المثقفين العرب الذين لا يتوقفون عن النواح لأن ليس ثمة بين هذه المحطات واحدة متخصصة في الشؤون الثقافية ! -: فهناك المحطات العامة، والمحطات الاقتصادية والرياضية ومحطات الطرب القديم والغناء الحديث. هناك محطات للمرأة وللأطفال، للسياحة ولشؤون الدين - كل الأديان من فضلكم!-. هناك محطات تدعو الى الارهاب، ولو مواربة، وأخرى تدعو الى السلام... وهناك كل ذلك الرهط من المحطات الذي"يسطو"على نتاجات فن السينما فيستفيد منها من دون أن يفيدها. في الحياة اليومية لكل شيء اليوم محطاته. ولكل شاردة وواردة في الحياة اليومية زاوية في الجهاز الصغير ترفدها... وكل هذا في إطار يذكر بما كانت تقوله أغنية قديمة لجان - جاك غولدمان"انها الحياة بالواسطة". فبالواسطة يعود العربي اليوم الى أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، وبالواسطة يعيش طفولته، ويطبخ ويمارس الديموقراطية ويحضر المباريات الرياضية، ويخيل اليه - إذ يصغي الى مماحكات"قطبين"آتيين من فكر الستينات الدون كيشوتي - انه يشارك حقاً في صنع السياسة. والأحداث، كبيرها وصغيرها، يعيشها العربي لحظة وقوعها، ويمكنه ان يتابع تقلبات أسعار البورصة لحظة بلحظة، وتقلبات المواقف السياسية. بل انه يشارك في الكرنفالات والأعياد والامتحانات ويعرف الطقس في أي مكان في العالم في كل ثانية أراد. ومحبو السينما لم يعد أي فيلم يعصى عليهم، إذ ان"كل"السينما موجودة في كل لحظة على أكثر من ثلاثين محطة تبث الواحدة منها ما معدله 10 أفلام في اليوم الواحد. ولمحبي الرشاقة هناك التمارين اليومية، والاطفال المولعون بأفلام الكرتون لهم ما يرضيهم. أما اذا كنت من عشاق الكوميديا فحدث ولا حرج، هذا ناهيك بالتاريخ الذي يستعاد أمام ناظريك على الشاشة، وثائقياً في محطات عدة تبث فصوله، أو روائياً في مسلسلات سورية أو مصرية تنهل من التاريخ وتفبركه على هوى ايديولوجيات اليوم الآنية لتقدمه معلباً أمام أعين جمهور يزداد قولبة يوماً بعد يوم. قد نكون في هذه العبارة الأخيرة خرقنا قاعدة كتابية تحث على عدم المصادرة على الموضوع قبل عرض حيثياته، ولكن هل حقاً نجدنا في حاجة الى عرض هذه الحيثيات هنا؟ هل نكشف سراً إن قلنا أن كل هذه الوفرة في خريطة تلفزيونية عربية، تمكن أي ثري من أن يكون له محطته، وأي طرف من أن يسيطر على العقول من طريق السلاح الأخطر الذي اخترعته البشرية حتى الآن: الصورة المطاردة للمرء في كل مكان وفي كل لحظة؟ مقارنة ما الحقيقة ان من يرصد الواقع الذي يعيشه"الفضاء التلفزيوني"العربي، منذ ما لا يقل عن عشر سنوات، أي منذ اندلاع بداياته الأولى في بث عابر للحدود قاهر للرقابات، قادر على الحلول مكان كل ايديولوجيا وحزب ومعلمي تفكير، سيخيل اليه للوهلة الأولى ان كل هذا الكم سينتهي به الأمر للتحول الى كيف، بحسب النظرية الشهيرة... وقد يكون هذا صحيحاً ومنطقياً، بيد ان النظرية لا تقول لنا شيئاً حول الحيّز الزمني الذي يحتاجه تراكم الكم قبل أن يتحول الى كيف - أي الى نوعية. ومن هنا، من دون سوداوية النظرة الى المستقبل، يمكننا ان نقول ان المجتمعات العربية التي حلت عليها نعمة التلفزة والتلفزة الفضائية في شكل خاص، لا تزال تعيش في هذا الاطار، زمن التراكم الكمي، الذي ليس من شأنه، أو في إمكانه أن ينتج نوعاً. والدليل الملموس بين أيدينا: هل حال المجتمعات العربية اليوم - بعد عشر سنوات من"الحرية وپ"التقدم"الفضائيين -افضل مما كانت عليه؟ ان هذا السؤال يطرح نفسه من خلال المقارنة بين وضعية سادت حتى بدايات التسعينات وكانت الأنظمة تبدو فيها قامعة في شكل مطلق، مستنكفة عن اعطاء المجتمعات حرية التعبير، متحملة وحدها عبء كل التخلف والتردي الذي تعيشه"الأمة"منذ هزيمة حزيران يونيو - بحسب البعض -، ولكن منذ وصول العسكر الى السلطة - بحسب البعض الآخر -، وبين وضعية يسود فيها، بفضل التلفزات وضع تبدو حرية التعبير حاضرة فيه، والأفكار"النيرة"تصل الى الناس في أي مكان من زوايا الخريطة العربية... فهل يمكننا أن نخرج من هذه المقارنة بما يشير - أيضاً - بأصابع الاتهام الى المجتمعات نفسها، كاشفاً على ضوء العري التلفزيوني، انها بدورها - وربما أكثر - مسؤولة عن التردي الذي نعيش؟ طبعاً لن نوغل في هذا السياق، لأنه عند هذا الحد يخرجنا عن موضوعنا... المهم بالنسبة إلينا هو أن نطرح بعض التساؤلات، فقط، حول وضع من الواضح ان انظمة عدة تريد فيه أن تحقق اصلاحات تجد المجتمعات رادعة إياها عنها، ووضع تزداد فيه المجتمعات فرزاً - غير متكافئ- بين من يوغل في تبجيل التطرف والعنف والإرهاب، كوسائل صالحة للخروج من المأزق الذي يتردى فيه الجميع، ومن يرى ان نشر الوعي ودخول العصر، وسيلة ناجعة لذلك. وفي يقيننا انه في غياب الرأي العام الحقيقي... والاحزاب الحقيقية... والمشاريع المستقبلية الحقيقية، تبدو الشاشة الصغيرة، وحدها - تقريباً - المكان الذي كان يمكنه ان يلعب الدور الرئيس في حسم الأمور، لكنه لا يلعبه. أو بالأحرى فلنقل انه لا يلعبه كما يجب وبشكل واع، وإن كنا نعرف انه، في حقيقة الأمر، يلعبه في شكل موارب وأحياناً رغماً عنه، ما يعني ان الأمر غير ميؤوس منه تماماً، لكن المشكلة ان الفارق بين لعب الدور عن وعي، ولعبه عن غير وعي، فارق زمني يؤخر لحظة الانطلاق... من دون أن يقدر على الغاء احتمالاتها. غداً: لماذا التلفزة وكيف؟