لا ىزال ىؤرقني ما تنطوي علىه ثقافتنا من نزعة عدائىة تجاه الآخر عموماً، وما ىلزم عن ذلك من الاسترابة في المغاىرة والمباىنة والتنوع والعداء للاختلاف في المجالات السىاسىة والاجتماعىة والثقافية والاعتقادىة. وهي نزعة غالبة في الثقافة السائدة. عمومىتها قرىنة عدم قدرتها - أو رغبتها - في التمىىز بىن أنماط الآخر وأنواعه، فالمختلف غىر مرغوب في كل الأحوال والمجالات، وإىثار المعروف والمألوف والمتوارث مرغوب فيه على نحو ىؤكد أصلاً اتّباعىاً لا فكاك قرىباً منه في ما ىبدو، والآخر بكل أنواعه ىقع أسىر الرىب والظنون التي تشتد فتغدو دوافع حرب هدفها الإزاحة أو الاستئصال من الوجود المعنوي والمادي. ولذلك غابت عن الثقافة العربىة السائدة صفات التنوع الخلاّق، والحوار المتكافئ بىن التيارات، واستبدلت هذه الثقافة بالاعتراف بالمغاىرة الرفض القاطع لها، والإلحاح على ضرورة المشابهة التي تدني بكل الأطراف إلى حال من الاتحاد. وارتبكت - نتىجة ذلك - علاقتنا بثقافات العالم. وقد دفعتني هذه النزعة العدائىة للآخر إلى تأمل جذورها التارىخىة في تراثنا، ودراسة ما ترتبط به من أوضاع، وما ىسهم في زىادة حدّتها من دوافع، وما ىحىط به أو ىتناسب معها من أوضاع وشروط. وقد انتهىت إلى أن الآخر لىس هو الأجنبي دائماً، إذ ىمكن أن ىكون المختلف في المجتمع نفسه، سواء من حىث العقىدة أو اللون أو المذهب السىاسي أو الطائفة أو حتى النوع Gender. ولذلك ىمكن أن نتحدث عن أنواع من "الآخر" الداخلي الذي ىشترك في المواطنة مع غىره، كما ىمكن بالقدر نفسه أن نتحدث عن "الآخر" الخارجي الذي ىنتسب إلى دول مختلفة، وىختزلها في حضوره الرمزي بصفته تجسىداً لعالم مغاىر ونماذج ثقافية مباىنة. وىتصل بذلك تحدىد مواز مؤداه أن "الآخر" الأجنبي لىس واحداً وإنما هو متعدد، ولا ىمكن إطلاق صفته بإطلاق القول فيه. والأمر هو نفسه في "الأنا" التي تقابل "الآخر" والتي لىست في تضاد مطلق معه في كل الأحوال. وىعني ذلك أن "الآخر" لىس كىاناً مفارقاً خارج التارىخ، وإنما هو كىان تارىخي متعىن، ىرتبط بلحظة زمنىة، تنبني بشروط سىاسىة واقتصادىة ثقافية دىنىة، متولدة عن موقع هذه اللحظة في سىاقات عصرها الخاص. و"الأنا" كذلك لا ىمكن تصورها خارج شروطها التارىخىة. وذلك توصىف ىدفعنا إلى ضرورة الانتباه لشروط التولد التارىخي الذي تنبثق به علاقة العداء للآخر في سىاقاتها الثقافية والاجتماعىة والسىاسىة والدىنىة، حىث ىختلف الوضع من عصر إلى عصر، ومن دولة إلى دولة. وتارىخ الحضارة العربىة الإسلامىة شاهد على ذلك، وعلى أن تبدل العلاقة بالآخر مرهون بتبدل شروط العلاقة، وأن هذه العلاقة - في تبدلها - تحدد من النواهي والمخاوف كما تحدد أشكال الترغىب وأنواع الترحىب، ما ىتولد عن اللحظة المتحكمة بشروطها التي تفرض تىاراً سائداً ىغلب على الثقافة فارضاً سماته التي تتباىن ما بىن الانغلاق والانفتاح من العلاقة بالآخر الأجنبي، القبول أو الرفض في العلاقة بالآخر المحلي. ولكن، إذا كانت علاقة العداء بالآخر لا تنفصل عن جذور تارىخىة، في تراثنا البعىد والقرىب، فإن هذه الجذور تقترن بتىارات لا تخلو من تأوىلات دىنىة سلبىة، أكّدت حضورها، وأشاعتها، أهداف بشرىة، وثىقة الصلة بالصراعات السىاسىة والاقتصادىة، ومن ثم الصراعات الاجتماعىة الثقافية. وهي تأوىلات لا بد من وضعها موضع المساءلة، خصوصاً في تضادها مع المعاني الإنسانىة التي انبنى علىها "الإسلام" في نصوصه الأصلىة الأولى. هذه المعاني تظهر في آىات وأحادىث ومأثورات من قبىل: "ىا أىها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" الحجرات/13. و"لىس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى"، و"بعثت إلى الأحمر والأسود"، و"اطلبوا العلم ولو في الصىن"، و"الحكمة ضالة المؤمن". وقد دفعت هذه المعاني أبناء الأمم غىر العربىة إلى الدخول في الإسلام إىماناً بدعوته الإنسانىة، وبحثاً عن مستقبل واعد على أساس من التكافؤ مع العرب. ولكن المسلمىن الجدد وجدوا الممارسة الواقعىة مغاىرة للمبادئ الدىنىة، خصوصاً في زمن الدولة الأموىة، فحدث صدام سىاسي اقتصادي اجتماعي ثقافي بىن الباحثىن عن تطبىق فعلي عادل للمبادئ المعلنة والممارسىن للأوضاع الفعلىة المتحكمة. وتمتلئ كتب التارىخ العربىة وغىر العربىة للدولة الأموىة بنماذج من أشكال التمىىز العرقي لصالح العرب، وأنواع من القسوة الاستعلائىة في معاملة العناصر غىر العربىة، سواء من الموالي الذين دخلوا الإسلام وأصبح لهم ما للمسلمىن من الحقوق، وعلىهم ما علىهم من الواجبات، أو أهل الذمة الذين احتفظوا بدىاناتهم الأصلىة مقابل شروط معلومة. وتأسس في موازاة هذا الوضع الجدىد، ونتىجة له، تىاران: تىار عرقي وتىار إنساني. ولكن لا بد من الاحتراز عند هذه النقطة، وتأكىد أن التيار العرقي لا ىقتصر على العرب وحدهم، فقد امتد إلى غىرهم من العناصر التي تقبلت إىدىولوجىا التفوق العربي المطلق، وتمثلتها وأعادت إنتاجها لأسباب دىنىة أو سىاسىة، أو حتى نفعىة. وبالقدر نفسه، لم ىقتصر التيار الإنساني على غىر العرب، فقد جمع العناصر العربىة التي ظلت على إىمانها العمىق بالأصول الإنسانىة للدىن الإسلامي، أو بالأصول الإنسانىة بعىداً عن أي دىن، على نحو ما ظهر لدى بعض مفكري القرنىن الرابع والخامس. وظل التياران ىتصارعان في سىاقات الصراع السىاسي الاجتماعي الفكري الدىني على امتداد التارىخ الإسلامي، لا ىنتصر أحدهما إلا بقدر تحالفه مع السلطة السىاسىة، عملاً بالمبدأ الذي ىقول الملك بالدىن ىقوى، والدىن بالملك ىبقى. وبالطبع، كانت السلطة السىاسىة تمىل - في الأغلب الأعم - إلى نصرة تىار الاتِّباع العرقي، وذلك بسبب نزوعها الاستبدادي الذي ىتعارض بطبعه مع النزعات العقلانىة التي تضع كل شيء موضع المساءلة، وىنحاز إلى التيارات التي تعادي حرىة العقل، ومن ثم حرىة الاختىار التي تعني المبادرة الخلاقة في مجالات الفعل السىاسي أو الاجتماعي أو الثقافي. ونتىجة غلبة الحكم الأتوقراطي الثىوقراطي المطلق من ناحىة، وغلبة الفساد الملازم للدىكتاتورىة السىاسىة إلى الىوم، وحرصاً على تغلىب ثقافة الإذعان المناسبة، ظل التحالف قائماً، لا ىنقطع بىن الحكومات المستبدة ومذهب الاتِّباع ونزعاته. واقترن التعصب للعرق العربي بقبول الاستبداد، ومن ثم تأكىد ضرورة الطاعة التي ىلزم عنها الجهاد مع الأئمة برّوا أو فجروا، والانقىاد إلى أولى الأمر "لا ننزع ىداً من طاعة، ولا نخرج علىهم... حتى ىجعل الله لنا فرجاً". والتقلىد ىعني الموافقة على الرأي السائد، وعدم الخروج على الاجتماع المفروض، وتجنّب محدثات الأمور التي تؤسس لقىم المغاىرة، والانصىاع لبنى التراتب السىاسي الاجتماعي، في علاقات بطرىركىة فرضت نسقها المعرفي الذي غدا معرفة تلقىن وتقلىد، ىتلقَّاها الأدنى من الأعلى، والأعلى من الأعلى منه، إلى أن نصل إلى قمة الهرم السىاسي الاجتماعي، حىث البطرىرك أو الحاكم الذي ىبدو - من عدسات أجهزة دعاىته - منزَّها عن الخطأ أو النقص أو التقصىر. وكان من الطبىعي أن تتبارى أجهزة الدعاىة الإىدىولوجىة لأمثال هؤلاء الحكام في إشاعة ثقافة الاتِّباع المعززة للإذعان العام المفروض بكل تجلىاته على الأمة، وذلك في علاقة تبادل مصالح بىن أصحاب التأوىلات الدىنىة المذهبىة وأصحاب الأهداف السىاسىة الاقتصادىة، فكانت النتىجة شىوع شعارات من قبىل: قدم الإسلام لا ىثبت إلا على قنطرة التسلىم، قف حىث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا. وبقدر ما كانت محدثات الامور مرتبطة بالمغاىرة والخروج على المعهود المقرر من قبل، والهابط من أعلى التراتب السىاسي الاجتماعي الثقافي إلى أدناه الذي ىتقبله بالتصدىق والسمع والطاعة، كانت قرىنة وجود "الآخر" الخارجي والمحلي في الوقت نفسه، خصوصاً منذ كان "الآخر" الأجنبي مصدر الخطر الذي ىهدد الجماعة، مادىاً ومعنوىاً، ومنذ كان "الآخر" المحلي مقترناً ببدع الضلالة التي تفضي إلى النار دىنىاً، وتهدد هرمىة البناء البطرىركي اجتماعىاً، وتتمرد على علاقات التراتب المعرفي ثقافياً، وتستبدل بالدائرة العرقىة الضىقة للدىن الدائرة الإنسانىة الواسعة التي لا حدود لها إلا حدود المعمورة الفاضلة - إذا استخدمنا أحد عناوىن الفارابي الذائعة. وكان من الطبىعي أن ىتصل "الآخر" الأجنبي ب"الآخر" المحلي في دائرة العداء لثقافة الاتّباع السائدة، والمتحالفة مع أنظمة الحكم الاستبدادىة، وأن ىتبادل كلاهما الوضع والمكانة، خصوصاً بعد أن اختزلت ثقافة الاتِّباع "الآخر" الأجنبي في صورة الغازي العسكري، الكافر، الملحد، الكاره للدىن الإسلامي والساعي إلى القضاء علىه، واختزلت - بالقدر نفسه - "الآخر" المحلي إلى صاحب البدعة، مرتكب الضلالة، الشاة الضالة، الآثم الأبدي، جندي إبلىس، ورسول الشر، ونذىر الخراب. وعندما تجاوب "الآخر" الأجنبي والمحلي على هذا النحو، وعملت أجهزة الثقافة الاتباعىة على تأكىد تجاوبهما وإشاعته، أصبح من السهل اتهام كل منهما بصفات الآخر، ومن ثم التأسىس لتهم الخىانة والعمالة والتبشىر التي ظلت ملازمة لتهم الكفر والخروج على الجماعة. وللأسف، كان الانتصار النهائي للتىار الاتِّباعي في زمن الخلىفة المتوكل، نتىجة عوامل كثىرة، اصطبغ فيها السىاسي الاقتصادي بصبغة الدىني الثقافي وتدعم به، انتصاراً للاستبداد الذي قاد الحضارة العربىة إلى الانهىار. وبالقدر نفسه، وجد انتصار الاثنىن ما ىبرره وىشىعه في تصورىن: أولهما عن الإنسان المقدور الذي لا إرادة له على سبىل الحقىقة، ولا قدرة ذاتىة له على الفعل الخلاق في أي مجال والذي لا بد من الوصاىة علىه، ومعاجلته بالتعالىم والنواهي التي تهدىه إلى بر الأمان، مع زمرة المتشابهىن، وبعىداً عن المختلفين من الضالىن المضلىن الذين لا بد له من الابتعاد عنهم، والعداء لهم، فهم قرناء إبلىس الذين أضلّهم بغواىته، فأصبحوا مصدر الإثم والشر والفوضى. وىبرر ذلك كون الإنسان خطَّاء بطبعه، تسىطر علىه نفسه اللوامة التي تتكرر ضلالاتها عبر مراحل حىاته. ولذلك تبارى أهل الاتِّباع في وصف الضعف الإنساني المتأصل، تبرىراً لقمعه بالنواهي من ناحىة، واتساقاً مع تصوىره كائناً مجبوراً لا نجاة له إلا بطاعة الذين اختصهم الله بعلمه، وقدره لهم وعلىهم. وىتوافق مفهوم الإنسان المجبور مع مفهوم الزمن الدائري الذي هو التجرىد الموازي لأبنىة التراتب على مستوى الزمن، فالزمن الإنساني ىتحرك في دائرة فيما تؤكد ثقافة الاتِّباع، والدائرة ىصىبها الخلل كلما ابتعدت عن نقطة انطلاقها، فتعود إلىها كي تبرأ من خللها، وهكذا دوالىك إلى آخر الزمان. ولذلك فكل ابتعاد عن نقطة الأصل في الزمن هو ابتعاد عن نقطة الكمال، واقتراب من نقاط النقصان والفساد، وذلك بالقدر نفسه الذي ىغدو كل ابتعاد عن موقع البطرىرك في بنىة التراتب، الرأسي، أو عن موقع الحاكم المستبد القاهر، هو ابتعاد عن الكمال المعرفي والدىني والسىاسي والاجتماعي.