الحراك الاجتماعي لم يتوقف في مصر على رغم الثورة والانتخابات، وتغيير الرئيس و «النخبة» الحاكمة. ومن يتابع حركة الإضرابات والاعتصامات والتظاهرات، ومختلف أشكال العصيان، يعتقد أننا ما زلنا في أواخر أيام حسني مبارك. ومن يتابع الحراك السياسي يلاحظ أن الأمور لم تختلف سوى بتغيير الأسماء المستهدفة، حيث تبدو التكتيكات المعتمدة هي ذاتها، وتنطلق من المنظور ذاته، كأن ثورة لم تحدث، وكأن «أحجار الشطرنج» لم يختلف سوى لونها. وتغرق المعارضة في سياسة «الحشد» ضد أخونة الدولة، وهناك من يميل إلى اعتبار أن اساس الصراع الآن هو الصراع «المدني» ضد الأسلمة، أو صراع الدولة المدنية ضد الدولة الدينية. بالتالي، بينما تتصاعد موجة الاحتجاج، ويتوسّع الاحتقان الاجتماعي، ويصبح واضحاً أن «وضع الناس» هو الأولوية الحاسمة، تتوه المعارضة في تكتيكات لا معنى لها سوى تدعيم سلطة الإخوان من جهة، ومن جهة أخرى ترك الشارع لتطوره العفوي، ولظهور بعض الميول المربكة. الشباب يتجذر في سياق الصراع من أجل فرض مطالب الطبقات التي يمثلها، من الفقراء عموماً، لكنه لم يبلور بعد الرؤية والسياسات، ولم يعرف كيف ينتصر. ما حدث في الذكرى الثانية للثورة المصرية بروفا لثورة مقبلة حتماً. في مرة سابقة اقتحم الثوار قصر الاتحادية لكنهم لم يريدوا السيطرة عليه، فقط كان الأمر تبليغاً بأن هدفهم قد يصبح القصر إذا لم يتحقق ما يريدون. اليوم يحاول الشباب اقتحام القصر بالقوة. ليست القوة هي ما يلفت هنا، بل حالة الانتقال من السلبية إلى الهجوم، من الاعتصام في الساحات «حتى يسقط النظام» إلى الهجوم على مراكز السلطة من أجل السيطرة عليها. هذا هو، ربما، الموضوع الأهم الذي تبلور بعد عامين من عمر الثورة، التي ما زالت مستمرة على رغم الهبوط والصعود اللذين تعيشهما. ولا شك في أن الوعي والخبرة قد تراكما لدى الشباب الذي هو مصمم على استمرار الثورة، ويخوض الصراع طيلة هذين العامين. ونجد أيضاً أن قطاعات شعبية راهنت على الإسلاميين اكتشفت أن سلطتهم لم تختلف عن سلطة حسني مبارك، وأن الأمور لم تتغيّر، بل ربما تغيّرت نحو الأسوأ. ولهذا عادت الى ممارسة أشكال الاحتجاج المختلفة، الأمر الذي جعل الوضع الآن شبيهاً بما كان عليه في السنة الأخيرة من حكم مبارك. ذلك كله يؤشّر إلى عودة لتبلور «وضع ثوري»، ظهر في تظاهرات ضخمة، بات مقصدها «قصر الاتحادية». لكن يبقى أن هناك ما هو «ملتبس» أو «ضائع». فما الهدف الآن؟ في ثورة 25 يناير كانت قد تجمعت مطالب الطبقات الشعبية تحت هدف «إسقاط النظام». وكان واضحاً أن حق العمل والحد الأدنى للأجور وأرض الفلاحين، والتعليم والصحة والبنية التحتية، كلها تقتضي إسقاط النظام. وإذا كان قد تلخص هذا الهدف في رحيل مبارك في 11 شباط (فبراير)، فإن الشعب اكتشف أن من وصل إلى السلطة اكتفى بذلك كتعبير عن «إسقاط النظام»، وأن هدف الديموقراطية والدولة المدنية قد ابتسر إلى انتخابات محسّنة جزئياً عما كان في زمن حسني مبارك. هذا الأمر هو الذي فرض استمرار تحرّك قطاعات من الشعب، وقبول قطاعات أخرى بما تحقق على أمل أن يحدث نقلة في الوضع. الآن لا يظهر أن شيئاً تحقق، خصوصاً مع اتباع سياسات اقتصادية قديمة-جديدة من جانب حزب الحرية والعدالة (الإخوان) ومع إقرار دستور بطريقة سيئة وميل واضح لهيمنة شاملة تحاولها الجماعة. لكن، ما يبدو واضحاً هو أن الهدف الذي يلمّ كل ذلك ما زال غائباً. حيث تتوزع الشعارات بين «إسقاط الدستور»، و «إسقاط حكم المرشد»، أو «إسقاط حكم الإخوان». وأيضاً تسير المعارضة (جبهة الإنقاذ) إلى الضغط من أجل انتخابات ديموقراطية. فالذين يعتقدون أن الديموقراطية هي الطريق يعتبرون أن شعار إسقاط الرئيس خاطئ، وبالتالي لا يطرحون إسقاط النظام، وقد ركزوا على إسقاط الدستور. والشباب لا يزال مشوشاً، حيث لا يزال في «الوضع السلبي» الذي ينطلق من هدف الإسقاط فقط من دون أن يمتلك بديلاً واضحاً. وهو متردد أيضاً لأنه رفع هدف إسقاط النظام وانتهى حسني مبارك من دون أن يتغيّر شيء تقريباً، وبالتالي بعضه يرفع هدف إسقاط حكم الإخوان وبعضه يحس أن في ذلك تكراراً لما كان في 25 يناير. لهذا يتقدم من أجل السيطرة على مراكز السلطة، لكنه يبدو متردداً كذلك نتيجة هذا التشوش. وعلى رغم الميل الى اعتبار أن المطالب الاجتماعية هي الأساس، وأن العمل يجب أن ينطلق منها، إلا أن صياغة ذلك في رؤية ما زالت قاصرة. بمعنى أن الفهم العميق لمعنى إسقاط النظام لم يتبلور بعد، حيث يكون حين معرفة أنه يعني بالضبط إسقاط الطبقة المسيطرة وتغيير جذري للنمط الاقتصادي القائم. في هذه الحالة تنشأ نزعات متعددة. نزعة الميل إلى العنف، خصوصاً بعد ممارسات جماعة الإخوان العنيفة ضد المتظاهرين. وهي نزعة تنتشر لدى قطاعات من الشباب من الفئات الوسطى. ونزعة الميل إلى الفوضى، والممارسات الفوضوية، التي تبرز لدى قطاعات من الشباب من الفئات الوسطى أيضاً. لكن يمكن تلمّس انتشار الوعي بأهمية التنظّم، والميل الى بلورة رؤية للثورة ومطالبها، وكيف تتحقق. وسنلمس أن هناك من الشباب من لا يزال يراهن على «طريق الانتخابات»، ومن أصبح مقتنعاً بأن الثورة من جديد هي الطريق الضروري، ومن لا يزال «يعترف» بشرعية الانتخابات التي أتت بمحمد مرسي لكنه يريد إسقاط الدستور، وهناك من أصبح رافضاً لكل «الطريق الديموقراطي». في الواقع، سنجد أن كل أشكال الاحتجاج الاجتماعي في تصاعد وتوسع، كل أشكال تجريب إسقاط السلطة ايضاً خصوصاً في المدن الرئيسة. لكن الثورة تقدمت كل هذا الوضع يشير إلى أن الثورة تقدمت، وأن الخبرات تتراكم، كذلك الوعي، لكن لم تصل بعد إلى اللحظة التي يتحدد فيها الهدف بوضوح ليلمّ الشعب في ثورة جديدة. وهنا يمكن أن نلمس أن الوعي لم يوصل إلى تحديد الهدف، فلا يتعلق الأمر بإسقاط النظام فقط، بل يتعلق بالإجابة عن سؤال: ما هو النظام؟ الشخص أو الحزب او السلطة السياسية أو كلية التكوين الاقتصادي السياسي الذي يمثّل مصالح طبقة هي المسيطرة في الأخير عبر واجهة سياسية؟ إن الدخول في «الطريق الديموقراطي» من دون أن يتحقق ما يحل مشكلات شعب لم يعد قادراً على تحمّل الوضع الذي يعيشه، فرض أن يتبلور الوعي لدى الشباب بأن المطالب الاجتماعية هي في الصدارة. لكن ينتشر الميل الذي يقول بالضغط من أجل فرض «برنامج اقتصادي» يحقق تلك المطالب في ظل النمط الاقتصادي القائم. وهو ميل يكرر إصلاحية السياسيين بإصلاحية اقتصادية. وربما يستهوي ذلك قطاع من الشباب، لكنه سيصل إلى أفق مسدود، لأن الأمر يتعلق بالبنية الاقتصادية بكليتها. أي البنية القائمة على أساس ريعي (خدمات، عقارات، سياحة، استيراد، بنوك)، وهي البنية المطابقة لمصالح الرأسمالية المسيطرة. وهذه البنية هي التي أسّست لارتفاع عدد العاطلين من العمل، والأجر المتدني، وانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية، وليس من الممكن حل المشكلات الناجمة عنها عبرها هي، بل لا بد من تجاوزها. هذه هي الخبرة التي بتنا بحاجة لأن يكتسبها الشباب، لكي تفتح على الاقتناع بأن الأمر يتعلق بإسقاط الطبقة المسيطرة وليس «الضرب» على هوامشها عبر التركيز على الأشخاص أو الأحزاب أو الأشكال. وبالتالي السعي الجدي من أجل بلورة بديل ثوري ينطلق من إسقاط الطبقة الرأسمالية المسيطرة وفرض سلطة الطبقات الشعبية. في الأخير، الأمور تتحضر بالتأكيد. فالشعب يتدرب على اقتحام القصر والسيطرة على مراكز السلطة. والوعي يتراكم بما يسمح بصياغة رؤية وأهداف واضحة تقود إلى تحقيق تغيير جذري. والميل الى التنظّم، والشعور بالحاجة إلى حزب يقود الصراع، في تصاعد. وأيضاً الشعب يتلمس أن القوى القائمة لا تحمل حلولاً لمشكلاته الجوهرية التي جعلته غير قادر على أن يستمر في الوضعية التي هو فيها. لهذا نقول إننا في سياق ثورة مقبلة.