حتى البرامج الترفيهية والغنائية التي كانت، لفترة من الزمن خلت، تستهوي متفرجي التلفزة وتجتذبهم للجلوس ساعات وساعات في مواجهة الصندوق السحري الصغير، كفت عن لعب هذا الدور، بسبب التكرار الممل الذي صار يطبعها وتشابه فقراتها، وافتقارها الى المخيلة المشوقة. ومن هذا، إذا أجرينا، اليوم، احصائيات جادة حول ما يستهوي المتفرجين اكثر من غيره، على الشاشة الصغيرة، سنجد ان الافلام السينمائية ستحظى بالمرتبة الأولى. وحين نقول الأفلام السينمائية نعني بالتحديد تلك الافلام الجميلة والجيدة التي صنعت منذ أواخر الأربعينات وحتى اليوم، تحاول ان تقول اشياء المجتمع وان تثير اهتمام جمهورها، وتعطي أدواراً جيدة فيها، لنجوم كبار وممثلين بارعين سرعان ما صاروا جزءاً من حياة المتفرج، وجزءاً من أحلامه. نعني بهذا ان الانتصار التلفزيوني الأكبر والأهم كان انتصاراً سينمائياً، أو بالأحرى كان انتصاراً للذاكرة السينمائية. اذ في غياب العدد الكافي من الأفلام، ها هي الأفلام نفسها تعرض ويعاد عرضها مراراً وتكراراً. وهي في كل مرة تعود وتجتذب المتفرجين من جديد، بحيث أننا نعرف متفرجين يحفظون عن ظهر قلب حوارات كاملة من أفلام جيدة أو يتذكرون ما كانت ترتديه فاتن حمامة في هذا الفيلم، وكيف كانت نظرة عبدالحليم حافظ في ذاك. ترى، هل يمكن لمثل هذا التأكيد ان يقول لنا شيئاً؟ ربما. فالواضح ان الألفي فيلم من الأفلام الصالحة للعرض والتي حققتها السينما العربية، المصرية خصوصاً، والسينمات العربية الأخرى أيضاً، على مدى تاريخها، عرضت وتعرض وستعرض أكثر وأكثر لتسجل عودة السينما، عن طريق التلفزة ثم بالتدريج عن طريق الصالات، بعد ان يكون قطاع عريض من الجمهور سئم البقاء في البيت وراحت تجتذبه صالات حديثة مريحة وعصرية في أمسيات تعود لتعتبر "خروجاً" اجتماعياً محبباً. لكن المؤسف ان هذه العودة لم تفهم تماماً بعد. ولا سيما من قبل مسؤولي التلفزة أنفسهم الذين لم يدركوا ان جزءاً كبيراً من الانتاج السينمائي الجيد في بلدان عديدة من العالم، بات ينتج في نوع من التوأمة بين الوسيلتين اللتين كانتا لسنوات خلت تعتبران على عداء دائم: الصالة السينمائية والتلفزة. فلئن كانت التلفزة مدينة للسينما بأجمل ما تعرضه، من المؤكد ان السينما - العالمية، بما فيها الاميركية أحياناً - مدينة للتلفزة بجزء من وجودها. وهذا يفرض نوعاً من الاهتمام المزدوج: اهتمام تلفزاتنا بانفاق جزء من ميزانياتها الضخمة على تطوير انتاج البرامج الدرامية، وصولاً الى حد انتاج - أو المشاركة في انتاج - أفلام سينمائية تصلح للعرض في الصالات، ثم في التلفزة بعد ذلك، واهتمام السينمائيين أنفسهم بالبعد التلفزيوني للعمل، ليس عن طريق الانخراط في اللعبة التلفزيونية نفسها، بأن يتحول السينمائيون الجيدون الى مجرد منفذين لبرامج التلفزة الترفيهية أو ما شابه ذلك، بل عن طريق صياغتهم لمشاريع سينمائية تأخذ في حسبانها جهاز التلفزة ومتفرجيه وضواغطه. مثل هذا الكلام كان يبدو هرطوقياً قبل سنوات، ولا سيما حين كان اشخاص مثل المخرج الكبير جان لوك غودار يبدون احتقارهم للتلفزة وترفعهم عن لعب لعبتها. ولكن بعد ذلك تبدلت أمور كثيرة: لم يتبدل المخرجون الكبار وحدهم، تبدلت التلفزة نفسها، كبرت شاشاتها، ارتفع مستوى الحرية التي يمكن ان تعطيها للسينمائيين، في الشكل وفي المضمون، وتطور مستوى الصورة التلفزيونية كثيراً عن طريق التقنيات الحديثة زيادة عدد النقاط، تضخيم الصوت، الشاشة العريضة... الخ. هذا كله يؤدي الى مصالحة تاريخية تقول ان التلفزة يمكنها ان تكون ودائماً أداة جيدة طيّعة ومميزة - تقنياً - لتوصيل السينما الى جمهور كان نسي السينما منذ زمن بعيد وراح يتعامل مع الفيلم السينمائي على انه جزء من "البرمجة" التلفزيونية لا أكثر. واستتباعاً لهذه "المصالحة التاريخية"، هل يكون كثيراً ان نطالب المعاهد السينمائية بأن تفتح فروعاً، لدراسة "جماليات العمل التلفزيوني"، والنقد بأن يأخذ في حسبانه مثل هذه الامور، وخصوصاً، السينمائيين بأن ينظروا الى التلفزة نظرة أكثر ايجابية: باعتبارها "باستيل" آخر يمكن اقتحامه. خصوصاً وان التنافس بين المحطات والشبكات المتكاثرة يتحول من تنافس على الكم الى تنافس على النوعية. وفي مثل هذه الحالة، واضح ان التلفزة التي تريد ان تعيش وان تتميز، لن تكون أبداً بغنى عن مواهب السينمائيين!