يحدد جابر عصفور بفقرة واحدة، المسار العام الذي تنطلق منه مقالات كتابه "الرهان على المستقبل" الصادر حديثاً ضمن مشروع "مكتبة الأسرة" في القاهرة، قائلاً: "المقالات التي يضمها هذا الكتاب، تنطلق من منظور الوعي بالمستقبل في علاقته بشروط التقدم، ولذلك فإنها لا تتردد في مناوشة تخلف الواقع في بعض جوانبه من ناحية، وتصل الحاضر بالماضي من ناحية موازية، وتنتقل من شجون الواقع وأوجاعه إلى تحدياته وأسئلته باحثة عن امكانات التجاوز من ناحية ثالثة مازجة أعمال الإبداع بأعمال الفكر من ناحية أخرى، والهدف في كل الأحوال هو الرهان على المستقبل الواعد الذي يتجاوز التخلف، ويحقق الإبداع الذاتي، ويؤكد الحضور في التاريخ وبالتاريخ". وعلى رغم هذا التحديد الذي يشمل أقسام الكتاب الثلاثة: "شجون، وملاحظات، واحتفاءات"، إلا أن القضايا تتنوع، والموضوعات تتشعب، لكن من دون أن تضيع الأهداف الثابتة، والتي يضعها عصفور، دائماً، دليلاً واضحاً يستدعي به كل القضايا الفرعية التي تتناثر داخل الكتاب، حتى لو مرّ عليها مروراً، من دون التوقف طويلاً عندها، ولكن تكرار هذه القضايا بأشكال ومداخل متعددة، يعطيها ويمنحها تلك الصدقية أو الجدية، التي تدفعنا بالتالي الى التوقف عميقاً أمامها. ومن القضايا الرئيسة التي يطرحها الكتاب/ المقالات، والتي تشكل موقفاً شاملاً وثابتاً، الضدية الواضحة للوجه البغيض للأصولية في شكليها الديني والمدني على حد سواء. هذه الأصولية التي انتجت الكثير من الكوارث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ورسخت العنف، ليطاول رقاب مفكرين مثل فرج فودة، ومبدعين مثل عبدالقادر علولة، ونجيب محفوظ الذي نجا من يد مرتعشة جاهلة، لم تستطع فصل رقبته، وإن كانت تجرأت على محاولة ذبحه بسكين صدئة، وهو العنف نفسه الذي أطاح نصر حامد أبو زيد من موقعه كأستاذ جامعي، وطاول حريته في جميع صورها الشخصية والعامة. كما اغتال هذا العنف جار الله عمر بعد دقائق معدودة من خطابه في افتتاح المؤتمر العام الذي أقامه "التجمع اليمني للإصلاح" في صنعاء ليدخل قائمة الشهداء من مثقفي الاستنارة الذين تساقطت دماؤهم نتيجة للإرهاب الديني الذي لا يزال يمارسه دعاة التكفير وأعداء التقدم. ولا ينسى عصفور أن يفرّق بين هذا الإرهاب الديني الذي يُنصِّب نفسه حاكماً جديداً، وبين المقاومة التي يقوم بها الذين يدافعون عن أوطانهم منتقداً خلط الولاياتالمتحدة بين حركات الإرهاب وحركات التحرر الوطني، حتى أنها لا تخجل وهي تشاهد بواسطة الأقمار الاصطناعية الدبابات والطائرات الاسرائيلية تحارب شعباً أعزل في فلسطين. ولا بأس - كما يقول المؤلف - لو تناست الولاياتالمتحدة أن الإرهابيين الذين اكتوت بنارهم في الحادي عشر من ايلول سبتمبر هم أنفسهم المناضلون الذين ساعدتهم في الماضي وتحالفت معهم للقضاء على الشيوعية. وإذا كان عصفور يتوسع بأشكال مختلفة في تحميل الولاياتالمتحدة مسؤولية توفير المناخ لإنتاج ظاهرة الإرهاب عموماً، إلا أنه لا يعفي النظم "الديناصورية"، و"الديكتاتورية" من تلك المسؤولية وبخاصة مؤسسات هذه النظم التي تفرخ الاصولية. وضمن هذه المؤسسات، المؤسسة التعليمية، وما تفرضه من مقررات متكلسة، وكذلك الأنظمة الإعلامية والتثقيفية تلك التي لا تخلو من مركزية الصوت الواحد والشخص الواحد والرأي الواحد... ولا يكف عصفور طوال الكتاب/ المقالات عن توجيه النقد اللاذع، والمنهجي الى كل المقوضات والمعوقات الديموقراطية التي تفرضها الاصولية الدينية، ويمد خيط هذه المعوقات الى آخره قائلاً: "ويقترن بذلك ما يحدث في ممارسات الاصوليات المدنية التي ترفع شعارات ماركسية، أو بعثية أو ناصرية، منغلقة على تأويلات بعينها لا سبيل إلى الاختلاف عنها. فالاختلاف عنها خيانة ونكوص عن الواجب وذلك في المدارات الفكرية المتعلقة التي تجعل من التخوين الوجه الآخر من التكفير". واللافت أن عصفور يوجه كل هذه الانتقادات الى المؤسسات الرسمية، وهو واحد من قيادات تلك المؤسسات، ما يعد حالاً فريدة وغير مكررة، فنحن تعودنا من كل القادة، أن يمدحوا المؤسسات والمجهودات المضنية التي يقوم بها قادة هذه المؤسسات وهذا ما لم نلحظه عند جابر عصفور. بل إنه في مقال يصل إلى حد الاعتراف، ينعى تلك الازدواجية التي يعانيها المثقف، مدللاً بذلك على نفسه عندما كان يعمل رئيساً للفريق الذي كان يقوم بالتجهيز لمؤتمر المرأة العربية، وكان ضمن هذه التجهيزات تخطيط لإصدار مجموعة من المطبوعات، بعضها مؤلف وبعضها مترجم، تتناسب والأهداف الأساسية التي أرادها "المتشدقون" لهذا المؤتمر، وعلى رأسها مناقشة العوائق المتعددة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، التي تحول دون المرأة العربية والابداع. وعندما وقع الاختيار على كتب تخدم هذه الأهداف، لاحظ أن هذه الكتب ستثير مشكلات كثيرة، وتستفز مشاعر محافظة، فتصبح حججاً قد يستخدمها المتطرفون لممارسة التكفير. ويستطرد عصفور سارداً كيفية ولادة الرقيب لديه كمسؤول، عندما انتبه إلى نفسه وهو يحذف بعض الجمل من هذا الكتاب، أو بعض الفقرات، ويقرر تأجيل ترجمة هذا الكتاب، أو ذاك، وفي أسى يقول: "ولكن ما توقفت عنده كثيراً، ولا أزال هو هذا الازدواج الذي يعيشه مثقف مثلي هو نموذج لمئات، إن لم يكن آلاف غيره بالقطع، فنحن نعيش حياتين ثقافيتين في ما يبدو، حياة ثقافية تتصل بالثقافة العالمية، التي تفتحها لنا نوافد اللغات الأجنبية التي تعلمناها، وحياة الثقافة التقليدية السائدة التي نقاومها". ولذلك نجد عصفور، يوجه سهام نقده إلى هذا الرقيب المتعدد الأوجه، الكامن داخلنا، والمعلن في ثقافاتنا وفي مؤسساتنا، الثقافية والتعليمية والسياسية، هذا الرقيب الذي يغذي أشكال التخلف والرجعية، ويمدها بكل ما يملك من قوة. يكتب عصفور عن ثقافة رفض الآخر الاجتماعي، ويحلل دوافعها، ويدينها، موسعاً مفهوم الآخر، من عصر إلى عصر، فليست هناك - كما يقول - صيغة مطلقة تختزل موقفاً ثابتاً من الآخر، سلباً أو إيجاباً، في أي حضارة. وتتواصل مقالات الكتاب في حلقات متصلة خادمة الفكرة الأساسية التي انطلقت منها، فيجهر عصفور بأحقية الاختلاف، مستعيداً العهد الذهبي الذي عاشه في جامعة القاهرة بين أساتذة يعرفون فضيلة الاختلاف، باعتباره ركيزة أساسية للتطور، هؤلاء الأساتذة الذين دفعونا إلى الاختلاف عنهم بالاجتهاد، وتقبلوا اختلافنا معهم في الرأي برحابة أفق وتسامح عقلي. ثم في حلقة أخرى من حلقات الكتاب يعلن ما سماه "حق الخطأ"، ويصفه بأنه هو اللازمة المنطقية لحق الاختلاف، وهو حق تقتضيه ممارسة الحرية الفكرية التي تنطوي على امكانات الإصابة والانحراف عن مدى هذه الاصابة. ومن هذه المنطلقات ذاتها يرفض عصفور تقديس الماضي، نافراً من مقولة "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، على رغم أنه يعقد أحياناً مقارنة بين هذا الماضي البليد، وذلك الحاضر البغيض، منتصراً للأول على حساب الثاني. وإذا كان عصفور يدين الاصوليين من حيث يعتقدون أنهم محتكرو المعرفة، فعلينا أن نتذكر أيضاً أن تلك الخاصية نشأت في ظل هيمنة السلطة، واحتكارها لاصدار القرار وتنفيذه وتعميمه وفرضه، السلطة أيضاً سادرة في غيّها، ونافذة في كل قراراتها، وأزعم أن احتكار المعرفة لدى هذا الاصولي، يتحول إلى عنف مضاد لاحتكار هذا القرار. كتاب "الرهان على المستقبل" لا يتوقف عند التحليل والتفسير، بل يجنح إلى التأمل الموضوعي، ولا يتردد في توجيه أصابع الاتهام الى ظواهر سلبية وأوجاع عميقة في الثقافة العربية.