ليست هناك، بالطبع، إحصاءات تفيد عن عدد أجهزة التلفزة الموجودة في طول العالم العربي وعرضه. وبالتالي من الصعب أن تكون ثمة إحصاءات حول العدد اليومي لمتفرجي هذه التلفزة، غير ان المنطق والرصد اليومي قد يفيداننا ان نصف المواطنين العرب على الأقل يشاهدون الشاشة الصغيرة ساعات عدة في كل يوم. ما يعني ان من يشاهدون برامج التلفزة - العربية غالباً - يشكلون مئات أضعاف من سبق لهم ان شاهدوا أو سمعوا الفنون العربية مجتمعة طوال عقود وعقود من السنين. ولسنا في حاجة الى تأكيد، مرة أخرى، هذه الحقيقة لكي نستنتج ما سبق استنتاجه مرات ومرات من ان التلفزة العربية يمكن اعتبارها أخطر وأهم جهاز فكري عرفه العالم العربي في تاريخه، إن نحن قصرنا حديثنا على المسائل الفنية والاعلامية التي تهمنا هنا. واذا اعتبرنا ان ثمة ما لا يزيد على عشرين أو ثلاثين محطة تلفزيونية عربية تبث يومياً في شكل متواصل وتصل الى عشرات الملايين هؤلاء من المتفرجين، يمكننا ان ندرك خطورة هذا الأمر وأهميته. والحال أننا اذا ما قررنا ان نجلس شهراً بكامله أمام الشاشة الصغيرة لنرصد ما يقدم طوال ساعات وساعات لعشرات الملايين من العرب، ربما سنجد أنفسنا مرة أخرى - وكما حدث مرات ومرات في تاريخنا المعاصر - أمام وضعية تقول لنا اننا هنا، ايضاً، أمام فرص ضائعة. وتزداد خطورة هذه الفرص الضائعة الجديدة إن نحن أدركنا، انها ربما تكون الفرص الأخيرة المتاحة للخروج من عنق الزجاجة، فكرياً وحضارياً - ومن طريق الفن - بعدما أوقعتنا مآزق القرن العشرين والهزائم المتلاحقة في مطبات كنا سرعان ما نكتشف بعد كل واحد منها خطورة الدور الذي لعبه الفكر واستشراء الذهنيات في توصيلنا اليها. قمنذ انهيار منظومة الفكر الليبرالي، وحتى ما استتبعته احداث 11 أيلول سبتمبر من تغييب الوعي العربي العام، مر العالم العربي بالعديد من الهزائم والتراجعات، التي حتى حين كانت تبدو سياسية أو عسكرية أو أخلاقية أو اجتماعية، لم يكن ثمة مفر من النظر اليها على أنها هزائم الذهنيات، وهزائم عامة ايضاً. وهذه الهزائم ناتجة من قصور الوعي في معظم الأحيان. ولن يفوتنا ان نذكر هنا ان الأكثر تقدماً بين مفكري العالم العربي وفنانيه، كانوا في كل مرة تسجل فيها هزيمة أو يعاش فيها نكوص أو تراجع، يكشفون ان العامل الأساس الكامن وراء ذلك انما هو ضمور الوعي وتراجع الفكر لمصلحة الغرائز، وانسداد الآفاق العقلانية أمام نزعات اسطورية، وانهزام التقدم امام كل ما فيه تقديس للتاريخ وعبادة للماضي. وفي هذا الاطار، وقد يمكن القول ان الهزائم العسكرية والسياسية تبدت دائماً أضأل شأناً من الهزائم الحضارية والتراجعات - على مستوى الوعي - التي عشناها. وفي كل مرة كان يجري فيها الكشف عن هذا، كان يؤمل من الوعي ان يتلو اللاوعي، ومن العقلانية ان تحل محل الاسطورية وما الى ذلك. ولكن في الزمن الذي كان فيه الفكر يعجز عن الوصول الى أصحاب المصلحة فيه، كان ذلك يعزى الى عجز الوسائط الموصلة، من كتب وأفلام وأحزاب فكرية - عقائدية وما الى ذلك. اليوم لم يعد لهذا العنصر الأخير أي وجود. اذ للمرة الأولى في التاريخ صار ثمة ما يمكننا ان نسميه وسيط الوسائط، والسلاح الأمضى والأكثر فعالية. فهل نحن قادرون حقاً على استخدام هذا السلاح؟ ولكن "نحن" هذه من تكون" ذلك هو السؤال الأساسي والمحوري الذي يتعين طرحه ها هنا. بيد إننا اذا ما حدقنا في الشاشة الصغيرة طويلاً، وفي المحطات كافة، سيتيسر علينا ان نعثر على الجواب، لأن ذلك التحديق سيقول لنا ان معظم الاسماء التي تطالعنا، سواء من بين كتاب المسلسلات أم المشاركين في البرامج الحوارية أم السياسيين أم الصحافيين، أم أي شيء تشاؤون، هي أسماء لأناس لم يكفوا منذ عقود وعقود عن ابلاغنا ضرورة التوعية كعامل حاسم في بناء المستقبل العربي. ويقيناً ان ليس في وسع هؤلاء، سواء أكانوا وراء الكاميرات التلفزيونية أم أمامها ان يشكوا من ان هناك، بالفعل، رقابات حقيقية تمارس عليهم، بخاصة اذا نحن تنبهنا هنا الى ان السلطات الفكرية والفنية في العديد من بلدان العالم العربي هي اليوم في أيدي اناس كانوا في الماضي القريب يدعون الى التقدم كما الى العقلانية. وبخاصة ايضاً اذا ما تنبهنا الى ان السلطات انفسها، ومنذ ما يقارب العقدين من السنين. ولأنها في معظم الأحيان والأماكن تخوض ما تعتبره "معركة وجود" ضد قوى التخلف، تكاد تعطي أولئك الحلفاء "التقدميين" غير المتوقعين إمكان ان يقولوا - في حدود قصوى متفق عليها أدبياً على الأقل - ما يؤدي الى استشراء ضروب الوعي العام. فإذا كانت الاوضاع كذلك. واذا كانت هناك امكانات حقيقية لقول كلام الوعي. ولاستعادة أزمنة النهضة. ولتقديم الروايات والافكار التي اثبتت جدواها. ولاستثارة الحنين الى أزمان ذهبية عقلانية زاهية... يظل السؤال الحائر هو: لماذا اذاً تبدو الشاشة الصغيرة عاجزة عن القيام بهذا الدور الذي يكاد يقترب عند بداية الألفية الثالثة، من ان يكون كلام البديهية؟ ولماذا يمضي أصحاب الفكر المتقدم، حين يقتربون من الشاشة الصغيرة وجمهورها، تغييباً للوعي وللعقلانية؟ لماذا تراهم يبدون، في أحسن أحوالهم، عاجزين عن التقاط هذه الفرص المتاحة لهم؟ ان حيرتنا امام هذا السؤال تنبع من واقع نرصده يومياً، وفي جلسة أمام الجهاز الصغير، وفي يدنا آلة التحكم تنتقل بنا من محطة الى محطة... وفي كل محطة، وفي كل ساعة، تطالعنا تلك الأسماء نفسها التي صمخت آذاننا عشرات السنين بالافكار الواعية الذهبية... ولا يسعنا أمامها إلا ان نتساءل محتارين: لماذا تقول هنا غير ما كانت تقول هناك؟ لماذا تبدو هنا أقل وعياً؟ لماذا... طالما ان احداً لم يطلب منها ان تكون أقل مما هي عليه عادة. فهل هو سحر هذه الأمة الصغيرة، ينقلب على من يدنو منها ويحوله الى دمية بين يديها، بدلاً من ان تكون الآلة نفسها وسيلة للتخلص من الدمى الجاهزة. من الافكار الجاهزة. وسيلة للتمكن من عدم اضاعة فرص لم نكف عن اضاعتها منذ عقود وعقود ما أوصلنا الى هذه الحال؟