قد لا نأتي بجديد إذا قلنا ان الكاتب اللبناني باللغة الفرنسية، والغنّي عن التعريف، أمين معلوف، أدمن الإقامة في منطقة حدودية متحركة بين الأدب والتاريخ. والتعبير عن هذه الإقامة، القلقة بالضرورة، بلغ حدّ الاحتراف. ولئن كان معلوف يعلم ان التاريخ ابن الحكاية وسليلها، فقد ارتأى منذ بداية مغامرته الكتابية أن يضع قدماً في التاريخ وأخرى في الأدب. على أن فرادة الكاتب تكمن في طريقته في المزج بين مستلزمات حقلين تزايد استقلالهما الواحد عن الآخر من دون أن تنعدم الأواصر والتراسلات الضمنية بينهما. وأسفرت هذه الوضعية الكتابية عن نصوص سردية ناجحة عموماً، وإن بمقادير متفاوتة، إذ تجمع بين المتعة والفائدة، بين الرواية والبحث. ينطبق هذا التصويف، مأخوذاً في صورته الاجمالية بالطبع، على كتاب معلوف الجديد الصادر مند بضعة أشهر عن دار "غراسيه" في باريس، في عنوان "أصول". والجديد هذه المرة هو أن معلوف يخوض مباشرة في الرواية التاريخية والعائلية الحميمة للأسرة التي يتحدّر منها، لا سيما في سيرة جده الأستاذ والمربّي، والمتمرد على طريقته على تقاليد أو أعراف الجماعات والملل، أي بطرس المعلوف 1868 - 1924. وعلى هذا الصعيد، أي استجماع العناصر التي تتيح كتابة سيرة أشخاص أعزاء ورحلين، يمكن القول ان أمين معلوف محظوظ من دون أن يعفيه هذا الحظ من مشقة اخراج هذه السيرة العائلية الحميمة، في هيئة نص سردي طويل وموثّق بحيث يكون في الوقت ذاته ترجمة لحياة أو مسار شخصية استثنائية في معنى ما، ومقاربة تاريخية لأبرز وجوه السياقات المحلية والاقليمية العريضة الحافلة بالنزاعات والتناقضات والمفارقات التي لا يمكن من دونها أن تتحصل السيرة على حمولتها ودلالتها التاريخيتين. وهو محظوظ لأنه لا يتفق لأي كان أن يرث حقيبة ملأى بآثار مكتوبة، برسائل وقصائد مراسلات وتعليقات وخطابات، وكلها تدور على شواغل خاصة وعامة، عائلية ووطنية عريضة. انها وثائق فعلية، وان كانت محفوظة بالجملة وموزعة على مناسبات وأخبار متفرقة وتفتقر بالتالي ليس الى وحدة ناظمة مفترضة، بل الى سياق أو مجرى يعيد اليها سماكتها بعد أن غطّاها غبار الزمن، ويحررها من ركونها في عتمة خزانة ثياب داخل بيت حجري شبه مهجور في قرية في الجبل اللبناني. في خلفية كتاب "أصول" الممتد على 480 صفحة من القطع الكبير، ثمة بالتأكيد أسئلة طرحها معلوف على نفسه وتنازعته حيالها نوازع مختلفة، وهي أسئلة تتعلق بفكرة الإرث والنسب، ليس في المعنى المباشر والتقليدي للكلمة، بل في المعنى الروحي والرمزي، وتتعلق بالتالي بفكرة الدَيْن الرمزي وكيفية تعهده وتسديده للتعبير عن وفاء شخصي حيال الأسلاف. مكابدة مثل هذه الأسئلة هي التي دفعت الكاتب الى اختيار كلمة "أصول" وجعلها عنواناً وتعريفاً لنصّه الطويل المتنقل على الدوام بين الرواية والتاريخ. ففي مستهل كتابه هذا يشرح معلوف أسباب اختياره لكلمة "أصول" بدلاً من "جذور" التي قد يفضّلها أناس آخرون. فهو، بحسب ما يقول، لا يحبّ هذه الكلمة جذور ولا صورتها، ذلك أن الجذور تنغرز في الأرض، وتتعرّج داخل التراب، وتتفتح في الظلمات، كما أنها تُبقي الشجرة أسيرة منذ الولادة وتنمّيها في مقابل ثمن قائم على الابتزاز: "أن تتحرري يعني أن تموتي". ينبغي على الأشجار إذاً أن تقنع بالمقسوم لها، لأنها تحتاج الى جذورها" أما البشر فلا. فنحن نتنفس النور ونطمع بالسماء، وعندما نغوص في الأرض، فذلك لكي نتلف ونفسد. "نسغ أرض مسقط الرأس لا يصعد عبر أقدامنا الى الرأس، إذ لا وظيفة لأقدامنا سوى المشي. بالنسبة الينا، الدروب وحدها هي الشيء المهم"، فهي التي تنقلنا من الفقر الى الغنى أو الى فقر آخر، ومن العبودية الى الحرية أو الى الموت العنيف. الدروب تعدنا، تحملنا، تدفعنا، ثم تتركنا. وعندئذٍ نموت، كما ولدنا، عند حافة طريق لم نخترها. ويرى معلوف كذلك ان الدروب هي على النقيض من الأشجار، لأنها لا تبزغ من الأرض وفقاً لهوى البذور. للدروب أصل ما، كما هي حالنا، وهو أصل موهوم، لأن الدرب لا تعرف بداية حقيقية، فقبل المنعطف الأول، هناك في الخلق، كان ثمة من قبل منعطف، وقبله منعطف آخر. انه أصل لا يمكن الإمساك به، ذلك أنه عند كل تقاطع تنضم دروب أخرى مقبلة من أصول أخرى. هذه المقابلة، أو الضدّية إذا شئنا، التي يعقدها أمين معلوف بين صورة الشجرة المرتفعة عمودياً والمدينة الى حد الارتهان الوجودي لجذورها، وبين صورة الدرب ذات الأصول المتشعبة والمتعددة والمرتسمة مثل خط أو خريطة للمشي واجتراح صيرورة انتقال وسفر للفرد السائر، هذه المقابلة تصدر عن حكمة وحرص نبيلين في حدّ ذاتهما، للتخفف من وطأة صورة شائعة في البلد اللبناني، وفي أمكنة أخرى أيضاً، عن النسب القرابي باعتباره مدار اعتقاد بوحدة وسلطة وهميتين يتوارثهما الأبناء عن الآباء والأجداد، كما هما على ما يحسب الوارثون. فنحن نعلم، وأمين معلوف معنا، أن النسب أمر وهمي ولا وظيفة له سوى إحداث الوصلة واللحمة بين أبناء القرابة، وانشاء عصبية، تعبر الزمن وحوادثه وتبدلاته من دون أن يعتريها وهن، بحسب ما يفهم من كلام مؤرخنا قبل قرون، ابن خلدون. وتشخيص معلوف للمقابلة المذكورة بين الشجرة والدرب، تذكّرنا بمقابلات أخرى بين الشجرة والنبتة الأرضية التي تذهب جذورها وتشعباتها في كل اتجاه، وهي "الأرمولة" أو "الجذمور"، إذا صدقت هذه الترجمة لكلمة "ريزوم" Rhizomes التي وضعها، كعنوان لكتيب فلسفي شائق رائق صدر في باريس عام 1976، الفيلسوفان الفرنسيان جميل دولوز وفليكس غواتاري. على ان حرص معلوف على اطراح صورة الشجرة المتشبثة بجذورها وما تستلزمه من المفاخرة وعرض المناقب، لا يمنعه على ما يبدو من ابتكار صيغة توافقية بين ولاءاته وانتماءاته المتعددة، بما في ذلك انتماؤه الى الاسم العائلي. فهو يقول: "أنا من قبيلة اعتادت دائماً وأبداً على الظعن والارتحال داخل صحراء تتطابق أبعادها مع أبعاد العالم. بلداننا هي واحات نغادرها عندما يجفّ النبع، وبيوتنا هي خيم تتزيّا بزي الأحجار، وجنسياتنا هي شأن متعلق بالتواريخ أو البواخر. ما يربطنا البعض بالبعض الآخر، في ما يتعدّى الأجيال، وفي ما يتعدّى البحار، وفي ما يتعدّى بابل اللغات، انما هو خفقان اسم، ليس إلاّ...". يعقد معلوف إذاً تسوية بين الشجرة والدرب، بين الصيرورة الفردية للكاتب الناظر عن بعد وعن مسافة نقدية الى أصوله العائلية والثقافية، وبين الحاجة الى التعبير عن وفاء لخفقة الاسم وإرثه. والأمر هذا قد لا يكون خلواً من المفارقة، وربما من الالتباس، وهو التباس يلابس في مواضع عدّة معالجة الكاتب لهذا الوجه أو ذاك من سلوكات جدّه وذويه. تبدأ السيرة التاريخية والعائلية التي يرويها معلوف، وتنتهي أيضاً، بالقطع ذاته، وهو المقطع الذي يسرد فيه كيف ذهب وهو في الثلاثين من عمره، الى بيت جدّته "نظيرة" لتحضيرها نفسياً لتلقي نبأ وفاة ابنها، أي والد المؤلّف بالذات، الذي كان دخل في غيبوبة قبل عشرة أيام بعد اصابته بنزيف مفاجئ في الدماغ. بين البداية والنهاية هاتين، يروي معلوف وقائع وحوادث، خاصة وعامة، عائلية وتاريخية، تمتد على أكثر من قرن، وفي غير بلد. وتتوالد فصول الكتاب الموزّعة على واحد وسبعين مقطعاً، على ايقاع تنقل متفاوت المقادير والنبرة، بين المقاربة التاريخية والمقاربة الروائية لعدد من الوجوه البارزة في أنشطة العائلة المعلوفية وحياتها ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى الأربعينات من القرن العشرين. وتحتل سيرة بطرس المعلوف، جد المؤلف، ذي الفكر التنويري، النصيب الأكبر من الكتاب، إن لم نقل ان الكتاب مخصص في الحقيقة لسيرة هذا الرجل الذي اعتنق البروتستانتية ورفض تعميد أبنائه وتحمس لصعود جمعية الاتحاد والترقي ووعودها بإنشاء وطن عثماني يتساوى فيه كل أبنائه، بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية واللغوية والجغرافية والعرقية، قبل أن يشعر بالاحباط بسبب طغيان النزعة القومية الضيقة على ممارسات أعضاء الجمعية. وينقل معلوف الى الفرنسية عدداً كبيراً من نصوص الرسائل والخواطر والتعليقات التي تشكّل مادة الكتاب التوثيقية بعد أن أعاد المؤلف تنظيمها وتصنيفها كما يفعل المؤرخون مع الأرشيفات قبل تناولها بالدرس والتحليل والتأويل. لكنه يستغرق أحياناً في تفسيرات كلام جده ومواقفه، اضافة الى أقرباء آخرين، ويختلط في مقاربته وجه القراءة النقدية الفاحصة مع وجه التعاطف الضمني الى حد التبرير، ما يجعل تعليقاته أحياناً أشبه بحاشية نصف أدبية ونصف نفاحية للدفاع عن التباسات وتناقضات مواقف وآراء وسلوكات وهي التباسات كانت تسم على الأرجح تصورات النهضويين وتأرجحاتهم بين القديم والجديد، بين التقليدي والحديث. ويعود هذا الى رغبة أمين معلوف في اضفاء صفة التماسك والانسجام مع الذات على السلوك الذهني والعملي للجد، علماً أن الكاتب يظل يحتفظ بالنزاهة البحثية المشفوعة بنزعة انسانوية، ويتفادى السقوط في لغة الامتداح وتدبيج المناقب. فهو يعتبر أن جدّه بطرس كان رجلاً متمرداً، "وأنا أبحث عن أصولي بين أنقاض انتفاضته، فأنا أنسب نفسي الى انتفاضة ومنها أتحدّر. على أنني لا أريد استبدال تزوير بآخر. وسيكون الأمر كذلك في حال ما مررت بصمت واقعة أنه قبالة هذه الحفنة من الأبيات الشعرية المناهضة بغضب شديد لسلطة الأكليروس رجال الدين، هناك مئات الأبيات - نعم، مئات عدّة - تترك انطباعاً آخر". ص 394 - 395. وإذا كان تناول معلوف لنشاط جدّه التعليمي والتنويري في أواخر العهد العثماني، على خلفية الصراع والتنافس المحتدم بين الارساليات البروتستاتنتية الأميركية ونشاط الارساليات الكاثوليكية، واليسوعية تحديداً، يحظى بفائدة تاريخية لا يرقى اليها الشك، فإنّ ثمة فصولاً ومقاطع أخرى تبدو أقرب بكثير الى السرد الروائي المشوق. من ذلك مثلاً المقاطع الطويلة التي يتحدّث فيها أمين معلوف عن رحلته الى كوبا بحثاً عن آثار عمه جبرايل، شقيق جدّه، الذي استقرّ في العاصمة الكوبية منذ عام 1895، وعمل في التجارة ودخل المحافل الماسونية، واشترى قصر الرئيس غوفير، وأصبح شخصية معروفة قبل أن يقضي نحبه في حادثة سير عام 1918 اكتنفها بعض الغموض. تتخذ هذه الرحلة الكوبية التي قام بها معلوف مواصفات عمل روائي حافل بالتشويق والإثارة والمفاجآت من بينها التقاء الكاتب بأحد أفراد العائلة وهو ربما آخر السلالة في كوبا وتدوين مذكرات لا تخلو من التأمل في الأشياء وفي العلاقة بين الماضي والحاضر، بين السابق واللاحق، بين السلف والخلف.