"شفافية المتوسط سحر الكون"، هو شعار الدورة الثالثة والعشرين لبينالي الاسكندرية لدول البحر المتوسط، الذي يقام في متحف حسين صبحي للفنون الجميلة في الاسكندرية حي محرم بك، وتشارك فيه 17 دولة عربية واوروبية، تعكس مختلف التجارب والاتجاهات الحديثة. ولمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس البينالي 1955-2005 يقام معرضان وثائقيان لضيوف الشرف في مكتبة الاسكندرية، ضم كلٌ منهما اعمال الفائزين في الدورات السابقة، مصريين وأجانب. وصاحَبَ البينالي ندوة دولية، شارك فيها باحثون أُدرجت ابحاثهم في محاور عدة، تناولت الاسطورة والفلسفة وخصوصية روح المتوسط، فضلاً عن دراسات توثيقية لتاريخ البينالي في نصف قرن. الخوف من ان يفقد بينالي الاسكندرية دوره التحريضي الريادي شغل هواجس القائمين على تنظيمه. فالسؤال الذي طرحه رئيس البينالي الفنان احمد نوّار حول المستوى الفني للدول المشاركة وقد تفاوت بين المتميز والتقليدي، استتبعه سؤال آخر محوريّ، عن اسباب تهاون بعض الدول العربية والاجنبية في إرسال أعمال لا تعكس حقيقة تطلعات فنانينها؟ وكان ذلك مدعاة للكثير من النقاشات المفتوحة التي اثارها كوميسير عام البينالي عصمت الداوستاشي، الذي اقترح من أجل تفعيل دور البينالي، في آفاقه المستقبلية، تشكيل إدارة دائمة مستقلة، تُخصص لها موازنة عالية، وأن يتم دخول إدارة مكتبة الاسكندرية بامكاناتها كشريك في الإعداد. للاسكندرية احلام ترتسم على صفحات أمواجها، ليس لأنها واجهة بحرية ثقافية، بل لأنها أخذت تستعيد ماضيها كمدينة كوزموبوليتية، مع انشاء مكتبتها، التي تعدّ تحفة معمارية بجدرانها التي حملت ابجديات من لغات الأرض، وموئلاً للتراث الانساني ومنبراً حراً للنقاش والنقد الذاتي. الاسكندرية منارة للوافدين من الشرق والغرب، هي ايضاً مدينة القصور والمتاحف والجاليات والقنصليات الاجنبية، يشكل فيها البينالي تقليداً شرّع المدينة على موجات الحداثة وما بعدها من الفنون الجديدة. وفي الدورة الثالثة والعشرين للبينالي، تكفي المقارنة السريعة بين نتاجات الفنانين، كي يتحسس المرء مواقع الضعف والقوة. فثمة اجنحة متميزة تنم عن خبرةِ شخصية الكوميسير في انتقاء الاعمال، كالجناحين الاسباني والايطالي المتماسكين، في حين ان الجناح الفرنسي لا يمثل حقيقة الاتجاهات الفنية الشابة، كما أكد ذلك رئيس لجنة التحكيم الدولية الفرنسي جان- ايبار مارتن. وبين معروضات هزيلة واخرى متينة ومدهشة، يظل التنظيم والتوثيق والمنهجية، هي سر من اسرار نجاح البينالي على رغم كل ما يحمل من نقد ذاتي ونقد مضاد. أما الاجنحة العربية فكانت غالبيتها تقليدية من حيث طروحاتها وموضوعاتها التشكيلية. ولبنان الذي قطف جائزة البينالي اكثر من مرة في المرحلة الذهبية للستينات ومطلع السبعينات، نراه في المرحلة الراهنة يفتقر إلى حضور التجارب الطليعية لفنون الشباب. وكأن الخلل هو في عدم استشعار القوميسير- الموظف بدلاً من الناقد- الخبير، المؤشرات الجديدة لفنون ما بعد الحداثة التي تأخذ موقعها كفن صاعد في مجمل التظاهرات العربية والعالمية. وما يسري على لبنان يشمل معظم نتاجات الاجنحة العربية التي تعاني الرتابة والتكرار في الموضوعات والخامات، ونكاد نقول إنها تجاوزها الزمن. ولئن استأثرت الفنون البصرية للوسائط المتعددة، من تجهيزات وميكسد- ميديا وفيديو- آرت وشرائط مصورة فضلاً عن ابتكارات عالم الصورة الضوئية، باهتمام اللجنة التحكيمية، إلا ان الالتفات إلى اللوحة والمنحوتة جاء من نافذة التجديد في الرؤى والمعالجة والتعبير بالخامات، غير ان العالم الايهامي لسحر البحر المتوسط بحاضره وماضيه، كان في معظم الاحيان التوقيع البارز لخيار المُحكمين في البينالي، مع أن بعض الجوائز التي اعطيت لبعض الفنانين تجاوزت الموضوع كلياً إلى اعجاب بالأسلوب الفني! الأعمال الفائزة أربع صور فوتوغرافية باللونين الأسود والابيض للمصورة ليزيه كاليخاس أثينا تمثل تأثير اشعة الضوء على ساحل أخيوس نيكولاوس، في لحظات متنوعة من الظلمة اللامعة، كأنها محاولة إعادة صوغ للواقع وللمنظر الطبيعي. والمفارقة ان اللمعان الذي يتبدى هو لمعان شمسي على منظر ليليّ للبحر. أما الجناح الاسباني، الذي اعتاد انتزاع جوائز البينالي في دوراته الأخيرة، ففاز هذه المرة بحضور خوسيه رامون ليدوريكو عن اعماله النحتية- التجهيزية، وهي من نوع البارولييف التي تموضعت بنتوءاتها المدهشة، وموضوعها اقنعة ووجوه وقوارب تبدو منبثقة من الجدار، تمثل رحلة المخاطر التي يخوضها الانسان المعاصر، المجبر على العيش في مساحات يسودها القلق والريبة، مشيراً إلى مراكب المهاجرين غير الشرعيين الذي يقضون نحبهم غرقاً وخوفاً في عرض البحر. ومن قبرص فاز عملان متميزان، احدهما لانجيلوس ميكايليدس عن عمل تجهيزي بارع مستوحى من اسطورة باريز وهيلين، التي تخاطب بشاعرية الخامات الورقية الشفافة روح هيلين التي غادرت جسدها كما الطائر، ولم يبق منها غير ذكرى ثوبها المعلق في فراغ الأزمنة وأكفانها كمومياء مستعادة من الطقوس الجنائزية الفرعونية. أما إراتو حاجيسسافا فقدمت صوتاً وصورة عرضاً بصرياً منفذاً بتقنية الديجيتال لموضوع طيور البحر. وفاز عن مصر الأخوان أمل وعبدالغني قناوي بجائزة البينالي، وهما قدما عملاً مشتركاً، عبارة عن لقطات فوتوغرافية لمجسمات نحتية متموضعة في فضاء غرفة تحت إنارة داخلية، وفيلم فيديو مدته عشر دقائق بعنوان"الغابة البنفسجية الاصطناعية"منفّذ بكاميرا ديجيتال في اسلوب توليفي تقليدي 24 فريم في كل ثانية، يعكس العلاقة بين العالم الداخلي الحميم وصقيع الخارج الممسرح. وفي جدلية الحياة والفناء، تبرز ف كرة الالتهام والخواء وعدم الاستقرار والأمان. فاللون البنفسجي الذي هو بين الاحمر والأزرق، يعكس فكرة البرودة والجمود. كما نال الفنان المصري عماد الدين عبدالوهاب جائزة البينالي، عن لوحات من الحجم الكبير تصور باسلوب تعبيري ساخر عالم المرأة بكل ما يحيط بها من تشوهات وذكريات متأتية من رواسب اجتماعية، ما هي إلا امتداد لأعمال الفنانة المصرية جاذبية سريّ. وفي إطار دراسة الوجه الانساني في النحت، استحق الايطالي ليفيو اسكربيلا عن منحوتات معاصرة شبيهة بمانوكانات هي ما فوق الواقعية، في محاولة إحياء التراث النحتي بحلة الخامات الجديدة. فقد توصل إلى صوغ نوع من الجمال الطبيعي في مظهره وملمسه. ويبدو أن الرجوع إلى الوجه الانساني اصبح احد المواضيع المؤسِسة للموجة الجديدة في التصوير الايطالي، وكذلك البحث عن افق جديد للأمكنة السكنية في هندستها المدينية: تناقضاتها وفجواتها. خارج الجوائز لفتت بين الفنانين العرب صرخة آتية من فلسطين مع جدارية لطيفة يوسف التي شيدت ما يشبه جدار الفصل. إذ صنعته من القصاصات الصحافية والخشب المطلي بالرمادي والاسود، على خلفية ملطخة بالبرتقالي، كي تعبر عن مدى العزلة القسرية والقمع، مع عبارة اعتراضية تقول:"أين نحن من سحر المتوسط وشفافية هذا العالم، بينما نحن نعاني من الاحتلال الاستيطاني وكل انواع القهر والاستعباد". الفضاء الأزرق وامواج البحر هي القاسم المشترك لدول شطآن المتوسط، كما ظهر في سحر الموجة الزرقاء والدوامة والأشكال الحلزونية للقواقع. وهي موتيفات لأبرز الاعمال التجريدية التي تَقدّم بها الجناح الكرواتي المتميز في حفاظه على موروثات التجريد الهندسي والبقعي والأكشن والكوبرا، في مرحلة تبدو لمصلحة الصورة الايهامية، التي تجلت في اعمال المصورة التركية آيسن توجبا دورك. فالتخييل بحثاً عن رؤى غير مسبوقة هو مادة الفوتو- ميكساج والتوليف لعناصر اسطورية متداخلة في عرض البحر، حيث يمتزج الضباب بأشرعة المراكب، كما يمتزج الموج بآثار الموزاييك الاغريقي المترسب في القاع. ولا بد من الاعتراف بأن ثمة تجارب فردية لفنانين عرب واجانب، هي بغض النظر عن البلد الذي تنتمي اليه كانت الأكثر سطوعاً كما يظهر في المعرضين الاسترجاعيين لضيوف الشرف. غير ان هذه المرحلة هي بلا شك مرحلة انقلاب على التجريد، مهما بدا عاتياً وقوياً وكذلك على كل تجارب الحداثة التي باتت من مخلفات الماضي بكل بريقه. ذلك لا يعني ان العودة الى الصورية - التشخيصية، من طريق المالتي - ميديا هي الغاية بدل ان تكون الوسيلة لعبور الفكرة، كما انها ليست السبيل الوحيد لتقويم فنون بلدان المتوسط.