"سنة تمضي وأخرى سوف تأتي"، سطر شعري من قصيدة "بكائية لصقر قريش" التي كتبها صديقي أمل دنقل الذي يزداد افتقادي له كلما تكشّف مستور الشعراء. سطر مشحون بمعان أعرفها وأخرى أهجس بها، في توتر نغمه الشعري منزوف الضرب، كأنه صدى مستوحش للأيام التي لا يكف فيها القبح عن تعكير صفو الحياة. سطر ظللت أردده بيني وبين نفسي كلما وقع شيء يثقل على النفس في ذلك العام الذي مضى بشرّه وخيره منذ أيام قليلة، فخلف في النفس أحزانا كثيرة وأفراحا قليلة، وترك في الوجدان بعض الأمل بأفراحه القليلة، ودفع العقل إلى تأمل أحزانه الكثيرة قبل أن ينداح مغزاها في تدافع الإيقاع المتصاعد من الأحداث. ولا بد للعقل من التأمل في حالات الشجو التي تولّدها مفارق الفصول أو مفاصل الأعوام، على الأقل لينير التأمل للوعي بصيرته كي يحدس بما سوف يأتي في السنة القادمة. فالآتي نتيجة للذاهب بمعنى أو غيره، والقادم لا يأتي إلا ببعض ما سبق أن أرهص به. ولا أستطيع أن أسترجع السنة المنصرمة من دون أن أتذكر الإرهاب بأوجهه المتعددة التي يبدو أنها أصبحت قاسما مشتركا في أيامنا. الوجه الأول والأبشع والأكثر عنفا ودموية يتجسد في المذابح الخسيسة التي تفجعنا بها حفنة من المجرمين تدعي الانتساب إلى الإسلام والإسلام منها براء، حفنة تروّع الآمنين، وتغتال الأبرياء، وتلطخ بالدماء البريئة كتاب الحضارة السمحة الذي أبدعه وادي النيل، ساعية إلى أن تستبدل بالدولة المدنية دولة دينية شعارها التقليد الجامد والتعصب الأعمى. والنتيجة تساقط الأبرياء من الضحايا، وتهديد مستقبل الأمة وأحلامها في التقدم. وللأسف، ما كدنا نبرأ من وقدة الحزن على ضحايا "ميدان التحرير" حتى فجعتنا مذبحة الأقصر التي قام باقتراف جرمها البشع شباب بعضهم من طلاب الجامعة، في دلالة مأساوية قاتمة تضيف إلى وعينا بالإرهاب ما يدفعنا إلى التعمق الفعلي في تأمل أسبابه، وتأكيد أن هذا الإرهاب لن يتوقف ما لم نجتث جذوره بمراجعة جذرية لأنظمتنا الأمنية والتعليمية والتثقيفية والإعلامية والتشريعية، في موازاة أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية. فأصل العلة أشمل من أن يرجع إلى سبب واحد، وأعقد من أن تبرأ منه الأمة بأبسط أنواع الدواء. أذكر أنني توقفت طويلاً أمام صور القتلى الذين تعرفت عليهم أجهزة الأمن بين الإرهابيين الذين قاموا بالمذبحة البشعة. شبان صغار في مطلع العمر، طلاب جامعة من جنوب مصر، بعضهم ينتسب إلى كلية الطب، الأمر الذي يؤكد أنهم متعلمون وليسوا جهالا، ومن المتفوقين وليسوا من الأميين، فما الذي دفعهم إلى ارتكاب هذه الجريمة البشعة، بعد أن تفجر في داخلهم الكابوس بدل الحلم، والموت بدل الحياة؟ ومن الذي استبدل بعقولهم الإنسانية قنابل موقوتة من العنف الحيواني الذي لا حدّ لوحشيته؟ قال بعض شهود العيان إنهم انفردوا بضحاياهم من السائحين الأبرياء حوالى أربعين دقيقة، أعملوا فيها من القتل والذبح وقطع الأطراف ما لا يمكن أن يرتكبه عاقل أو إنسان. لا يمكن تفسير هذه الجريمة البشعة بجهالة مرتكبيها، فالجناة فعلوا ما فعلوا وهم مدركون لما يفعلون، وبعد تخطيط محكم، واقترفوا ما اقترفوا بقلوب خلت من كل شيء إلا التصميم الوحشي على التنكيل والتمثيل بأكبر عدد من الضحايا كي يتركوا أفظع الأثر، ويحدثوا أكبر الأذى، ويتسببوا في أشد أنواع الخسارة. وذلك ما حدث بالفعل على كل المستويات، ولا سبيل إلى البرء منه في القريب العاجل. وأتصور أنه لا سبيل إلى منع تكراره بالتشديد على المواجهة الأمنية، أو تحديث وسائل التأمين في المناطق المعرّضة لمثل هذه الهجمات الوحشية، فذلك كله لا معنى له على رغم أهميته في غياب ما هو أهم منه، وهو مراجعة كل ما أدّى في المجتمع إلى إفراز هذا النوع من الشباب الذين هم ثمرة لأوضاع وشروط وأسباب لا بد من البحث عنها في الداخل قبل الخارج، وفي علاقات المجتمع ذاتها قبل علاقته بغيره من المجتمعات القريبة أو البعيدة. فالخطر الداخلي أولى بالرعاية، لأنه مقدمة الخطر الخارجي الذي لا يحقق أهدافه إلا بضعف ما في الداخل وانطوائه على جرثومة الخلل. ويعني ذلك أنه لا بد من المراجعة الجذرية لأنظمتنا التعليمية التي استشرى فيها التخلف، ووجد فيها الإرهاب حماته من الأساتذة الذين يلقنون تلاميذهم التطرف الذي يفضي إلى العنف، خصوصا حين يستبدلون بالتسامح التعصب، وبالعقل النقدي التقليد الجامد أو الاتباع الأعمى. وليس خلل الأجهزة التعليمية سوى الوجه الآخر من خلل الأنظمة الإعلامية والتثقيفية، تلك التي لا تخلو من مركزية الصوت الواحد والشخص الواحد والرأي الواحد، وتتدعم بالتقليد أكثر من الابتداع، وتحرص على الدعاية أكثر من إشاعة الوعي الخلاّق بين المواطنين، ولا تفارق الخوف من التجديد والتجريب، بل لا تكف عن استفزاز المحرومين من الأغلبية الصامتة للشعب الذي تتزايد أميته، يوما بعد يوم، في عالم تحول إلى قرية كونية بالفعل. وتلك عناصر تؤصِّل في هذه الأجهزة لنزعة أصولية لا تختلف في جذرها عن النزعات المضادة للدولة المدنية، سواء في دورانها حول محور الصوت - الرأي - الشخص الواحد، أو في استجابتها الدائمة إلى علاقة الاتباع النقلي التي تربط بين الأعلى المعصوم والأدنى الذي يستسلم إلى عصمة الأعلى. وأحسب أن العلاقة بين هذه العناصر وسياقها السياسي هي الوجه الآخر من العلاقة بينها وسياقها الاقتصادي، فالأزمات الاقتصادية التي تؤدي إلى تزايد معدلات الفقر، وعدم العدل في توزيع الثروات الوطنية، والانفجارات السكانية التي لا يحسب حسابها بدقة في أي تخطيط اقتصادي، وانحسار معدلات التنمية الشاملة في بعض مستوياتها بما يتسارع بإيقاع التخلف، والانحياز إلى العاصمة على حساب الأطراف من الهوامش التي تترك فريسة للفقر والمرض والجهل، فتتكاثر العشوائيات التي تمتلئ بكل ما يساعد في تولّد التطرف والعنف... كل ذلك لا ينفصل عن احتمالات الفساد السياسي التي لا بد أن تنطوي عليها أبنية الأجهزة التي يقوم كل منها على مركزية الرئيس الذي يفهم في كل شيء، ويفتي في كل شيء، ويرجع إليه في كل شيء، كأنه الوجه الآخر من الإمام الأصولي، في مدار مغلق من الوعي السياسي السائد الذي لا يعترف عمليا بحق الاختلاف، ولا يؤمن بالتعددية الفعلية، ويستبدل بأهل الخبرة أهل الثقة، وبالأخفت صوتا الأعلى صوتا في التملق. هذا النوع من المدار المغلق هو ما ينبغي أن نضعه موضع المساءلة الجذرية في كل تجلياته السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية، خصوصاً حين نتحدث عن الأسباب التي أدّت إلى ظهور هذا النوع من الشباب الذي يستبدل العنف بالحوار، والموت بالحياة، ذلك لأن أحدا لم يستورد هذا النوع من خارج البلاد، ولم يصدرهم إلينا أحد، فأنظمتنا التعليمية والتثقيفية والإعلامية والسياسية والاقتصادية تنطوي على ما يؤدي إلى توالدهم وتكوين أمثالهم. وأياً كان العون المادي أو المالي أو التقني الذي يتلقونه من الخارج، ومهما كان أثر عمليات تدريبهم على الإرهاب وغسيل أمخاخهم في هذا القطر أو ذاك، فكل ذلك لاحق على تكون النواة الأولى التي تتولد في الداخل، نتيجة أوضاع وشروط وأسباب لا سبيل إلى القضاء على أوجه الإرهاب إلا بالكشف عنها، ومراجعتها مراجعة جذرية شاملة تغوص إلى أصل الداء في كل تشابكاته ولوازمه ونواتجه. ويزيد من أهمية هذه المراجعة أنها تقودنا إلى ما يؤكد تراكب وتراتب وتبادل العلل التي تفضي إلى الإرهاب، فتلقي الضوء على الكيفية التي تتحول بها العلة السبب إلى معلول نتيجة بالقدر الذي يتحول به المعلول إلى علة، فالأوضاع الثقافية أو الفكرية على سبيل التمثيل، أو التخصيص، هي علة ومعلول في العلاقات التكوينية لهذه الظاهرة التي تسمم حياتنا، لأنها أصبحت تنطوي على الوجه الثاني من الإرهاب، وهو الوجه الذي تجسّده اتهامات التكفير التي تنطلق كالرصاصات الغادرة على المثقفين من الكتاب والفنانين، فتحيطهم بالخوف الذي يتغلغل في النفوس والعقول، كي يجفف ينابيع الإبداع والابتكار، ويشلّ الرغبة في المغامرة الخلاّقة، ويخنق إمكانات الاجتهاد أو الحوار أو حتى حق الاختلاف. وبقدر ما تتولد هذه الاتهامات عن فكر تقليدي، يستبدل بالتراث العقلاني المنفتح الميراث النقلي المنغلق، وبالمجادلة بالتي هي أحسن التخويف بما هو أقمع، فإن هذا الفكر الذي يقع موقع السبب من نتيجته التي هي اتهامات التكفير سرعان ما يتدعم بها، ويشيع بواسطتها، ويزداد سيطرة بفضل ما تتركه هذه الاتهامات من أثر سلبي تدميري في النفوس والعقول، سواء كانت هذه النفوس والعقول نفوس وعقول المروعين بالاتهامات الواقعة على إنجازاتهم، أو نفوس وعقول المستجيبين إلى هذه الاتهامات من الشباب الذي يسيطر على ثقافته المحدودة فكر التعصب، فيتحول فعل الاتهام الذي لا يكف "مكفراتية" هذا الزمان عن اقترافه في حق المثقفين المبدعين إلى فتوى بالقتل وتحريض عليه في الوقت نفسه. وعندئذ، تغدو المسافة جدّ قصيرة بين لغة الاتهام التكفيرية وعنف الممارسة القمعية التي تترتب على هذه اللغة، خصوصا حين يترجم عقل الشاب الواقع في شراك التعصب دلالة الاتهام إلى حكم بمقتضاه، وينتقل من نزوع التصديق الاتباعي لمنطوق الرسالة اللغوية إلى ممارسة فعل القمع السلوكي الذي يتجسّد عنفا في الواقع، ويؤدي إلى استئصال هذا المثقف الكافر لا المجتهد أو تلك المثقفة الكافرة لا المختلفة من الوجود. وذلك، تحديداً، ما فعله الشاب المصري الذي اغتال فرج فودة بمساعدة أقران له بعد أن تكاثرت فتاوى التكفير لاجتهادات ذلك المثقف المتميز، وما فعله نظيره الذي حاول اغتيال نجيب محفوظ بعد تصاعد حملة تكفير "أولاد حارتنا" وغيرها من الأعمال الشبيهة، وما فعله الشبان الجزائريون الذين اغتالوا عبدالقادر علولة وغيره من المبدعين. وقس على ذلك غيرهم في هذا القطر العربي أو ذاك، فقمع الإرهاب سريع في عدواه وانتشاره كالوباء. ومن ينجُ من التصفية الجسدية في هذا المدار المغلق فنصيبه مؤكد في أنواع التصفية المعنوية الموازية. وبعضها يتم بواسطة القضاء الذي حاول اختراقه دعاة الحسبة الذين أفلحوا في استصدار حكم التفريق بين نصر أبو زيد وزوجه مرتين في الاستئناف والنقض من دون أن يوقفهم أحد، فاغترب المفكر المجتهد عن جامعته ووطنه وأصدقائه في منفى اختيارى، بعيداً عما يمكن أن يناله من تصفية جسدية، لا يخفف من احتمالاتها الخطرة الحكم بإيقاف تنفيذ حكم التفريق في محكمة أخرى، ذلك لأن الحكم الأساسي نفسه لا يزال قائما بكل دلالاته القاتمة ومعانيه المظلمة. ولا تزال آثار قضية نصر أبو زيد تتداعى في الجامعات المصرية إلى اليوم، وتفرز نتائجها مناخا من التردد في الاجتهاد، والخوف من المغايرة الفكرية، وإيثار السلامة في القضايا الشائكة التي يمكن أن تفضي إلى المصير نفسه أو ما يشبهه. وبالقدر الذي يتقلص به حضور أمثال نصر أبو زيد من المجتهدين الجدد، دعاة العقلانية الاعتزالية المعاصرة، في الجامعات المصرية وغيرها من الجامعات العربية، تتزايد التيارات النقلية التقليدية تمكنا وقوة وهيمنة، وينتفي الحديث عن أية حرية مطلقة للفكر الجامعي، وتبدو كلمات سعد زغلول الأزهري القديم الذي وصف الجامعة، سنة افتتاحها، بأنها معهد لا دين له إلا العلم، من قبيل الهرطقة التي لا يجرؤ أغلب الأساتذة على التفوه بها. وفي الوقت نفسه، تتصاعد ظاهرة الأستاذ المكفّر الذي يملأ قاعات الدرس بمفردات تكفير المغايرين والمخالفين، ومن ثم يسهم في تكوين ذلك النوع من الشباب الذي ارتكب مذبحة الأقصر، في المتوالية نفسها التي تبدأ بالتعصب والتطرف وتنتهي بممارسة عنف القمع في جرائم الإرهاب البشعة. وغير بعيد عن سياق هذه المتوالية ما يقع من تصفية معنوية موازية، بواسطة البلاغات التكفيرية التي تتقدم بها إلى النائب العام التجمعات الأصولية في بعض المؤسسات والجمعيات الدينية الرسمية التابعة للدولة. وحالة حسن حنفي وسيد القمني هي الأقرب إلى الذهن من بين أحداث العام المنصرم، فقد أدّت الحملة التكفيرية على أفكار حسن حنفي إلى وضع خطة فعلية لاغتياله بواسطة شبان برمجوا على ممارسة العنف الإرهابي. وكان يمكن أن تمضي الخطة في طريق التنفيذ إلى النهاية لولا أن كشفتها أجهزة الأمن، وألقت القبض على المخططين، ذلك على رغم البيانات الملحة والمتكررة التي لا يزال يصدرها حسن حنفي لإعلان اقترابه من خصومه الفكريين الذين لم يصدّق واحد منهم إلى الآن بياناته الأخوية. ولا تزال عملية تكفير سيد القمني مستمرة إلى اليوم، في المخطط نفسه الذي لم يكد يترك مبدعاً أو مثقفاً مصرياً من دون ترويعه وإجباره على الصمت، أو التقية، أو مراوغة الرمز، أو الانسحاب، أو الهجرة، أو انتظار المثول أمام محاكم تفتيش أهلية، ومن ثم انتظار حكم الإدانة الآتي حتما من المجموعات التكفيرية الموازية لسلطة الدولة المدنية والمعادية للمجتمع المدني وسلطة الدولة في آن.