45 وزيرًا ونخبة من الخبراء يمثلون أكثر من 100 دولة يناقشون «مستقبل العمل» الأربعاء    مستقبل فينيسيوس بين يديه    امانة عسير تصادر 1680كيلو من الأغذية والملابس يتم بيعها وتخزينها بطرق عشوائية    تجمع القصيم الصحي يدشّن مشروع "داء السكري المتقدم"    56 موقعًا حول المملكة لتقديم خدمات الأحوال المدنية    سحب وإيقاف تراخيص 44 مكتب استقدام    قائمة أسرى إسرائيل تؤجل تنفيذ هدنة غزة    استشهاد ثمانية فلسطينيين في غزة    «هيئة الإحصاء»: ارتفاع 3.6% للرقم القياسي لأسعار العقارات في الربع الرابع من 2024    المياه الوطنية: أنجزنا 118 مشروعًا بأكثر من 5.5 مليارات ريال عام 2024    انخفاض لدرجات الحرارة وفرصة هطول أمطار لعدة مناطق    القوات الخاصة للأمن البيئي تضبط مخالفين لنظام البيئة    5 محدّدات لرُخص الآبار الجديدة في الدرع العربي    «إعجابات الأصدقاء».. إنستقرام تعيد خاصية قديمة    حديقة وطرق المهد.. ألعاب خطرة وشوارع رديئة    شيخ قبائل المنابهة في عنزة السورية ل«عكاظ»: حمص تجاوزت الفتنة.. ولا عودة ل«حزب الله»    «إسرائيل» تعترض صاروخاً من اليمن    المملكة.. بوصلة العالم    «الراجحي» حقق حلم السنوات ال10    التايكوندو يحتفي بالدوليين    يا علي صحت بالصوت الرفيع!    مليار و700 مليون وحدة بيانات تصنف المدارس ل4 مستويات    معلم سعودي ضمن الأفضل عالمياً    «عين السيح».. تأسر عشاق التراث    في الشباك    الاكتئاب المبتسم.. القاتل الصامت    ضبط أكثر من 21 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    المملكة تحتضن معرض التحوّل الصناعي العالمي    الهلال يقترب من ضم موهبة برازيلية جديدة    الألمعي تعبر عن شخصية جازان    علاقة الاقتصاد بارتفاع الطلاق    تاريخ حي الطريف    تعزيز الفرص الاستثمارية في منظومة خدمات الحج    السديس: لحظة تاريخية استثنائية.. إطلاق أكبر هيكلة تنظيمية برئاسة الشؤون الدينية في الحرمين    الذكاء الاصطناعي يحتال بشخصية براد بيت    أكدت على الحقوق الفلسطينية وأشادت بجهود الوسطاء.. المملكة ترحب باتفاق وقف النار في قطاع غزة    تفوق الجراحة الروبوتية في عمليات الكبد    خطر منتجات النظافة الشخصية على الصحة    المملكة توزّع مواد إغاثية متنوعة في سوريا    كل أمر حادث هو حالة جديدة    الأمير فيصل بن سلمان يكرم عائلة أمين الريحاني بسيف صنع في السعودية    أحزمة مذنبات بأشكال متنوعة    رون ولي وماتياس    سالم الدوسري يحقق جائزة أفضل رياضي لعام 2024 ضمن جوائز «جوي أوورد»    دور المرأة في قطاع التعدين بالمملكة.. الواقع والطموح    ميزات زر قفل iPhone    تأثيرات صحية لاستخدام الباراسيتامول بانتظام    الجامعة في القصر    الوحدة الوطنية    الشيخ الثبيتي: لا تطغوا بعلمكم ولا تغتروا بقوتكم    الشيخ السديس: حصّنوا أنفسكم وأولادكم بالأوْرَاد الشَّرْعِية    تطوير منصة موحدة للنقل في مكة المكرمة    رصد طائر البوم «الفرعوني» في شرق عرعر    الرئاسة العامة تشارك بورشة عمل بعنوان (رقمنة التوعية في أداء المناسك)    خطيب المسجد النبوي: احذروا أن تتحول قوة الشباب من نعمة إلى نقمة ومن بناء إلى هدم    «الخارجية»: نرحب باتفاق وقف إطلاق النار في غزة    «التويجري» ترفع الشكر للقيادة بمناسبة صدور الأمر الملكي بتشكيل مجلس هيئة حقوق الإنسان في دورته الخامسة    إطلاق كائنات فطرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هوامش للكتابة - ثقافة التراتب
نشر في الحياة يوم 12 - 10 - 2005

كل اتِّباع ينطوي على تراتب متعدد المستويات، متتابع المكونات، والجامع المشترك بين الاثنين هو الثبات، ثبات التابع في علاقته بالمتبوع الذي يسبقه في الزمن، وثبات الرتبة في علاقتها بالرتب التي تعلوها في المكان، وعلو الرتبة في المكان - مثل علوها في الزمان - أساس لعلاقة ثابتة، لا تتبدل، أو تتحول، أو تنقلب صلة طرفيها اللذين يظل أولهما أسبق من ثانيهما في الوجود والرتبة زمناً ومكاناً. ولا يفارق هذا الوضع دلالات الدوام والجمود التي تتجاوب معاً بما يؤكد أن التراتب هو الوجه الآخر من الاتِّباع، وأن العلاقة التي تصل بينهما هي علاقة التماثل الذي يدني بطرفيه إلى حال من الاتحاد الذي يبين عن نفسه أفقياً فيغدو اتّباعاً، أو رأسياً فيغدو تراتباً.
ولا يقتصر جوهر العلاقة على مكانة أول الطرفين، بالقياس إلى تدني مكانة الطرف الثاني، وإنما يجاوز الأمر ذلك إلى ما يجعل الاتِّباع تراتباً أفقياً لا يكتمل إلا بتراتب رأسي يدعمه ويتدعم به على مستويات عدة. أولها اجتماعي كما في القبيلة التي تتراتب فئاتها، هابطة من الأعلى المفرد إلى الأدني الجمع. وثانيها فكري يتميز فيه الأعلم على الأقل علماً، حيث يغدو الأعلم أعلى والأقل علماً أدنى... وثالثها سياسي كما في الدولة التسلطية التي تحتكر فئة فيها - بزعامة حاكم مستبد - مصادر القوة والسلطة في المجتمع، فيتراتب المجتمع بما يضع الحاكم على قمة هرم الدولة وتتنزل بعده بقية الطوائف، متدرجة في هبوطها الذي يصل إلى أدناه، حيث العامة: الرعاع.
والتراتب كالاتِّباع ينطوي على الجمود نفسه في العلاقة الواصلة بين الأطراف التي تتراتب أفقياً أو رأسياً بما يبقي على كل طرف في مكانه المحدد الذي لا يمكن أن يفارقه، وذلك في وضع هرمي أشبه بالوضع الذي تخيله أفلاطون في جمهوريته الطبقية التي يجلس على قمتها الملك الفيلسوف الذي هو رمز للعقل الخالص، وتتراتب بعده الطوائف والفئات، هابطة أفقياً وقيمياً بما يشبه الهبوط من رأس الإنسان، أشرف ما فيه، إلى صدره، حيث القوة الغضبية، إلى معدته وما بعدها، حيث القوة الحيوانية الشهوانية. والعدالة الأفلاطونية هي إبقاء كل طرف في رتبته، لا يفارقها إلى غيرها، وإلا اختلّ البناء بتداخل الأطراف، أو تحرّكها الذي يؤدّي إلى انهيار البناء كله. والعدالة الأفلاطونية المرادف اليوناني للقدر المقدور على الأطراف، إسلامياً، في علاقة الأعلى بالأدنى رأسياً وأفقياً. وقد تكررت، في تقاليد الاتِّباع، أقوال من قبيل"القدر يختار ولا يختار عليه"وإن"للأقدار الاختيار علينا، وفيها الخير لنا، من حيث ندري ولا ندري". وهي أقوال تتجاوب مدلولاتها في تجسيدها لوعي طبقي حاد، ينقسم معه المجتمع إلى قسمين متدابرين، أعلاهما وأشرفهما ما يحتلّه صاحب الملك الذي يحتكر الحق المقدس في الحكم، أو السلطة المطلقة المعتمدة على القوة الباطشة، ثم الأقرب فالأقرب إليه من خاصة أولاده ووجوه قوّاده وعامة أجناده، وأدناها وأحقرها العامة: السفلة. ولا سبيل إلى إمكان التفاعل أو التداخل بين هذين القسمين المتدابرين، أو إلغاء المسافة بينهما. فالتضاد الذي يباعد بينهما تضاد أبديٌّ مقدور على العباد، لا مفر منه، بل لا سبيل إلى مجاوزته بقدرة العقل الذاتية عند الأفراد، فالعقول نفسها متباينة التباين المقدور الذي يجعل بعضها فوق بعض درجات، وذلك على نحو يبدو معه إلغاء هذا التباين الذي هو نوع من التراتب إلغاء لقانون أزلي في الكون، وتدميراً لسلامة المجتمع الذي لا وجود له من غير تمييز البعض على البعض، أو تمييز الأعلى الذي هو أعلى بحق المولد أو الميراث أو السطوة، على الأدنى الذي هو أدنى بقدر مقدور، لا يعرفه ولا يمكن مقاومته.
وقد سبق أن قلت - في بحث سابق - إن الثنائية المتدابرة التي تتجسد بها علاقة التضاد بين الأعلى والأدنى، رأسياً وأفقياً، أشبه بالثنائية التي يتميز بها العقل عن الهوى، أو يتميز بها الروح عن غرائز الجسد، وذلك ضمن رؤية عالم اتباعي، ماضوي، تقوم على علاقات جبرية ذات تبرير حنبلي، توجب على كل فرد في المجتمع الالتزام بحدود الفئة التي ينتمي إليها، والوضع الذي يوجد فيه، مجبوراً، لا يحاول أن يغيّر ذلك لئلا تختل الفوارق التي يقوم عليها تراتب البناء الاجتماعي السياسي.
وسلامة الجماعة، في الوعي الاتباعي الماضوي المبني على التراتب، قرينة مبدأ اللامساواة القائم على التمييز. ففي قمة المجتمع يستقر الخليفة، الملك، الحاكم الذي هو روح الأمة، ومن منظور يؤكد"أن فساد الرعية بلا ملك كفساد الجسم بلا روح". ويلي هذا الخليفة، الملك، تدرج هابط، لا يتوقف عن الانحدار إلى حيث يقع السفلة الذين يشبهون أدنى ما في الجسد وأحطّه. وبالطبع، لا سبيل إلى السماح بالحراك الاجتماعي بين فئات التراتب، ففي ذلك إيذان بزوال الدولة، لأنه"إذا خرفت الدولة، وقرّ زوالها، هبطت الأخيار ورفعت درج الأشرار". وتلك عبارات تجعل للتمييز الطبقي بين طوائف المجتمع لازمة غير مفارقة للتميز العرقي والأخلاقي، وذلك على نحو ينقل التراتب من فئات المجتمع إلى أخلافهم، بحسب موقعهم على درجات سلّم العلاقة الطبقية التي تغدو علاقة بين روح وجسد، الطرف الأعلى فيها - أي الروح - يختص بالفضائل التي هي"عطية إلهية"للكرماء من الأحرار، والطرف الأدنى - أي الجسد - قرين الرذائل التي لا تبعد أن تكون عقابا"إلهياً"وسم به السفلة من الناس. ولذلك نقرأ في الميراث الاتِّباعي أقوالاً من قبيل"ولو كانت المكارم تنال من غير مؤونة لاشترك فيها السّفلة والأحرار، وتساهمها الوضعاء مع ذوي الأخطار، ولكن الله تعالى خصها الكرماء الذين جعلهم أهلها، فخفف عليهم حملها، وسوّغهم فضلها، وحظرها على السفلة لصغر أقدارهم عنها، وبعد طباعهم منها، ونفورها عنهم، واقشعرارها منهم".
ولا غرابة - مع مثل هذه الأفكار - أن نجد ابن المعتز الخليفه السني البربهاري، يمضي في ما مضى فيه مقدم الحنابلة في زمنه، فيقلب التراتب الاجتماعي إلى تراتب معرفي، ولذلك ينقسم العلم - عنده - إلى طبقات، يتصل أدناها بجنس العامة، ويقترن أعلاها بجنس الملوك الذي يتميز عن بقية البشر بما حباه الله من العلم الذي يضيء بفيضه على من حوله، ومن أقرب إليه في الدنو من أهل المكارم والفضل. وحتمي أن يحجب ابن المعتز هذا العلم الأعلى عن السفلة، ولذلك يقول في أحد كتبه:
"تنكبت ما يسهل على الرعية حمله، إلى ما يضجرها نقله، ليستوطن شريف اختياري محله، ويسعد به أهله ويحظى بكريم جوهره الخاص ذو الشرف... إذ أحق الناس بفاضل الأدب... وأولاهم باجتذاب مكنونه... من كان صريح النسب، صحيح المركب".
ومن الحمق، فيما يؤكد الخليفة السني البربهاري، الحنبلي، كما دعا لنفسه - يوم اعتلى عرش الخلافة - أن يتطلع العامة إلى آداب الملوك، ففي ذلك التطلع مفسدة للحياة التي ينبغي أن تقوم على التراتب الذي يعني تمايز الخلق، أو تمايز من يحتكر الحق المقدس ومعرفته، بالقياس إلى من دونه أدباً وعلماً وفضلاً ومكانة ورتبة:
"ألا ترى أن جماعة العوام متى وصلت إلى آداب الملوك العظام بطلت المآثر، وسقطت المفاخر، وصارت الرؤوس كالأذناب، والأذناب كالأذياب، وصح الخبر المروي عن الرجل المرضي: لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا هلكوا. هذا، وليس شيء أضرّ من تمثل السخيف بالشريف، واللئيم بالكريم، والذليل بالجليل، والحقير بالخطير، والمهيمن بالمكين، ولا أعظم خطراً على صاحب المملكة... من هرج السفل، وخمول أهل النبل، وتعزز الخول... لأن ذلك أجمع يغرس المحن، ويوقد الفتن، ويبعث على تهدم الدول وتنقل الملك، ويحول الرياسة، ويزيد في اضطراب السياسة".
هذا الوعي الطبقي بالتراتب الاجتماعي يتحول إلى وعي اتباعي، معرفي، فينقل التراتب من المجتمع إلى المعرفة، ليجعل منها هرماً متراتباً بدوره. ولذلك ينفر ابن المعتز وأمثاله من رواية ما شاع على ألسنة العامة من قصائد، أفقدها هذا الشيوع قيمتها التي كانت لها، أو كان يمكن أن تكون لها. وأفضل منها القصائد التي لا يعرفها سوى الخاصة الذين تقترن بهم الندرة فترفع ما عندهم إلى أعلى درجات القيمة الأدبية. ولا يختلف ابن المعتز في ذلك عن سلفه الذي اقترب من الحنابلة، وتباعد عن المعتزلة، أعني ابن قتيبة الذي ذهب إلى أن الشعر"يختار ويحفظ... لنبل قائله". وكان ذلك في سياق أفضى إلى تصورات ذكرها الحصري القيرواني في كتابه"زهر الآداب"عندما أكد أن الشعر بُدِئ بملك وخُتِمَ بملك، لأن الكلام الصادر من الأعيان والصدور أقر للعيون وأشفى للصدور، فشرف القلائد بمن قُلِّدها، كما أن شرف العقائل بمن ولّدها:
"وخير الشعر أكرمه رجالا
وشر الشعر ما قال العبيد".
ويؤدي التجاوب بين الاتِّباع والتراتب إلى تبادل الموقع والتأثير، ما بين الاثنين. وهو الوضع الذي جعل من"البطريركية"صفة أساسية من صفات المجتمع العربي بثقافته التقليدية السائدة، وأوضاعه الاجتماعية المتخلفة. وپ"البطريركية"صفة جعلها هشام شرابي صفة مائزة للمجتمع العربي، كما جعلها سبباً لتخلّفه في الوقت نفسه. فالثقافة البطريركية مثل المجتمع البطريركي تدور حول قطب واحد، أصل واحد. هو بمثابة الأب الأكبر، العَوْد الذي يمسك بكل الخيوط، ويرجع إليه الجميع بصفته الإطار المرجعي الأوحد. وأحادية القطب الذي يحتل المركز ويدور حوله كل شيء قرينة التراتب الهابط الذي لا يكتفي بإنزال المعرفة من الأعلى إلى الأدنى، وإنما يضع الأدنى في موقف التلقّي السالب دائماً، أو في موقف المفعولية الذي ينفعل بكل ما يهبط إليه. ويمكن من يحتل المركز الأعلى أن يوصف بالإمام، أو القطب أو الفقيه، أو غير ذلك من الصفات والمسميات المتعددة. والأهم من التعدد هو ما يترتب على العلاقة الاجتماعية السياسية التي تجعل المعرفة هابطة من الأعلى إلى الأدنى. والمركز - من هذا المنظور - هو السقف الذي لا يستطيع أن يجاوزه أي مسعى معرفي أو فعل اجتماعي أو حركة سياسية، فهو الحق الذي لا مجاوزة فيه، المفرد بصيغة الجمع أو الجمع المتجسد في المفرد، إذا استخدمنا لغة أدونيس، فيبدو حضوره بمثابة تأكيد متعدد الدلالات لتأويل ما نُسبِ إلى الأوزاعي في قوله:"قف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم"، وهو قول لا يفترق تأويله - في التحليل الأخير - عن النتائج التي ترتبت على القول المأثور:"لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإن أخذوه عن أصاغرهم هلكوا".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.