شمعة دوستويفسكي الشهيرة لا تضيء غير ما حولها وتبقى ظلمة العالم الشاسعة تغمر الأرض والبشر والأشياء. صورة الأدب العربي اليوم تبدو اقرب الى هذه الكناية اكثر من اي وقت آخر في ماضي المجتمعات العربية. لكن تقصياً لمستقبل الأدب العربي يستدعي اولاً تساؤلات عدة لماضيه وحاضره والأجوبة ليست إلا احتمالات ذات نبرة شكسبيرية لأن شكسبير في كل قرائه. هكذا فإن وصفاً تشاؤمياً آخر ممكن ان يبدأ بهذا السؤال: هل ما زال الأدب العربي حياً ليمضي نحو مستقبله ام انه انتهى لحظة وضع ابن النديم كتاب"الفهرست"في حدود العام ألف الميلادي، ليؤرخ لأدب سوف لن يبقى منه إلا صداه؟ هل ان ما كتب وما استنسخ وما علق عليه بعد"الفهرست"من شعر ومقامة وليال الفية وفلسفة ونقد ونظريات ألسنية لم يكن صوت حضارة تخترق الزمن ببناءات جديدة راسخة، قدر ما كان رد فعل لمشرق فاعل عاش لحظته التاريخية وما تلا ليس سوى توثيق لتاريخه وتاريخ الأفكار فيه؟ هل كان ابن رشد صدى للكندي والفارابي والغزالي وابن خلدون صدى للطبري... الخ؟ أليس الأدب تساؤلاً كونياً يستوعب كل التساؤلات الحياتية بما يسمح لنا بتوقع كل احتمال؟ الذين سموا الحقبة التي أعقبت الألف الميلادية، وبالأخص إثر سقوط بغداد، بالفترة المظلمة لم يخطئوا، اذ بعد ذلك التاريخ لم يهيمن الأدب العربي على مجتمعاته ليقوي من شوكة تجانسها مجترحاً رؤى وتقنيات فكرية لمستقبلها. وهو وإن ظل على قيد الحياة، لكن في نقاط العتمة تهيمن عليه عرافة مجتمع فقد عبقريته. الأدب العربي اليوم، نقولها بتشاؤمية كما في رواية بلزاكية Peau de chagrin"حب وطلسم"يتضاءل نوره الشحيح ويخفت رويداً ليبقى منه هذا الوهج الكفاف، المحيط بخيط الشمعة، والذي يمثله ادباء العربية. بصورة ما فإن اللغة العربية اليوم تبدو هي الخيط الرفيع، الأكثر اهمية من الأدب الذي تنتجه، والذي لا يدور إلا في محيطها التراثي والحداثي، وهي في هذا المنظور وبتنوع صلات هذه اللغة وتاريخيتها تبدو كأنها المستقبل الوحيد"والعليل"للأدب العربي! من دون شك سيواصل الأدباء المنتمين الى اللغة العربية الكتابة والنشر والشعور بالحيف ايضاً، وستكبر حلقاتهم على رغم ان حلقات قرائهم تضيق يوماً بعد آخر في"عالم عربي"بلغ عدد الأميين فيه نهاية العام الماضي 70 مليوناً بعد ان كانوا 50 مليوناً في العام 1970 بحسب احصاءات المنظمة العربية للثقافة والعلوم. في مشهد ضيق مثل هذا لنا الحق في استجواب يبدو بديهياً: لمن يكتب الأدباء في عالمنا في مشهد ضيق مثل هذا لنا الحق في استجواب يبدو بديهياً: لمن يكتب الأدباء في عالمنا العربي إذاً؟ يبقى هذا السؤال الأكثر اهمية مهما بلغ عدد الروايات والمجموعات الشعرية وكتب النقد الصادرة كل عام في بيروت والقاهرة وتونس والكويت ودمشق. قد تتعدد الأجوبة، بحسب الأهواء والرغبات والأفكار الجاهزة، لكن في نهاية المطاف نخلص الى جواب مخيف في وقعه، مخيب للآمال. الأدباء يكتبون لبعضهم ولبعض مقربيهم من القراء وأحياناً للمترجمين! فأفق القراء المجهولين الجدد المحتملين اصحاب الخبرة في تعدد مستويات القراءة، نادر دائماً بحكم تخلف عملية القراءة وأدواتها في كل بلد عربي، كل على حدة. صدمة الجواب تحيلنا بدورها الى مقارنات غير واقعية وغير ملزمة لكنها ضرورية لتأمل حجم التقهقر الذي اصاب الأدب العربي في العقود الأخيرة الأكثر مأسوية، ربما، لكنها الأكثر وعوداً بالتأكيد، اذا اخذنا في الاعتبار فكرة ادغار موران وهو يحذر من الوقوع في الهاوية"ان اعادة التشكيل اصبحت امراً حيوياً يمر عبر اليأس للعثور على الأمل". حينما تصدر في بداية الموسم الأدبي الفرنسي في الخريف اكثر من 700 رواية فرنسية ومترجمة الى الفرنسية، في بلد تعداد سكانه اقل من ستين مليوناً، يتساءل الروائي العربي: اذاً كم هو عدد القراء؟ الجواب انهم اقل قليلاً من عدد الأميين في العالم العربي؟ نضيف، في فرنسا ثلاثة مواسم للرواية في العام الواحد وعدد المجموعات الشعرية يتجاوز 300 سنوياً، ولن نسوق مقارنات محزنة اخرى. انعدام قراءة الأدب في العالم العربي اليوم هو المشكلة الجوهرية التي ستحدد مستقبل ادب هذا الجزء من العالم. إذ لا أدب. بالمعنى الاجتماعي للمفردة، إذا لم يتوافر القراء. فالأدب بتجاوز ظاهري لمجمل النظريات النقدية، هو محصلة عملية اجتماعية بالغة التعقيد بين القمة والقاعدة، بين النخبة والجمهور، بين الكتّاب والقراء، إذا وافقنا الناقد الفرنسي لوسيان غولدمان. تلك محصلة اولية لا يمكن ان يشذ عنها الأدب العربي، على رغم الأعذار التي تبرر خصوصية هذا الأدب، مرة بروح شعرية مسيطرة وأخرى بتراث شفاهي طويل وتلفيقات سياسية اخرى من هذا الطراز... وفي المشهد ذاته، مشهد مستقبل الأدب العربي، لا يمكن استبعاد طلقة مسدس ستندال التي صرعت ادبنا منذ نصف قرن، وأعني بها السياسة التي يقول عنها مؤلف"الأحمر والأسود"انها مثل طلقة مسدس بين نبرات كونسرتو. فالأخيرة دخلت لتزيح"الأدبي"من الأدب العربي وتقحم"السياسي"."السياسي"اصبح وهج النص وروحه لدى بعض النقاد وأكثر القراء. القارئ العادي والناقد معاً اصبحا ينظران الى الأدب من خلال منظور سياسي يكاد ان يكون مانوياً، بمعنى مع او ضد القضية. والقضية صارت تنيناً برؤوس عدة تشمل الأدب كله من قضية فلسطين مروراً بالموقف من المرأة حتى طريقة تأويل التاريخ القديم والحديث. اي ان الأدب اصبح مساعداً للسوسيولوجيا التاريخية وليس العكس، الى الحد الذي لا يتوانى فيه البعض عن تفسير"الخبز الحافي"كرواية سيرة ذاتية ضد النظام المغربي؟ في الآن ذاته استقرت قوانين لعبة مشتركة بين الكتاب والنقاد والقراء تفضي الى تحييد الأدب لمصلحة موضوعه أو تيمته جوهرياً. اي فرض الموقف السياسي كمقياس شبه مطلق للعمل الأدبي يحدد قيمه وشهرته ومن ثم قراءاته. من هذا الباب الضيق دخل شعر المقاومة الى المشهد الأدبي العربي الواسع كصحراء ودخلت اعمال اخرى شعرية وروائية ونقدية لتصبح علامات حقبة بأكملها. لكن، مثلاً، في الوقت الذي اصبح فيه محمود درويش شاعراً متكاملاً بنبرة خصوصية، اعلى من المقاومة، اهمل القراء شعره وغض الكثير من النقاد بصرهم عن النقلة الكبرى في شعره. غير ان الشاعر الذي اعتاد على جمهوره في الأسواق العكاظية مضطر بين حين وآخر الى كتابة"جداريات"للجمهور الذي لا يريد ان يفهم ما حدث حقاً للشاعر! وإذ يقرأ البعض قديم او جديد ادونيس فذلك للبحث عن جذوره السياسية المتخفية في نصوصه الشعرية او النثرية للوقوف معه او ضده! ولم تنج حيادية"واقعية نجيب محفوظ القاهرية"من هذه النظرة والأمثلة كثيرة في الحقبة التي اعقبت حزيران يونيو الشؤم. مع السياسة فإن مستويات القراءة ساهمت وتساهم في تقتيل الأدب. ليست مستويات القراءة ترفاً نقدياً منقولاً عن تنظيرات اوروبية، بل هي جوهر انتشار الأدب وديموقراطيته من دون ان يفقد مستواه. إذ هي التأويل المتعدد للنصوص والذي يوسع عملية القراءة ذهنياً ورقمياً وفي الوقت نفسه تسمح بتحديد نوع النصوص وعلاقتها بالأدب. مستويات القراءة المتدنية هي التي تجعل من الأعمال الأدبية الحقيقية القليلة الصادرة اما مسطحة من قبل القراء بحكم التأويل السياسي للأعمال او مغيبة عند غير المتخصصين"القراء العاديين"عموماً لأنها تبدو فناً من اجل الفن في عالم يهيمن عليه السياسي الذرائعي. في هذه الفوضى اصبح الخلط بين الكتاب الأكثر مبيعاً Best Seller والكتاب الأدبي الحقيقي على اشده لدى القارئ العربي، الذي يريد تفسيراً سريعاً لواقعه وهواجسه المركبة، ولدى النقاد الذين يريدون حدثاً ايجابياً يبعث الأمل، ولدى الناشر الباحث عن كسب، مشروع في كل الأحوال، او انطباعاً بأن ابواب المستقبل مفتوحة على اتساعها. وإذا عدنا الى الضجة التي احدثتها مبيعات رواية"فوضى الجسد"للجزائرية احلام مستغانمي والإهمال الكامل في الفترة نفسها لروايات ذات قيمة فنية عالية مثل"عصافير النيل"للمصري ابراهيم اصلان و"ضوء ازرق"للفلسطيني حسين البرغوثي، بين اعمال اخرى ذات قيمة ادبية عالية، نفهم الفوضى الملمة بالجسد الأدبي العربي! في منحى آخر موازٍ، فإن الجزء الكبير من الصورة الواقعية للأدب العربي نجده في صحافته التي تحاول ان تحل محله. وإن كانت هيمنة الصحافة ظاهرة عالمية، لكنها في العالم العربي اكثر تطرفاً. اذ ان طريق المرور الى الأدب يمر عبرها وليس العكس في اكثر الأحوال، حتى ان شهرة بعض الأدباء وأعمالهم قادمة من الصحافة فحسب من دون ان يكون لديهم رصيد ادبي واقعي. وليس سهلاً غض النظر عن التوجيه وأحياناً التضليل الذي تمارسه هذه الصحافة للقارئ العربي الأعزل من السلاح. يعلم الجميع ان زوايا الكتب الأكثر مبيعاً التي تنشرها بعض الصحف العربية هي فبركات بين مسؤولي الصفحات الأدبية وبعض اصحاب المكتبات او الكتّاب وليس لها علاقة بإحصاءات حقيقية كما هو معمول به في الصحافة الأوروبية. لكنها تحدد بعد نشرها مبيعات بعض الكتب وتوجه القارئ المتوسط الذي يثق بأحكام الصحافة، وبالتالي تشيع ادباً مدعوماً، ليس من جانب الدولة كما حدث لعقود، إنما من المؤسسة الصحافية. في هذا السياق فإن حرية القارئ مخترقة بلعبة الصحافة، اضافة الى ان ظاهرة لجوء الكثير من الأدباء الى الصحافة بنسبة مئوية لا تتوافر في بلدان افريقيا او اميركا اللاتينية ناهيك عن دول اوروبا، ما يجعل من الصحف مصدراً ادبياً مهماً يضر بالكتاب ويربك دور النشر ويقلص مسبقاً اختيارات القارئ. في البلاد العربية اليوم، خصوصاً الشرق اوسطية، نتوافر على ادباء كثر يعرفهم القارئ عبر مقالاتهم الصحافية المنشورة في الصحف اليومية، العابرة، ويجهل اعمالهم في الكتب التي يفترض انها ذات ديمومة اطول للأفكار؟ والقارئ العربي اليوم يعرف شاعراً مثل ادونيس عبر مقالاته من دون ان يطل على شعره او تنظيراته وليس إدوارد سعيد، بالنسبة الى البعض من القراء غير المتخصصين غير الكاتب الذي ينشر مقالات سياسية في الصحافة اليومية ويعيش في الولاياتالمتحدة، وأكثر قراء مقالاته يجهلون كتبه التي ترجمت للعربية. اما نجيب محفوظ فيكتفي اكثر القراء، خارج مصر خصوصاً، بمعرفتهم انه حاز نوبل في سنة من السنوات! عودة الأصولية للفكر الديني والسياسي طرحت الحداثة الأدبية ارضاً وجعلتها موضوع ممارسة اقلية ميكروسكوبية في المجتمع. اكثر الإنجازات الأدبية للقرن العشرين اصبحت موضوعاً خارج اهتمام المجتمع المنصرف الى البحث عن هويته عبر التراث القروسطوي او على الأقل السابق للحداثة الأدبية العربية الموصومة اليوم ب"الأوروبية". ما بدأ في التسعينات من القرن الماضي من ضجيج حول الروايات والمجموعات الشعرية ودواوين التراث الشعري العربي"غير المحجب"ضيق من حلقة الأدب الاجتماعية في اكثر من اتجاه. بعيداً من الضجة التي يطمح إليها البعض كوسيلة من وسائل الشهرة الأدبية، فإن الانتصارات غير الحاسمة للكتب موضوع المنع، حددت لحظتها مواضيع الكتابة المستقبلية لدى الكثير من الأدباء وزعزعت قوانين اللعبة الأدبية في شكل واع او غير واع. اذ ان مفهوم الرقابة الذاتية اصبح موازياً للرقابة الرسمية لمؤسسات الدولة والأخرى الدينية والطائفية. في هذا الفضاء الحر باتجاه واحد الذي خلقته حالة الحمى الأدبية، افادت دور النشر الأهلية والحكومية في اعادة التراث بمختلف اشكاله كحال ادبية معاصرة لدى القراء المحتملين خصوصاً الأجيال الجديدة. إذا اضفنا الى هذه الحمى حال التردد إزاء القطيعة مع التراث العربي القديم، كمصدر اعجاب مطلق، لدى غالبية حداثيي الأدب العربي وفي شكل خاص الشعراء، فإن بقاء المتنبي على منصة الشعر العربي على رغم الوصول الى قصيدة النثر، جعل من عودة التراث امراً سهلاً، بالمعنى الذي يجعل كل فعل ادبي حداثي ثانوياً وغير فاعل اجتماعياً. هكذا فالرواية العربية على رغم مرور اكثر من قرن على دخولها انواع الأدب العربي، فهي غير شعبية حتى قياساً الى بلد مثل نيجيريا الذي شهد ولادة الرواية بعد منتصف القرن الماضي. إلقاء نظرة على الإحصاءات والتخمينات التي تتعلق بحال النشر وموضوعات الكتب الأكثر انتشاراً المنشورة والمترجمة وتوزيع الكتاب ومن ثم القراءة تعطي فكرة اولية عن المستقبل الذي ينتظر الأدب العربي في العقدين المقبلين. اللوحة معتمة، من دون شك، وفي هذه العتمة ليس الأدب العربي هو نقطة النور فيها! الواقع ليس فعل ايمان قدر هو ما هو الديناميكية الداخلية للأشياء التي تجعل من اللغة حياة. والأدب العربي ماض الى هامشية او اقلوية ليس من السهل تقدير نتائجها الكارثية. الأدباء العرب الأكثر شهرة اليوم يحضرون من خلال عودة معاكسة للنص. بمعنى ان قوة ادبهم أو تأثيره وانتشاره ناتج من الترجمة الى اللغات الأخرى، عبر الآخر الذي لا يضع هؤلاء إلا في هامش ادبه، من خلال النظر الى نتاجهم كخبرة ثانوية"اكزوتيكية". لا يتعلق الأمر بنعي الأدب العربي منذ الآن، لكن حينما تصل مبيعات اعمال ادبية لكتّاب عرب في اوروبا الى ضعف ارقام مبيعات كتبهم في بلدان لغتهم الأصلية، بلدان قرائهم، الى الضعف او اكثر، فينبغي حينذاك قرع اجراس الخطر. سيستمر الأدباء العرب في"حال الكتابة"، ستستمر المخطوطات في التحول الى كتب تباع في المكتبات، ستستمر تقنيات الأدباء وبحوثهم عبر الأدب وسيستمر النقاش في جدوى الأدب. لكن في مجتمعات في اوج البحث عن قطبيتها الحاضرة تبقى الأسئلة مفتوحة على اتساع ما يتيسر من افق، كي نبقى طامحين في ان نفاذ اليأس هو ولادة جديدة. مستقبل الأدب العربي كما يطرح اليوم هو مستقبل الكتابة واللغة العربية ومستقبل الكاتب الفرد - المواطن. في عالم معاصر عجل نحو قدره تنقرض فيه كل يوم 8 نباتات وحيوان واحد، هناك جدوى ومشروعية لكل سؤال. الخيال العربي لن ينقرض بسهولة، والأدب هو حقل خياله الباقي الذي نأمل ان لا يدخل في محمية الكائنات التي في طريقها للانقراض!