في لغات اللبنانيين وعباراتهم السائرة والمحكية، ثمة كلمة يجري استخدامها احياناً لوصف وتقويم الحال الاجمالية لشخص يتمتع بالنزاهة والاستقامة ورحابة الصدر وترجيح العقل والحكمة على الهوى، والاعتدال على الجموح، والتواضع على التبجح: "آدمي". ولن نخوض رهاننا، في وجوه الاستخدام المختلفة لكلمة "آدمي" لدى اللبنانيين ولدى غيرهم ربما من المشارقة العرب، مكتفين بالالتفات الى ان الكلمة تنزع الى إحالة الموصوف بها الى مكانة ومحل ومنظار يبدو ان الشخص استقرّ عليها مشكوراً ومحموداً بمقدار ما تحظى "الآدمية" من قيمة في وعي ووجدان الناس في مرحلة وثقافة معينتين. والآدمي مدعاة شكر وثناء لانه بذل ويبذل جهداً كبيراً من اجل التحكم بنوازع النفس، الأمّارة بالسوء كما نعلم، والحاملة فجورها وتقواها. ومعلوم ان كلمة آدمي تنسب المتصف بها الى اب البشر، آدم، الذي اختص دون سائر المخلوقات بقوة ناطقة وعاقلة بعد ان علْمه الله الاسماء كلها. ثمة في لغات وعبارات سائرة اخرى ما يعادل أو يقرب من كلمة وصفة "آدمي"، كما هي الحال مثلاً في بعض لغات المغاربة واستخدامهم لكلمة "ناس ملاح". وفي عبارات اكثر حداثة يعبّر عن ذلك، بدون ان يكون في الامر تماثل وتطابق بين المدلولات، بكلمة انساني أو انسانوي. ما يحملنا على هذا التقديم السريع هو الانطباع العام المتولّد لدى قراءة كتاب "الهويات القاتلة" الصادر حديثاً عن دار "غراسيه" في باريس، للكاتب اللبناني باللغة الفرنسية أمين معلوف" ان لم نقل الكاتب اللبناني - الفرنسي اذا شئنا مجاراته في تأكيده على التعدد الذي يلازم هويته كما يراها وينشدها هو بالذات، وبمقادير وتجاذبات وتناغمات يتعهدها هو بالذات. ذلك ان صاحب هذه المحاولة المتنقلة بين المعالجة الفكرية التاريخية وبين الشهادة الادبية، أي أمين معلوف، "آدمي"، بل هو ربما "آدمي جداً". ومعنى ذلك ان معلوف يكاد لا يحيد لحظة واحدة، وعلى امتداد الكتاب الواقع في نيّف ومئتي صفحة، عن المنظار الانساني أو الانسانوي الذي منه وفيه يتناول ظاهرة معقدة وشائكة وحمّالة أوجه، وهي الظاهرة المتعلقة بموضوع الهوية وتوابعها ومشتقاتها بعد ان تفاقمت وجوه التعبير عنها الى حدّ التورم وتسويغ الهاواء والجموحات القاتلة المتفلتة من عقالها المفترض. خلال مقاربته لتعبيرات الهوية الساعية الى حشر ابنائها واختزالهم في انتماء واحد وإجمالي لا يحتمل التعدد والتنوّع والاختلاف، خلال مقاربته هذه ينقل أمين معلوف معايناته ويستقي شواهده وأمثلته من الامكنة التي بلغت فيها الهوية مبلغاً عظيماً: لبنان، الجزائر، يوغوسلافيا السابقة، رواندا، على ان موضوع الهوية لا يقتصر تفاقمه على الحالات المذكورة، اذ انه آخذ في التعاظم، بمقادير متفاوتة، في بلدان تتمتع بتقاليد ديموقراطية عريقة مثل فرنساوالولاياتالمتحدة. كما يتطرّق معلوف الى مسألة "العولمة" متوقفاً عند وجوه المناظرة العريضة الدائرة حولها. ويتناول كذلك مشكلات التعاطي مع الحداثة وتقبّلها خصوصاً عندما تكون هذه الحداثة قادمة من عند الآخر والغير، ويستدلّ على ذلك من أحوال العالم العربي اليوم ومن خلال قراءة متجددة وعريضة للاختبارات التاريخية العربية لهذه الحداثة، وأبرزها تجربة محمد علي باشا وسلالته. في تناوله لكل هذه الامور، يظلّ أمين معلوف ثابتاً على سلوك ذهني وسط وعلى الاقامة في منزلة بين منزلتين هما في الحقيقة تعبيران عن موقفين وتصورين وسلوكين شائعين ومحظيين بالرغم من اتسامهما بالتطرف والقصوية المفضيين الى العنف، بغض النظر عن صور ومقادير هذا العنف. الى ذلك، يبدو أمين معلوف متحصناً بحافزين باتا لديه أشبه بذائقتين وملكتين: ذائقة الروائي المنقاد الى تقديم شهادة عن شواغل عصره ومخاطره، وذائقة التاريخ، ان لم نقل الحس التاريخي الذي يجعل الكاتب يلتفت على الدوام الى اثقال وجاذبيات المؤسسات التاريخية والثقافات الاجتماعية التي يتشكل فيها الافراد والجماعات. ففي موضوع الهجرة مثلاً، وهو موضوع متعاظم الاهمية في فرنسا وغيرها، يرى معلوف ان النظرتين الشائعتين الى الموضوع يتسمان كلاهما بالتطرف والخطورة. إذ لدينا من جهة نظرة تعتبر البلد المضيف بمثابة صفحة بيضاء يمكن للمرء ان يخطّ عليها ما يحلو له بدون التفات الى مقتضيات التكيف مع واقع قائم ومترسخ في ثقافة وتاريخ. ولدينا، من جهة ثانية مقابلة، نظرة تعتبر ان بلد الهجرة لهو كتاب ناجز ومكتمل بحيث لا يقبل اية اضافات أو مساهمات أو تنويعات. ويرفض معلوف هذين السلوكين والمفهومين الشائعين لانهما يعيقان سعي الافراد الى تعهد التعدد الذي يعيشونه ويحولان دون استقرار الافراد على هويتهم المركبة. اذا كان الفرد كياناً في حد ذاته، بحيث يوليه معلوف قيمة وشرعية، فان هذا الفرد ليس كائناً مجرداً بدون روابط وعلائق ومشاعر وتاريخ. ومعلوف يعتبر ان كل واحد منا يحمل، في المحصلة، أرثين اثنين: واحد "عمودي" يأتيه من اجداده وأسلافه، من تقاليد شعبه، من جماعته الدينية، وآخر "أفقي" يأتيه من زمنه ومن معاصريه. والإرث الاخير، بحسب معلوف، هو الأكثر تحديداً وتعريفاً لواقعنا، وهذا الامر آخذ في التزايد كل يوم. مع ذلك نلحظ ان هذا الواقع لا ينعكس في صورة ادراكنا لانفسنا. إذ اننا لا ننسب انفسنا الى الإرث "الأفقي"، بل الى الإرث الآخر. ويرى معلوف ان هذا التوصيف مهم لانه يطاول قضية الهوية كما نعيشها اليوم. فهناك، من جهة، ما نحن عليه في المواقع، وما نصير اليه بتأثير العولمة الثقافية وفعلها، وهو اننا كائنات منسوجة بخيطان من كل الالوان، كائنات تشترك مع الجماعة الواسعة من معاصريها في الأساسي والجوهري من مرجعياتهم وفي الجوهري من سلوكاتهم ومعتقداتهم. وهناك، من جهة اخرى، ما نعتقد ونزعم اننا عليه، وهو اننا اعضاء في جماعة دون اخرى، وقائمون على هذا الايمان دون ذاك. وليس المقصود بذلك إنكار أهمية انتماءاتنا الدينية، القومية أو غيرها. ولا يتعلق الامر بنفي التأثير الحاسم في معظم الاحيان لإرثنا "العمودي". بل يتعلق الامر على وجه التخصيص بتسليط الضوء على واقعة ان ثمة هوّة بين ما نحن عليه وبين ما نعتقد اننا عليه. في ما يتعلق بالانتماء الديني، وهو مفصل أساسي من مفاصل الهوية وتعبيراتها في ايامنا، يرى معلوف ان النص الديني لا يتغير، نظرتنا هي التي تتغير. "على ان النص لا يفعل فعله في واقع العالم الا بواسطة نظرتنا. وهذه النظرة تتوقف في كل مرحلة عند عبارات معينة وتتجاوز عبارات اخرى بدون ان تنظر فيها"، مستنداً الى الحسّ التاريخي، يقوم معلوف بدحض نظرات شائعة الى الاسلام، خصوصاً تلك النظرة التي تقيم تقابلاً وتعارضاً شبه مطلقين بين ديانة مسيحية حاملة في جوهرها للحرية والديموقراطية والعقلانية وبين الاسلام الحامل في جوهره بذور العنف والظلامية. هذه النظرة خاطئة وخطيرة، كما يرى بحق أمين معلوف. وهذا ما دعاه الى تناول مكانة الاسلام في التاريخ، ليلحظ بان الاسلام، في ما عدا رسالته الدينية والصوفية، جاء ليملأ، على صعيد السياسة، فراغاً تاريخياً نتج عن زوال الامبراطورية الرومانية. ويرى ان البدو الذين كانوا على هامش التاريخ سيطروا خلال عقود من الزمن على ارض شاسعة تمتد من اسبانيا الى الهند. وقد فعلوا ذلك بطريقة متناسقة انطوت على احترام نسبي للآخرين وبدون اللجوء الى عنف مجاني وزائد. ومع ان معلوف لا يزعم بان الفتح الاسلامي كان مسيرة سلمية، وبأن العالم الاسلامي أشبه بفردوس للتسامح، فانه لا يشك في ان الاسلام توافق وتعايش مع ابناء الديانات التوحيدية الاخرى. "ثمة في تاريخ الاسلام، منذ بداياته، مقدرة ملحوظة على التعايش مع الآخر". ففي أواخر القرن الفائت، كانت اسطنبول، عاصمة أكبر قوة اسلامية، تضم غالبية من السكان من غير المسلمين، ومعظم هؤلاء من الأرمن واليونان واليهود. "هل يمكننا ان نتخيل في الفترة ذاتها ان يكون نصف السكان غير مسيحيين، أي من المسلمين أو اليهود، في باريس، في لندن، في فيينا أو في برلين؟". وفي غمرة مسعاه الى مكافحة التصورات الجاهزة والسهلة يعتبر معلوف بانه لا يطلق أي حكم "إنني ألاحظ فقط بانه وجدت، على امتداد التاريخ الاسلامي، ممارسة طويلة للتعايش وللتسامح. وانني استعجل للقول بان التسامح لا يرضيني. إذ لا أرغب في ان أكون مدعاة تسامح، بل أتطلب وألحّ على ان اعتبر بمثابة مواطن كامل بغض النظر عن معتقداتي". وفي هذا السياق، يرى معلوف ان النظرة الشائعة التي تقيم بين الحركات الاصولية الاسلامية اليوم وبين الاسلام علاقة تلازم جوهري وعضوي لهي نظرة خاطئة. فالأصوليات هذه هي ثمرة تحديث مضطرب ومشوه وعنيف في وجهيه، الداخلي والخارجي. على ان كتاب "الهويات القاتلة" ليس بحثاً في المعنى الحقيقي للكلمة. فمع ان معلوف يشير في غير موضع الى ضرورة الالتفات الى الشروط التاريخية والسوسيولوجية لنشأة الهويات وصور التعبير عنها، فانه لا يتعهد كفاية دراسة هذه الشروط التي تستدعي بالضرورة مقادير أكبر من المقاربة الاناسية وغيرها. وهذا ما يدركه ويفصح عنه معلوف قائلاً بانه لم يستنفد موضوعه، بل أراد طرح بعض الافكار وتقديم شهادة والحض على النظر في موضوعات تشغله منذ زمن طويل. ونراه يلوذ بأمنية متواضعة جداً، وهي ان يكتشف حفيده، بعد ان يصبح رجلاً، كتاب جده هذا في المكتبة العائلية، وان يتصفحه مندهشاً من ان الناس في زمن جده أي في زمننا هذا كانوا يشعرون بالحاجة الى قول هذه الاشياء. أي ان أمين معلوف يحرص على وجود "إرث عمودي" ينتقل من الاجداد الى الاحفاد، مع التمني بأن يكون زمن هؤلاء بلغ درجة من "الدمقرطة" الفعلية ومن الانسانوية المعممة والمتجذرة في نسيج كل فرد بحيث يكون البيان المانيفست الحامل عنوان "الهويات القاتلة" من قبيل لزوم ما لا يلزم. وفي الامر مفارقة لها تاريخ يرقى الى ولادة المثقف اللبناني الجبلي الحديث الذي ينظر من علوّ الى "نثر" العالم مع الرغبة في التمدد الافقي في ثناياه، والرغبة هذه كما يعبّر عنها معلوف، نبيلة وفاضلة وان كانت مستعجلة. تمهيد كتاب "الهويات القاتلة" لأمين معلوف: هويتي مركّبة ومتعددة منذ ان غادرت لبنان عام 1976، كي استقر في فرنسا، كم من مرة طرح علي السؤال، مشفوعاً بأحسن النوايا وأطيبها، اذا ما كنت أشعر بانني "فرنسي بالدرجة الاولى" أم "لبناني بالدرجة الاولى". كان جوابي لا يتبدل: إنني "هذا وذاك". ولم يكن ذلك من قبيل الحرص على التوازن أو الانصاف، بل لانني سأكون كاذباً لو أجبت بشيء آخر. فما يجعلني أكون أنا نفسي وليس شخصاً آخر، هو أنني كما سبق الوصف على تخوم بلدين، ولغتين أو ثلاث، وعدة تقاليد ثقافية. وهذا بالضبط هو مناط تعريف هويتي. هل سأكون أكثر أصالة فيما لو اقتطعت جزءاً من ذاتي؟ أقول اذا بتؤدة، في معرض الشرح امام أولئك الذين يطرحون علي السؤال، بانني ولدت في لبنان، وعشت فيه حتى السابعة والعشرين من عمري، وبان اللغة العربية هي لغتي الأم، وبانني اكتشفت في ترجمات عربية اعمال الكسندر دوما وتشارلز ديكنز ورحلات غوليفر، وبأنني في قريتي الجبلية، وقرية آبائي، عرفت افراحي الأولى وأنا طفل، وسمعت حكايات معينة سوف استوحي منها لاحقاً اشياء لرواياتي. كيف يسعني ان أنسى ذلك؟ كيف يسعني ان أنفصل عنها؟ غير أنني، من جهة اخرى، أعيش منذ اثنتين وعشرين سنة على أرض فرنسا، أشرب ماءها ونبيذها، يداي تلامس كل يوم حجارتها القديمة، أكتب كتبي بلغتها، وهي لن تكون ابداً بالنسبة اليّ ارضاً أجنبية. نصف فرنسي ونصف لبناني اذاً؟ ابداً! اذ الهوية لا تتجزأ، ولا تتوزّع على انصاف، ولا على أثلاث، ولا على جهات مغلقة. ليس لديّ عدة هويات، لديّ هوية واحدة، مصنوعة من سائر العناصر التي قولبتها، وفقاً لمقادير خاصة لا يمكن ابداً ان تكون هي ذاتها من شخص لآخر. أحياناً، عندما أفرغ من الشرح، مستعيناً بألف تفصيل، عن الاسباب الدقيقة التي تجعلني أنشد بدون نقصان جملة انتماءاتي، يتقدم احدهم مني كي يهمس لي واضعاً يده على كتفي: "كنت محقاً اذا تكلّمت على هذا النحو، ولكن قل لي ما الذي تحسه في أعمق أعماق نفسك؟". هذا التساؤل اللجوج كان يجعلني أبتسم منذ فترة طويلة. ما عاد الامر يجعلني ابتسم اليوم. ذلك انه يبدو لي كاشفاً عن رؤية للبشر شديدة الانتشار، وهي في نظري خطيرة، عندما يسألني الناس عما أنا عليه "في أعمق أعماق نفسي"، فان هذا يفترض انه يوجد في "عمق أعماق" كل واحد، انتماء واحد يعتدّ به، إنه "حقيقته العميقة"، نوعاً ما، "جوهره" الذي جرى تحديده مرة الى الأبد لحظة الولادة وبانه لا يتبدّل" كما لو ان الباقي، كل الباقي - أي مساره كانسان حرّ، قناعاته المكتسبة، تفضيلاته، حساسيته الخاصة به، ميوله، حياته في المحصلة - ، لا يحسب له أي حساب. وعندما نقوم بحضّ معاصرينا على "تأكيد هويتهم"، كما يفعل الناس اليوم في معظم الاحيان، فان ما يقال لهم بواسطة العبارة المذكورة هو انه ينبغي عليهم العثور من جديد في أعماق انفسهم على هذا الانتماء الاساسي المزعوم، وهو في معظم الاحيان انتماء ديني أو قومي أو عرقي أو اتني، وان يشهروا هذا الانتماء بفخر في وجه الآخرين. كل شخص ينشد هوية أكثر تعقيداً يجد نفسه مهمشاً. الشاب المولود في فرنسا من أبوين جزائريين يحمل في نفسه انتماءين اثنين بديهيين، وينبغي عليه ان يكون قادراً على الاضطلاع بكلا الانتماءين. قلت انتماءين اثنين، على سبيل التوضيح لمقصدي، على ان مركبات شخصية لهي بالطبع اكثر من ذلك بكثير. ففي حال ما تعلّق الامر باللغة، المعتقدات، نمط الحياة، العلاقات العائلية، الاذواق الفنية أو الغذائية المطبخية، نجد ان التأثيرات الفرنسية، الاوروبية، الغربية، تختلط لديه مع التأثيرات العربية، البربرية، الافريقية، الاسلامية... وهي تجربة مثرية وخصبة في حال ما شعر هذا الشاب بانه حر في عيش تجربته بالكامل، وفي حال ما شعر بالتشجيع على تعهّد تنوعها كلها" وعلى العكس من ذلك، يمكن لمساره ان يفصح عن عوارض اضطراب نفسي اذا ما نظر اليه البعض، لدى تأكيده كل مرة بانه فرنسي، كما لو انه خائن، إن لم يكن مرتداً، واذا ما تعرض وقوبل، في كل مرة يثبت فيها روابطه بالجزائر، تاريخاً وثقافة وديانة، بعدم الفهم والحذر أو بالعداء. والوضع أكثر دقة وحساسية في الجهة الاخرى من الرين. فأنا افكّر في حالة الانسان التركي المولود منذ ثلاثين سنة قرب مدينة فرنكفورت، والذي عاش دائماً في ألمانيا التي يتكلّم ويكتب لغتها بطريقة أفضل من حالة آبائه. هذا الانسان، في نظر المجتمع الذي يحتضنه ويتبناه، ليس ألمانياً" وهو ليس تركياً بالكامل في نظر مجتمعه الاصلي. ويقتضي الحس السليم ان يقوى هذا الانسان على النشدان الكامل لانتمائه المزدوج. ولكن لا يوجد في القوانين ولا في العقليات ما يسمح له اليوم بان يتعهد في صورة متناغمة هويته المركّبة. لقد أخذت الامثلة الاولى التي خطرت على بالي. كان يسعني ان استشهد بالعديد من الامثلة الاخرى، كحالة شخص مولود في بلغراد من أم صربية وأب كرواتي. وحالة امرأة من قبيلة الهوتو متزوجة مع رجل من قبيلة التوتسي، أو العكس بالعكس. حالة أميركي من أب اسود وأم يهودية... انها حالات خاصة جداً، على ما سيقول ويحسب البعض. أنا لا اعتقد ذلك، والحق يقال. فالاشخاص القلائل الذين تحدّثت عنهم ليسوا لوحدهم اصحاب هوية مركّبة. في كل انسان تلتقي انتماءات متعددة تتعارض احياناً في ما بينها وتضطره الى اتخاذ خيارات مؤلمة. الامر بديهيّ للوهلة الاولى بالنسبة الى البعض" بالنسبة الى البعض الآخر، ينبغي بذل جهد للنظر في هذا الامر عن كثب. من الذي، في أوروبا اليوم، لا يلحظ تجاذباً آخذاً بالضرورة في التعاظم، بين انتمائه الى أمة عريقة وممتدة في الزمن - فرنسا - اسبانيا، الدانمرك، انكلترا... وبين انتمائه الى المجموع القاريّ الأوروبي الموضوع بناؤه على قدم وساق؟ وكم من الأوروبيين يشعرون كذلك، من بلاد الباسك الى إيكوسيا، بالانتماء القوي، العميق، الى منطقة، الى شعبها، الى تاريخها ولغتها؟ ومن الذي، في الولاياتالمتحدة، يستطيع بعد ان يتلمس مكانه في المجتمع من دون الرجوع الى روابطه السابقة - الافريقية، الاسبانية، الارلندية، اليهودية، الايطالية، البولونية، أو غيرها؟ أقول ذلك راغباً في الموافقة على ان تكون الامثلة الاولى التي اخترتها خاصة بعض الشيء. كلها تتعلق بكائنات تحمل في داخلها انتماءات تتصارع اليوم بعنف" كائنات حدودية في معنى ما، تخترقها خطوط التكسر الاتنية، الدينية أو غيرها. وبسبب هذا الوضع بالذات، الذي لا اجرؤ على وصفه بانه "ذو خطوة وامتياز"، أرى ان للكائنات المشار اليها دوراً تلعبه في نسج الروابط، في إزالة أشكال سوء الفهم، في ترشيد البعض، في تهدئة البعض الآخر، في تذليل الصعوبات وفي اصلاح ذات البين. انهم منذورون لكي يكونوا صلات وصل، معابر، وسطاء بين مختلف الجماعات، بين مختلف الثقافات. ولهذا الاعتبار بالضبط، فان معضلتهم مثقلة بالدلالة: إذا لم يكن هؤلاء الاشخاص انفسهم قادرين على تعهد انتماءاتهم المتعددة، واذا كانوا على الدوام ملزمين باختيار فريقهم، ومجبرين على الانخراط مجدداً في صفوف قبيلتهم، سيكون من حقنا في هذه الحالة ان نتوجس خيفة من طريقة اشتغال العالم". "ملزمون بالاختيار"، "مجبرون"، كنت أقول. مجبرون على يد من؟ ليس فقط على يد المتعصبين وكارهي الاجانب من كل نوع ولون بل على يدكم ويدي، على يد كل واحد منا. والسبب يعود بالضبط الى هذه العادات في التفكير والتعبير والمغروسة فينا بقوة، وبسبب هذا المفهوم الضيّق، الحصري، المتزمّت، المبسط الذي يختزل الهوية بكاملها الى انتماء واحد يفصح عنه في حالة من السعار. على هذا النحو أرانا "نفبرك" مرتكبي مجازر، هذا ما أرغب في قوله صارخاً! انه تأكيد فظ بعض الشيء، وأنا أوافق على ذلك، ولكن هذا ما اقترح شرحه في الصفحات التالية. عن الفرنسية: حسن الشامي