تنطوي ثقافتنا على نزعة عدائية تجاه الآخر، وتتجلى هذه النزعة في مظاهر عدة لافتة، مقترنة بأنماط سلوكية ومعرفية دالة. ورفض المختلف والاسترابة في المغاير والعداء للاختلاف بوجه عام ظواهر متكررة في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والاعتقادية، وذلك على النحو الذي يجعل منها لوازم متأصلة في الثقافة السائدة التي تقترن فيها علاقات التبعية بعلاقات الاتباع في كل مستوى من المستوىات التي نعانيها. ولذلك لا يقع "الآخر" الاجتماعي إلا في الدوائر الهامشية، حيث المعازل المفروضة، للمنبوذين اجتماعياً من الذين يتحولون إلى ضحايا لأفعال الإقصاء التي تقوم بها المجموعة الاجتماعية المهيمنة. والأمر نفسه متكرر مع "الآخر" السياسي أو الفكري الذي يظل في موقع الريبة الذي تناوشه نوازع العداء، والذي سرعان ما يخضع - نتيجة اختلافه - لعمليات مزدوجة. أقصد إلى العمليات التي تنطوي - في جانبها الأول - على آليات الترويض والتدجين والتطويع، ومن ثم تحويل الاختلاف إلى اتفاق، وردَّ المختلف إلى حظيرة التشابه، وذلك بواسطة الترغيب أو الترهيب. وغير بعيدة من ذلك العمليات التي تنطوي على ما يكمل الجانب الأول من ممارسات العنف التي تبدأ بالتهميش المقصود، المرادف لمعنى الإزاحة والإبعاد أو الإقصاء، ومن ثم النفي إلى مناطق الصمت الحقيقي أو المجازي، وتنتهي بآليات الاستئصال المادي الذي هو الوجه الملازم لآليات الاستئصال المعنوي في الممارسات المتكررة لقمع المختلف. وكلا النوعين من الاستئصال متكرر بدرجات متباينة في كل ثقافة يتلازم فيها الاتِّباع الفكري والتبعية السياسية، ويتبادل فيها الاستبداد السياسي والجمود الفكري والتعصب الاعتقادي الوضع والمكانة، وذلك إلى الدرجة التي تستبدل الفساد بالشفافية، والتراتب بالمساواة، والظلم بالعدل، ورفض المغايرة بتقبل التباين، والصوت الواحد المهيمن بالأصوات المتكافئة، والإظلام بالاستنارة، والتخلف بالتقدم، والاجتهاد بالتقليد، والنقل بالعقل، والإذعان بالتمرد، ومبدأ الواقع بمبدأ الرغبة. وأخيرا، القياس المغلق على مبدأ واحد وحيد لماضٍ تأويلي متخيل بالقياس المفتوح على امكانات الحاضر المتطلع إلى المستقبل. ولا تنفصل تبريرات هذه اللوازم الاستبدالية عن آليات إشاعة مبادئ الإجماع والتقليد، وذلك بواسطة أجهزة إيديولوجية يهدف عملها التخييلي إلى تثبيت ما هو قائم، والتخويف من كل ما هو مقرون بالتغير الذي لا يخلو من معاني البدعة المفضية إلى الضلالة. وهي معانٍ موصولة بتجليات الآخر الملازمة للتباين الذي سرعان ما يغدو إثماً لا يغتفر، خصوصاً في المدى الذي تخضع فيه الثقافة لتياراتها الأصولية التي تنغلق بها على نفسها، وتنفيها عن إمكانات تنوعها. ولا يخلو رفض الآخر بكل تجلياته من دافعين متناقضين، كل منهما وجه للآخر ولازمة من لوازمه في تجاوب العلاقة التي تجعل التناقض بينهما تناقضاً ظاهرياً لا غير. أما الدافع الأول فقائم على التسلط، سواء بالمعنى النفسي الذي لا يقبل تغيير النمط أو الخروج على إطاره المرجعي الواحد والوحيد، أو بالمعنى المعرفي الذي يفرض اتجاهاً واحداً لاكتساب المعرفة الهابطة دائماً من النقطة الأعلى إلى النقاط الأدنى، وذلك في مدى العلم المتكرر الرجع، حيث التقليد هو وسيلة التعلم، والنقل بما يحاكي المصدر الأعلى، السابق في الوجود والرتبة، هو المبدأ الأول للتميز في المعرفة. ويوازي هذان المعنىان المعنى السياسي المقترن بالإذعان والطاعة المطلقة للسلطة الموازية للمصدر الأعلى للمعرفة، حيث الزعيم الواحد الأحد الذي يدور حوله شعبه وجوداً وعدماً، وذلك بما يجعل من مبدأ التشابه الوجه الآخر من الإجماع، ومن تأكيد الاتفاق في التوجه الإذعاني للمصدر الأعلى الوجه الآخر من رفض التباين واستئصال المغايرة. ولا ينفصل عن المعنى السياسي للتسلط المعنى الاجتماعي له، حيث العلاقات البطريركية في مدى التراتب الذي يعود إلى أصل واحد ينبثق عنه الكل اللاحق الذي يدين لأصله بالطاعة التي تعني التقليد، والإذعان الذي يرادف التشبه. ويؤدي ذلك إلى أن يقرن الوعي المؤدلج بهذا التراتب بين المغايرة والإثم الذي يستوجب العقاب بسبب الابتعاد عن الأصل الذي لا يقبل إلا تكرار وجوده القمعي في التراتب الهابط للمجموعات المذعنة. ويلزم عن التراتب القمعي المفروض بآليات عنف متعددة عدد لا نهائي من أشكال التمييز القسري الذي يفرض التراتب على كل مستوى، مؤكداً التشبه بالأصل الواحد في كل حال. والنتيجة هي تمييز الأكبر سناً على الأصغر سناً في كل الأحوال، وتفضيل الرجل على المرأة في كل العلاقات، والأصيل على الوافد، والمتأصل في النسب على المدخول في نسبه. واخيراً، الأكثر تشبهاً بالسلطة الأصل للعرق أو الطائفة أو الجماعة على غيره الأقل تشابهاً، ومن ثم الأضعف في إمكانات الاتحاد بالأصل نفسه. وإذا كان التسلط قرين الاصرار على الرأي الواحد والصوت الواحد والفكر الواحد والشكل الواحد، على امتداد المدي الذي لا يقبل المباينة أو المغايرة، فإن التسلط موصول بأدواته القمعية التي لا تقبل المهادنة في الاختلاف، فتسارع إلى استئصال المختلف مادياً إذا لم تفلح في ترويعه معنوياً، حفاظاً على المبدأ الاتباعي الذي يصل فاعل التسلط بمتبوعه، وتمكيناً لقاعدة التقليد التي تبقي على طاعة المُتَسَلَّط عليه للمُتسَلِّط، وتأكيداً لبطش المُتَسلِّط في الدفاع عن سلطته المقرونة بالطاعة العمياء له، ومن ثم عدم مخالفته أو الاختلاف عنه أو معه، في كل الأحوال والمواقف والأقوال. ولا تخلو قسوة التسلط وأفعاله القمعية في استئصال الاختلاف من دافع الخوف الذي يبدو نقيضاً ظاهرياً للقوة الباطشة للتسلط وإسرافها القمعي مع أنه في واقع الأمر اللازمة المنطقية للتسلط. وكلما زاد قمع التسلط في ممارسة العنف الاستئصالي لأشكال المغايرة وألوان المباينة، في الاختلاف عن تجليات الأصل الواحد أو الاختلاف مع ممثليه، فإن هذه الزيادة تظل آلية دفاعية عن حضور التشابه الذي يغدو به الأصل الأعلى أصلاً وحيداً مطلقاً في علاقات الانتساب إليه والتشبه به، فالتسلط هو الوجه الآخر من خوف الاختلاف في التعامل مع حالات المباينة والمغايرة، والخوف من المخالفة التي تهدد هيمنة علاقات المشابهة هي أصل التسلط في التعامل القمعي مع الاختلاف بكل أشكاله وأنواعه وأحواله. وإذا كان الخوف يقترن بالقلق على الذات في مدي تجلياتها المتلاحقة، عبر التراتب الهابط أو الصاعد، فإن التسلط قرين الحفاظ على متانة الصلة بين مراتب التراتب في صعوده أو هبوطه ما بين الأعلى والأدنى، خصوصاً حين يكشف الخوف عن نوع من اهتزاز الثقة بالذات التي تداري ضعفها بقسوتها، وتغطي على توترها المتأصل بالإسراف في الانغلاق على مكوناتها الذاتية. والنتيجة هي عنف الاستبعاد لكل مختلف يزيد التوتر بين هذه المكونات، أو يهددها بوضعها موضع المساءلة. وأتصور أن ذلك هو السبب في أن الذوات المنغلقة على نفسها ترفض الحوار مع غيرها بالقدر الذي ترفض به فعل المساءلة الذاتية، فالحوار يتضمن معني المساءلة التي لا تخلو من دوافع المقارنة الجارحة بالآخر، خصوصاً في الحالات التي تتعارض فيها لوازم التقدم ولوازم التخلف. والمقارنة المضمرة أو المعلنة بالآخر تضع الذات المنغلقة على نفسها في مواجهة مدارها الذي أحكمت إغلاقه على وجودها، فتفتح هذا المدار على السؤال الذي ينتهي إلى زعزعة سلامة مبدأ التشابه الذي ينبني عليه مبرر الإغلاق. والأمر نفسه يحدث مع فعل المساءلة الذاتية التي تتحول فيها الأنا إلى فاعل ومفعول للسؤال الذي يجعل من الأنا ذاتاً وآخر هو إياها، كأنها الذات الناظرة في مرآة وموضوع الرؤية في الوقت نفسه. وذلك موقف معرفي يدخل الذات إلى دائرة مبدأ الاختلاف الذي يتأسس به فعل المساءلة الذاتية، ويبعدها عن دائرة مبدأ المشابهة المطلقة التي تتكثر بأفعال التقليد والمحاكاة، سواء محاكاة الذات، أو محاكاة الذات من المشدودين إليها في علاقات التراتب التي تنغلق بالجميع في داخل البنية نفسها. وأحسبني في حاجة إلى القول إن هذا الموقف المعرفي يمكن أن يكون حالاً إفرادية وحالاً جمعية، كما يمكن أن يكون حالاً إفرادية وجمعية في آن. أقصد إلى أنه يمكن أن يكون سمة للفرد داخل ثقافة تحتويه وتحتوي غيره من المختلفين عنه، ويمكن أن يكون سمة لثقافة يغلب عليها النفور من الآخر بما يغدو علامة عليها. وعندئذ، تغدو النزعة العدائية للآخر المختلفة سمة للثقافة في مجموعها، أو في الاتجاه الغالب عليها، إذا شئنا الدقة، وذلك بما يردّ المفرد على الجمع في الثقافة، أو يرد ثقافة الجمع الغالب على الفرد الخاضع لهذه الثقافة. ويفرض هذا التأصيل توضيح أمرين لا غنى عن توصيفهما. أولهما أن النزعة العدائية تجاه الآخر أكثر تعقيداً وشمولاً من أن نحصرها في مجال واحد من مجالات الثقافة، أو نختزلها في مستوى بعينه من مستوىات السلوك الاجتماعي، أو حتى في دائرة واحدة من دوائر الممارسة السياسية. إن الحضور المتعدد الأطراف والعلاقات لهذه النزعة يقترن بالأسباب المؤدية إليها، والتي لا يمكن اختصارها في سبب واحد، اجتماعي أو سياسي أو ديني أو فكري، فهي أسباب عدة، متضافرة، متفاعلة، تصل بين السياسي والاجتماعي والديني والفكري والاقتصادي في تفاعل المُسَبِّبَات، وتتبادل فيها المعلولات والعلل الوضع والتأثير، سواء في مدى الانتقال عبر دوائر الأسباب، أو تفاعل هذه الأسباب على نحو لا يخلو من مناقلة السبب والنتيجة. وإذا وضعنا "التاريخ" في حساب الطبيعة الشاملة لهذه النزعة في فعل تولدها، أو فعل انتشارها، فإننا نضع إيدينا على تَعَيّن سياقات التولِّد التي يتجسّد بها رفض الآخر بصفته تياراً مهيمناً في ثقافة من الثقافات، سواء في مدى استجابتها إلى شروطها التاريخية الخاصة، أو أفق إعادة إنتاجها لتراثها الثقافي الذي يدعمها بقدر ما يتدعم بها بعد تأويله. والتفاعل بين شروط اللحظة الزمنية الموِّلدة لنزعة العداء للآخر مع قوة ما تتدعم به من تراثها السلبي شرط ضروري لهيمنتها على الثقافة التي تغدو منتسبة إليها في فعل رفض الاختلاف والمباينة أو المغايرة في كل المستوىات والمجالات. أما الأمر الثاني فيتصل بالدلالات التي أقصد إليها عندما استخدم مدلول "الآخر". إن "الآخر" ليس هو الأجنبي دائماً، إذ يمكن أن يكون هو المختلف في المجتمع نفسه، سواء من حيث العقيدة أو اللون أو المذهب السياسي أو الطائفة أو حتى النوع Gender. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نتحدث عن أنواع من "الآخر" الداخلي الذي يشترك في المواطنة مع غيره، كما يمكن - بالقدر نفسه - أن نتحدث عن أنواع من "الآخر" الخارجي الذي ينتسب إلى دول مختلفة، ويختزلها في حضوره الرمزي بصفته تجسيداً لعالم مغاير ونماذج ثقافية مباينة. ويتصل بذلك تحديد موازٍ مؤداه أن "الآخر" الأجنبي ليس واحداً وإنما هو متعدد، ولا يمكن إطلاق صفته بإطلاق القول فيه، والأمر نفسه في "الأنا" التي تقابل "الآخر" والتي ليست في تضاد مطلق معه في كل الأحوال. ويعني ذلك أن "الآخر" ليس كياناً مفارقاً خارج التاريخ، وإنما هو كيان تاريخي متعين، يرتبط بلحظة زمنية، تنطوي على شروط سياسية اقتصادية ثقافية متولدة عن موقع هذه اللحظة في سياقات عصرها الخاص. و"الأنا" كذلك لا يمكن تصورها خارج شروطها التاريخية. وبديهي - والأمر كذلك - أنه لا يمكن التعميم على حضارة من الحضارات في علاقتها بالآخر الأجنبي أو الداخلي، فليس هناك صيغة مطلقة تختزل موقفاً ثابتاً من الآخر، سلباً أو إيجاباً، في أي حضارة، إذ يختلف الأمر من عصر إلى عصر، ومن ثقافة إلى أخرى، وذلك في خضوع العلاقة بالآخر إلى شروط التاريخ التي ليست سرمدية بحال من الأحوال، فهي شروط متغيرة دائماً، يؤدي تغيرها إلى تغير علاقات الأفراد أو المجتمعات الخاضعة لشروط زمنها النوعي في نوازعها الناتجة من تصارع المصالح. وحتى عندما يغلب في علاقة الأنا بالآخر توجهاً بعينه، سلبا أو ايجاباً، فإن التوجه السائد لا ينفي وجود توجهات مغايرة أو مناقضة، خصوصاً عند المجموعات المهمشة التي لا تملك زمام الهيمنة، ولكن التي تظل قائمة، لا تكف عن السعي لتأكيد حضورها، وإشاعة أفكارها المغايرة، تلك الأفكار التي تصوغ بها رؤية أو رؤى مناقضة لعالم مختلف في فهمه "الآخر" وفي الموقف العملي منه.