يقول أندريه جيد:"وحدها الأسئلة تبصر... أما الإجابات فعمياء". إذا طبقنا هذه المقولة على الانتخابات الرئاسية المصرية في 7 أيلول سبتمبر الجاري، يحلق فوقها سؤال أساسي هو: هل كان يمكن للرئيس مبارك أن يخسر تلك الانتخابات؟ والإجابة القاطعة بالطبع هي"لا"، ولو حتى على المستوى النظري المجرد. ومن هنا يمكن القول من دون تعسف، انها كانت انتخابات تعددية لكنها غير ديموقراطية، ذلك لأن تداول السلطة هو أهم أركان الديموقراطية، وهنا يرفرف السؤال الآتي: لماذا غاب ذلك الشرط تماماً؟ والإجابة على هذا السؤال لها مستويات عدة وأسباب متنوعة أوجزها في الآتي: أولاً: إن الحكم الشمولي لأكثر من نصف قرن ترك المجتمع ضعيفاً ومفككاً لحساب دولة تسلطية مركزية شرسة، وأهم معالم ذلك: التهرؤ والسيولة الطبقية وزوال دور الطبقة الوسطى من دون اختفاء قيمها، وغياب الوكلاء الاجتماعيين لفئات المجتمع، حتى ان كل عمد القرى 5 آلاف تقريباً ورؤساء الأحياء ومجالس المدن والمحافظين يتم تعيينهم، كي يصبحوا رديفاً أمنياً، ومن الطبيعي بعد ذلك أن تغيب كل علاقات الإنتاج وأسس توزيع العمل الاجتماعي لحساب سيطرة الجماعات الوظيفية. ثانياً: دستور 1972 المعمول به وتعديلاته في 1973 لا ينظم عمل رئيس الدولة ومسؤولياته، لكنه يقدم للرئيس دولة، وتسمح المادة 73 بإلغاء الدستور نفسه، وهي التي طبق بمقتضاها قانون حالة الطوارئ طوال ربع قرن تقريباً، كما أن هذا الدستور، طبقاً لروح تطبيقه وطريقة تشريع القوانين، لا ينظم المجهود الاجتماعي للرعية، ولكنه يقدم أجسادهم واحتياجاتهم الروحية والأخلاقية وأنشطتهم العقلية ملكاً خالصاً للدولة، حتى يمكن القول، مع بعض المبالغة، انه يناسب معسكرات الجنوب الأميركي في القرن الثامن عشر. ثالثاً: منذ بداية حكم جمهورية يوليو حتى نهاية حكم الرئيس السادات، كانت نواة الحكم عسكرية، لذا كان الخط الفاصل بين ما هو مدني وما هو عسكري واضحاً تماماً، ولكن خلال حكم الرئيس مبارك استبدلت بتلك النواة الأجهزة الأمنية ذات الجذور العسكرية، والنتيجة هي تلاشي الخط الفاصل. ومهدت لهذا الاستبدال موجة دعائية ضخمة أخذت مادتها الأساسية من أهم أرصدة الاستهلاك المحلي، وهي الصراع العربي - الإسرائيلي. وفي ظل قانون الطوارئ وانهيار مؤسسات التشريع والقانون وعدوانية البيروقراطية ضد المجتمع، تداخلت الأنشطة من الثقافة إلى الاقتصاد، شاملة كل مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان وأجهزة الأمن والتحقيق والتقاضي والديبلوماسية والإعلام ومراكز الدراسات والعلم، في حال من حالات الإقطاع العسكري في ثوب مدني هذه المرة. لكن ذلك تسبب في تحويل السياسة المصرية الإقليمية والدولية إلى متعهد توزيع أيديولوجي، ووكيل فاشل للبلاغة البعثية. وخدم شعار"لا سلام بدون سورية"الأجوف بشعار أكثر خواء هو"عودة مصر للصف العربي". ولكن الأخطر كان جماعات رجال الأعمال الرسميين، الذين اصطنعت لهم شهادات ميلاد مالية. وفي تناقض شاذ، أصبح في مصر أحزمة منهم يساندون الاقتصاد المركزي والقطاع العام والحكم الشمولي، ووصل الأمر إلى احتكار ميادين اقتصادية ومالية بكاملها، وسلبت الأسواق من رجال الأعمال التقليديين بأحكام قضائية جائرة وعمليات"اعدام"مدني، حتى ان الأسرار الشخصية خرجت من ملفات التحقيق والقضاء السرية، ووجدت طريقها إلى صفحات الفضائح وأسواق الأشرطة والاسطوانات المدمجة. وقد خرجت فكرة توريث السلطة من هذه الأوساط، وليس حزب السلطة سوى واجهة لكل ذلك، حتى ان أحد الصحافيين الأميركيين وصف لجنة السياسات في الحزب الوطني بأنهم"الأولاد المبتسمون Smile Guys"أي الوجه البشوش الذي يغطي أعمالاً أخرى. يمكن القول ان انتخاب"المنصب"ورئيس الأمر الواقع، بصرف النظر عن شخصيته، كان النتيجة الطبيعية لكل عمليات الانداد التشريعي والتنفيذي والمالي والنشاط الواسع والمكثف للحشد والتعبئة لرفع نسبة التصويت، وكذلك الاتفاقات السرية والمعلنة التي سبقت يوم الانتخابات، وأيضاً النتيجة الرسمية. وطبقاً لمشاهداتي والمعلومات المتاحة، أقدر نسبة الإقبال على التصويت بما بين 8 و11 في المئة في أقصى تقدير، بما في ذلك التصويت المصطنع وعن طريق الإكراه، ولكن، علينا أن ننتظر تقرير نادي القضاة فهو الأكثر صدقية والأقرب إلى الدقة، وإن كانت النتيجة الرسمية، وهي 23 في المئة، لا تخلو من مغزى وتؤكد العصيان الوطني. لا يمكن لكل تلك الأحداث في الداخل المصري، بما في ذلك التراجع عن الإصرار على عدم إجراء التعديل الدستوري، والتهاون أمام الرقابة الخارجية والداخلية، بعد القطع بالرفض مراراً، أن تنفصل عمّا يشبه الوصاية الدولية على الشرق الأوسط، وتبرز قسماتها في السودان وليبيا ولبنان وسورية، وعمل لجنة التحقيق في اغتيال رفيق الحريري، والرعاية الدولية للقضية الفلسطينية، وقرارات مجلس الأمن الخاصة في المنطقة ومن بينها الإرهاب، كذلك اتفاقات الشراكة والتجارة مع الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة. وإذا أضفنا مناورات النجم الساطع في مصر، وبمشاركة 13 دولة، بينها وللمرة الأولى دول شرق متوسطية، وإعلان وزارة الخارجية الإسرائيلية عن زيارة الرئيس مبارك لإسرائيل قبل نهاية العام، كما أنه وبعد نصف قرن من الاستهلاك المحلي للقضية الفلسطينية أصبحت قوات حرس الحدود المصرية بين مصر والفلسطينييين فقط، كي يثبت كل ذلك وما سيأتي مآل جمهورية يوليو العسكرية الريفية، ولن تفيد في شيء برامج التغطية الديماغوجية التي تقدمها"الإذاعة"المنافسة لمحطة"صوت العرب"والمسماة بالجامعة العربية. كما وعد الرئيس مبارك بتوقيع اتفاق التجارة الحرة F.T.A مع الولاياتالمتحدة، والذي رفض سنة 1982 عندما كانت شروطه لمصلحة مصر، ولم يكن يتضمن مثلاً حقوق الملكية الفكرية. ما سبق يعني أن الضغط الخارجي قام بدور المحفز والمثير لتفاعلات البيئة السياسية والاجتماعية في مصر، التي كانت في حال من العقم والركود إلى حد التعفن، وهكذا انتقلت إلى وضع متحرك مشحون بالتفاعلات، وإن كان ببطء وتعثر، مثل شخص مقعد بدأ في الوقوف والمشي في أحد أطوار العلاج. ولأن قانون الحركة هو أهم حالات الصراع، ووسيلة الكشف عنه، فإن رصد بعض تفاصيل هذه الحركة يكشف بعض أبعاد الصراع، وأهم من ذلك مستقبله الذي هو نفسه مستقبل مصر، ذلك الوطن البائس المملوء بالألم والحرمان، بعد أن فقد كل فرص المشاركة في صناعة التاريخ، وفقد معها الحق في الانضمام إلى الجماعة الإنسانية. ومحاولتي للرصد كالآتي: أولاً: أحدث الحراك السياسي شرخاً في جدار الخوف، على رغم أن مباني جمهورية الخوف ما زالت قائمة بكاملها، وفي مقدمها قانون الطوارئ، وقد امتد هذا الشرخ في بعض الأحيان لينال من هيبة الدولة التقليدية، كاشفاً الهشاشة وجفاف الروح لهذه الجمهورية. ثانياً: كان تشكيل اللجنة العليا للانتخابات التفافاً واضحاً وتهميشاً لدور القضاء في الإشراف على الانتخابات، وتحقيق النزاهة والشفافية، إذ تشكلت من رجال قضاء جديد غير شعبي، لا يحق للأفراد التقاضي المباشر أمامه هو المحكمة الدستورية، وقد أنشئت في عصر الرئيس مبارك، وكل القوانين المنظمة لها اعتمدت عبر مجلس الشعب"المعروف"، ومعهم بعض الشخصيات القضائية والعامة، الذين سبق تعيينهم بقرارات جمهورية صدرت من الرئيس مبارك، وبالطبع كانوا ينفذون سياسات النظام ممزوجة بالامتنان، وحصنت اللجنة بسلطات تشريعية وقضائية وتنفيذية فوق المحاسبة بكل أشكالها، في ما لا سابق له ويجافي كل منطق، ولم يقف الأمر هنا، إذ ذهبت هذه اللجنة تنتدب القضاة وتقسمهم إلى"متعاونين"و"غير متعاونين"ضد كل المتعارف عليه في تاريخ القانون والحقوق الذي يفترض استقلال القاضي، حتى أنها أبعدت 1700 قاض عن العملية الانتخابية باعتبارهم"غير متعاونين". ثالثاً: كان حافز الصدام العنيف لنوادي القضاة مع السلطة الحفاظ على شرعية الدولة المصرية وحماية القانون، ومن المعروف أن السلطة القضائية غير مستقلة، وليست لها موازنة خاصة مستقلة، مثلما هو متوافر لمجلس الشعب والجهاز المركزي للمحاسبات، كما أن وزير العدل هو الذي يحيل القضاة للتأديب، كل ذلك وغيره قد يشق صفوف القضاة ويحوّل القانون إلى وسيلة سياسية، وفي اعتقادي، أن التاريخ سيذكر أن هؤلاء الذين اجتمعوا في نادي قضاة الاسكندرية ونادي قضاة مصر كانوا يدافعون عن أهم قيم الطبقات الوسطى قبل انقلاب يوليو، ودرة الدولة المصرية الحديثة الثانية 1919-1992، وهي كرامة القضاء وحق المصريين في العدالة وسيادة القانون. رابعاً: في الوقت الذي رفعت فيه جماعة الإخوان المسلمين شعارات ديموقراطية، وطالبت بسيادة القانون، ودعمت نادي القضاة حتى لو كان ذلك على سبيل التكتيك، كان حزب السلطة هو الذي يتداول الشعارات الدينية ولجأ إلى المؤسسات الدينية والمساجد والزوايا، ووردت آيات القرآن والإنجيل في دعاياته، ولكن الأكثر إثارة للانتباه دعم بعض قيادات الجماعة الإسلامية الراديكالية مرشح السلطة. خامساً: كان أحد الدفاعات الأساسية لنظم الحكم التسلطية ضد المشاركة الشعبية، هو أن الديموقراطية"المفروضة من الخارج"ستصبح بوابة إلى الفوضى، وعندما انتزعت القوى الشعبية حق التظاهر السلمي، رفعت بجوار شعارات الحرية شعار سيادة القانون، وطالبت بالشفافية والنزاهة وحافظت على نحو مثير على شروط التظاهر السلمي، ولكن جماعات حزب السلطة المستأجرة، وهي التي لجأت إلى العنف اللفظي النابي، والجسدي الذي انحدر إلى هتك أعراض محاميات وصحافيات، وأوضح ذلك تماماً من المستفيد من الفوضى وانحدار أداء الدولة. سادساً: كانت إحدى الثنائيات الدفاعية ضد الديموقراطية التي سقطت خلال الحراك السياسي، هي أن على الغرب أن يختار بين الديكتاتورية والإسلام السياسي، الذي سيصل حتماً عبر الديموقراطية، وردد تلك الثنائية بعض الببغاوات في الغرب، وأوضحت النتيجة"الرسمية"بجلاء أن قوة الغالبية الصامتة التي تحولت إلى موقف إيجابي، أكبر بما لا يقاس من حاصل جمع قاعدة السلطة والإخوان المسلمين وفوقها حزبان ليبراليان وسبعة أحزاب مجهولة مكان الإقامة، بل ان تحليل النتيجة نفسها يوضح أن القوة الثانية المنافسة مرشح حزب ليبرالي شاب. وقد يطفو هنا سؤال أعتقد أنه مهم، وهو أن قوة العصيان الوطني ليست لها قيادة واضحة، مع استثناء نسبي هو القوى الليبرالية المقيدة، واليسار والناصريون والحركات الشعبية الناشئة، ولكن لا يجب نسيان الدور الملهم الرمزي والقيمي الضميري الذي تقوم به نوادي القضاة، وتعبيره الحقيقي عن تململ الطبقة الوسطى، خصوصاً بعد تقريرها المثير الذي أربك الجميع عن تزوير نسبة التصويت على الاستفتاء على تعديل المادة ،76 وأن النسبة كانت 3 في المئة فقط، على رغم الإعلان الرسمي عن الرقم 53 في المئة. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإنني أستحضر حقيقة أن قائد ثورة 1919 رافع شعار"الاستقلال والدستور"زعيم الأمة سعد زغلول كان قاضياً. سابعاً: خلال الاتصالات السرية ونصف العلنية بين الأطراف، التي تضمنت صفقات عن عدد أعضاء البرلمان المقبل في مقابل المشاركة والتصويت، تداولت أوساط حزب السلطة والوفد فكرة الحزبين الكبيرين، التي كشفت المسافة الكبيرة بين هذه الأوساط والثقافة السياسية والتاريخية، وبات أن وضعية الحزبين في الولاياتالمتحدة مثلاً نتجت من صراع اجتماعي وثقافي، بين فكرة الفيديرالية والكونفيدرالية والشمال الصناعي والجنوب الزراعي، وعملية تجربة العبيد التي قام بها الشمال ضد الجنوب، والجدل حول أحداث التراكم الرأسمالي. ويكشف حجم التحولات أهم سمات التفاعل الاجتماعي، لقد ظهرت تلك الأوساط التي تداولت تلك الثنائية مثل بعض طغاة أفريقيا ما قبل سيغور ومانديلا، الذين توقف تقليدهم للحداثة عند القبعة وتدخين البايب. ومن المثير للسخرية أن تلك الثنائية تداولتها بعض الدوائر الأميركية. ثامناً: كشفت الحركات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني التي تشكلت في الشارع مباشرة، ومن دون أن تحمل أختام السلطة، مثل حركة"كفاية"وتجمعات"من أجل التغيير"و"شايفينكو"و"سواسية"وحزب العمل وغيرها، التي لم يجمعها سوى الانتماء الاجتماعي إلى الطبقة الوسطى، كشف ذلك عن الفارق الهائل بين الأحزاب الشرعية الورقية وأنشطة حقوق الإنسان"المربحة"، وبين العمل السياسي المهموم حقاً والعمل التطوعي النقي، حتى ان هذه الحركات أسهمت في إزالة التخاذل عن الأحزاب الشرعية الحقيقية مثل حزب التجمع والحزب الناصري. كما أثبتت أن غالبية الأحزاب الشرعية مجهولة العنوان وجماعات حقوق الإنسان الرسمية، إنما هي وليدة النفاق السياسي والأخلاقي والفساد، وقبل كل ذلك الرضا الأمني. ليست لدي أوهام حول ما كررته مراراً عن العصيان الوطني، إذ أعرف أن قسماً منه ناتج من اللامبالاة السياسية لقطاعات كبيرة من الفئات الطبقية العشوائية والمهمشة، التي تعاني من اليأس الاجتماعي، ولكن هذا يدلل على أن العديد من الفئات فقدت المصلحة في الوطن، وهذه بدورها حقيقة اجتماعية ديناميكية من مصلحة الجميع انخراطها في التفاعل الاجتماعي، ولن يقدر على ذلك سوى من يؤمن بحق الفرد المصري في الديموقراطية والمساواة والسلام. كاتب مصري.