العلاقة بين مفهوم الزمن ومفهوم الإنسان علاقة عضوية في ثقافة الاتّباع. وسواء كنا نتحدث عن الزمن الدائري أو الزمن المنحدر فالنتيجة واحدة، إذ لا تعني حركة الدائرة سوى الجبر الذي ينتقل من العلة إلى المعلول الذي يلزم علته - كما تلزمه - وجوداً وعدماً. أضف إلى ذلك أن الزمن المنحدر يشير إلى اللزوم نفسه الذي يفرض جبريته على الفعل الإنساني في قدر مقدور. إن الزمن في الحالين يسقط نفسه ميتافيزيقياً على الإنسان الذي تنحدر حركته الفيزيقية، جبراً، على مستوى السلب في التاريخ المتعاقب. وتثبت هذه الحركة على نحو لا يعرف إلا الحركة الدائرية ولا يفارق ثباتها، كأنه حال من الجبر على مستوى الإيجاب في العلم والمعرفة أو الثقافة والأدب. وإذا كانت كل دورة للزمن لا تفارق جبرية تكرارها، في عودها اللانهائي إلى النقطة التى بدأت منها، فإن جبرية الكائن الدائر معها صورة أخرى من الجبرية نفسها. وإذا كان كل تباعد عن النقطة التى يمثلها الأصل الأول استمراراً في الانحدار المقدور على الكون، فإن هذا التباعد انحدار مقدور بالقدر نفسه على الكائن الذي لا تفارق جبريته جبرية كونه. بعبارة أخرى، إن الجبر الميتافيزيقي الذي يجعل الزمن الدائري هابطاً أبداً يسقط نفسه على الجبر الفيزيقي، ويغدو الإنسان صورة أخرى للزمن الهابط، والعكس صحيح بالقدر نفسه. وربما كان الأدق أن نقول إن صورة الإنسان المجبور تغدو هي نفسها صورة الزمن المجبور الذي يأخذ عنه الفعل الإنساني دلالة محتواه. أقصد إلى المحتوى الذي لا فاعلية له، والذي يتشكل في سياق يؤكد تواشجه ما يتولد عنه من تصورات اجتماعية وسياسية وإبداعية، تصورات لا تفارق صورة الكائن الذي توازي صفته "الإبداعية" صفته "الجبرية" بالمعنى الذي يجعل الجبر الملازم لانحدار الزمن التاريخي صورة منعكسة عاكسة للجبر الملازم لانحدار الفعل الإنساني. ترى ما القيمة التى يمكن أن ينطوي عليها "الإنسان" مع هذا الفهم؟ إنه يتحول إلى كائن مهين، مطبوع على ما هو عليه، خطّاء بطبعه الذي تسيطر عليه نفس "لوّامة" تكرر ضلالاتها من عصر إلى عصر، وسقطاتها من جيل إلى جيل، وذلك في الزمن الذي هو صورة الإنسان ومرآته، حيث يتكرر الفعل الثابت بين فاعله المجازي ومجال فعله. وإذا كان الإنسان مخلوقاً لا يفارق تكوينه قدرية مساره، ولا يفارق مساره جبرية انقياده، فلا سبيل أمامه سوى أن يسلّم زمامه إلى غيره الذي يتميز عنه بما خُصّ به، فالله سبحانه وتعالى فضّل بعضنا على بعض، وجعلنا درجات حتى في مجالات المعرفة التي يغدو معنى اكتسابها مجازاً خالصاً، والإبداع فيها وهماً ضالاً. وفي التراتب المقدور، لا سبيل إلى الأدنى إلا تصديق الأعلى، والمضي في إثره، اتباعاً وتقليداً، فذلك هو قدر الأدنى المقدور في زمانه المحتوم الذي لا يعني سوى الوصاية الدائمة على فعله، والتحديد المسبق لمسار قدرته، والتوجيه القبلي لحركة عقله. والنتيجة هى أن يغدو الإنسان سجيناً متعدد السجون: حركته اتباع لما ليس اختياره، وإبداعه تقليد لما ليس من صنعه، ومعرفته نقل عن الأعلى منه في الوجود والرتبة. تنطوي هذه النظرة على سوء ظن متأصل بالطبيعة الإنسانية، وكأن الإنسان - في تقدير أصحاب هذه النظرة - يجنح إلى الشر وارتكاب المعاصي لخلل مرتبط بتكوينه أصلاً، خلل يجعله عرضة للخطأ دائماً ما لم ينبّه باستمرار إلى الخير، وما لم تفرض عليه الوصاية الدائمة التي تبعده عن الخطر الكامن في كل خطوة يخطوها. وكأن العقل الإنساني لا يستطيع بذاته أن يدرك الخير أو الشر، أو يعرف العلة الكامنة وراء كل منهما، ما لم يرد عليه نص يهديه إلى ما شاء الله، أو يضلّه إلى ما شاء الله. هذه النظرة لا تثق في قدرة الإنسان الذاتية باعتباره أسمى مخلوقات الله على الأرض، وأقدرها على اختيار الأصلح لنفسه أو لغيره، ولا تعترف بأن الله سبحانه وتعالى استخلفه في ملكه، وذلك بسبب ما تنطوي على سوء ظن يرى أن جرثومة الشر كامنة في الإنسان، لا سبيل إلى القضاء عليها بأي شكل من أشكال الجهد الإنساني. وفي ظل هذه النظرة، يبدو الإنسان كائناً ضعيفاً ذرّياً لا يستحق ذلك التكريم الذي كرّمه به خالقه عندما فضّله على كثير من خلقه، وعندما أمر الملائكة بالسجود له، وجعله مصدراً للمعرفة، بعد أن خلق الله آدم على صورته وعلّمه الأسماء كلها. وإذا كان المعتزلة، وغيرهم من الفرق والطوائف الفلسفية المعادية للاتّباع، أكدت مفهوماً للإنسان ينطوي على تقدير له وإعلاء من شأنه، فإن ثقافة الاتباع ظلت تلوذ بمفهوم يهبط بالإنسان إلى الدرك الأدنى، ويحصره في طبائع ناقصة تدعوه إلى الفتور والكسل كما يقول ابن حزم الظاهري في "الفصِّل". هذه الطبائع تغالب دائماً القوى المميزة للإنسان، وتجعل النفس دوماً أمّارة بالسوء إلا ما رحم الله. ولا أدل على هذه الطبيعة الناقصة للإنسان - فيما يقول ابن حزم في "طوق الحمامة" - من قصة يوسف بن يعقوب وداود عليهم السلام التي أوردها الله علينا "ليعلمنا نقصاننا وفاقتنا إلى عصمته وأن بنيتنا مدخولة ضعيفة" سرعان ما تقع في المعصية. إن الله قد أرسل الرسل تلو الرسل هادين للناس إلى ما يرضي الله، فلم يقابل الناس الرسل إلا بالجحود والكفر، فحق عليهم العقاب من الله بالبلاء وزوال النعمة حتى يغيّروا ما بأنفسهم، هذا إذا شاء الله لهم التغيير وعصمهم من نقصهم الطبيعي الذي فطر أجسادهم عليه، وجعل هذه الأجساد - بما تتطلبه - مؤذية للنفس معطّلة لها عن العودة إلى بارئها. وكأن النفس مذ حلّت في الجسد "وقعت في طين مخمر فأنساها شغلها به كل ما سلف لها" فيما يقول ابن حزم في "الفصِّل". ومن الطبيعي - والأمر كذلك - أن يكون "الغالب على طبائع الناس الفساد"، وأن الأكثر من الناس "الغالب عليهم الحمق وضعف العقول، والعاقل الفاضل نادر وقليل البتة، وهذا يؤخذ حسّاً". وقد ورد النص بذلك من الخالق الأول، وعن خيرته المبتعث إلينا صلعم. قال تعالى: "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الناس كإبل مئة لا تجد فيها راحلة". ]التقريب/ 180[. ويبرر هذا الفهم حتمية الوصاية على الإنسان سياسياً واجتماعياً. ودليل ذلك متعدد، له أمثلة متكررة في التاريخ الإسلامي. وذلك أمر منطقي، ذلك لأن هذه النظرة التي ترى أن ابن آدم خطّاء بطبعه لا بد أن تركن إلى الوصاية الدائمة على الإنسان حيث تسلبه الحق في أن يخطو في علاقته مع غيره أو في علاقته بالله خطوة واحدة مستقلة نابعة من ذاته أو من إدراكه الخاص. إن كل خطوة يخطوها الإنسان لا بد أن تكون بناء على أمر غير قابل للمناقشة أو التعليل، وكأن حياتنا الدنيا مجرد استجابات شرطية لأوامر، لا سبيل لنا إلى البحث عن غائيتها. لقد فُرِض على الإنسان وصاية حديدية باسم الله تبرر إلغاء العقل ونفي العدل وقيام الظلم والاستكانة الخاضعة لكل ما هو مفروض من أعلى. وتتدرج هذه الوصاية لتحكم علاقة الإنسان بالله وعلاقة الإنسان بالإنسان، لتتحكم - عبر هذا التدرج - في كل خطى الفكر البشري ابتداء من إدراك المطلق وانتهاء بإبداع الفن، ولتصنع إطاراً جامداً يحصر إرادة الإنسان وقدرته على الاختيار ويفرغهما من أي معنى، ويلغي في النهاية العقل الإنساني نفسه، ويحيله إلى مجرد أداة للطاعة، لا قدرة لها على شيء إلا مجرد الاستجابة لما يفرض عليها، دون أن تنفذ إلى ما وراء هذا الذي يفرض عليه من علة. ولذلك يقول ابن حزم في "الفصِّل" ما نصه: "إن العقل - على الحقيقة - هو استعمال الطاعات واجتناب المعاصي. وما عدا هذا فليس عقلاً بل هو سخف وحمق". ويبرر هذا الفهم أيضاً معنى "الفرقة الناجية" ويؤكده، وذلك بالمعنى الذي يوازي بين "الفرقة الناجية" و"النخبة الحاكمة"، فالإنسان الخطّاء بطبعه لن ينجو من الضلالة إلا بإرادة متعالية عليه. هذه الإرادة يسبق في حاق مقدورها إيقاع الضلالة على البعض، وإيقاع الهداية على البعض المقابل، في ثنائية متضادة يتحول معها البشر إلى فاعلين ومنفعلين بالكسب، وذلك بمعنى أقرب إلى معناه الأشعري، حيث يغدو من اهتدى أو نجا مسؤولاً عمن ضلّ أو غوى. ولكن لأن الضلالة كالنجاة مقدورة سلفاً، فإن خطاب الفرقة الناجية ينطق ما هو مقدور عليها ولها، فهو خطاب ينفرد بالمعرفة من دون غيره، ويمتلك اليقين دون سواه، فيتسم بنبرة تسلطية، قطعية، قمعية، على نحو لا يمكن أن يتصف معه هذا الخطاب بأنه خطاب حواري، بل يصبح خطاباً أحادي الاتجاه، تعاليمياً، أمرياً، مخايلاً، يقوم على وهم احتكار الحقيقة نقلاً، وإيهام الهداية إليها اتباعاً، وضرورة التصديق بها تقليداً. وكما أن العلاقة بين هذا الخطاب ومن يستقبله أو يتلقّاه علاقة مفروضة سلفاً، الطرف الأول فيها المرْسِل هو الأعلى، والثاني المُسْتَقْبِل هو الأدنى، فإن هذه العلاقة تكشف، في ترابطاتها، عن بقية الثنائيات الضدية التى تلزم عن مفهوم الإنسان في هذا السياق، فتشير إلى الثنائية التي تجعل بعض البشر أفضل من بعض ابتداء، عرقياً أو طائفياً أو دينياً، والرجل أعلى من المرأة إطلاقاً، والأنا أسمى من الآخر مقاماً، والأكبر سناً أفضل من الأصغر سناً، والماضي أفضل من الحاضر، وذلك بكيفية يوازي فيها الثقافي الاجتماعي، ويبرر بها الديني السياسي، في سياق تشير دواله، على سبيل التضمن أو اللزوم، إلى إرادة حاكم تنفي إرادة المحكوم، وذات متّبعة تحمي نفسها بنفي حضور الآخر أو التهوين من شأنه، وتسلّط مجتمع ذكوري يحمي تفوقه الاتباعي، بمنطق لا يختلف كثيراً عن المنطق الذي استند إليه من حرّم عمل المرأة أو اختلاطها بالرجل، فسبق فقهاء "طالبان" بقوله: "لاختلاط المرأة مع الرجل في ميدان العمل تأثير كبير في انحطاط الأمة... لأن المعروف تاريخياً عن الحضارات القديمة الرومانية واليونانية ونحوهما أن من أعظم أسباب الانحطاط والانهيار الواقع بها هو خروج المرأة من ميدانها الخاص إلى ميدان الرجال ومزاحمتهم، مما أدى إلى فساد أخلاق الرجال وتركهم لما يدفع بأمتهم إلى الرقي المادي والمعنوي. وانشغال المرأة خارج البيت يؤدي إلى بطالة الرجل وخسران الأمة انسجام الأسرة وانهيار صرحها وفساد أخلاق الأولاد، ويؤدي إلى الوقوع في مخالفة ما أخبر الله به في كتابه من قوامة الرجل على المرأة".