ليس في المبادرة المصرية في شأن غزة، أقله في كلام القاهرة الرسمي، سوى ما هو أمني ويتعلق بتدريب العناصر الأمنية والمدنية الفلسطينية على تسلم القطاع بعد الانسحاب الاسرائيلي المفترض منه في نهاية العام 2005، مع أن الخطوة في صورتها العامة وفي ما ستؤول اليه في النهاية لا تقل عن كونها مبادرة سياسية بامتياز. هل هذا هو السبب في تسميتها، في المرحلة الأخيرة فقط، ب"مبادرة مبارك لاحياء عملية السلام"؟!. ذلك أن ما تطلق عليه حكومة ارييل شارون اسم "فك ارتباط من جانب واحد" في قطاع غزة، اي في جزء صغير من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد نجاحها في التملص من "خريطة الطريق"، كان يحتاج منذ بداية الحديث عنه الى تغطية عربية لم ينلها من أحد قبل ان تعلن مصر مبادرتها. لم يكن الترحيب الأردني بخطة شارون الاحادية الجانب كافياً، مع ان عمان تراجعت عنه في وقت لاحق. ولم يكن الموقف الأميركي المؤيد يشكل التغطية المطلوبة، لا بالنسبة لأطراف اللجنة الرباعية الآخرين الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا ولا حتى بالنسبة لاسرائيل ذاتها. كذلك لم يكن قبول السلطة الفلسطينية بها كافياً بدوره خصوصاً بالنسبة لواشنطن وتل أبيب اللتين تصران على عدم الاعتراف بهذه السلطة وتتهمانها تارة بالارهاب وتارة بأنها ليست شريكاً يمكن التفاوض معه أو الاطمئنان اليه. ومهما قيل غير ذلك، فمن هنا بالذات جاءت المبادرة المصرية، أياً كانت صيغتها وحتى "النيات الحسنة" من ورائها، اذا كان هناك من نيات حسنة، لتشكل التغطية العربية المفتقدة. ليس ذلك فقط، بل ان ما تصفه افتتاحية صحيفة "الأهرام" المصرية قبل أيام بأنه "شروط" مصر للقيام بمبادرتها انما يكشف المضمون السياسي لهذه الحركة وان تكن الافتتاحية استهدفت أساساً ايجاد "مبررات" وطنية مصرية، وقومية عربية، للمبادرة في مواجهة الانتقادات المصرية أولاً وقبل كل شيء، حتى لا نقول الانتقادات الفلسطينية والعربية، لها. من بين هذه "الشروط"، وفق افتتاحية الصحيفة، ما يأتي: أن يكون انسحاب القوات الاسرائيلية من القطاع شاملاً وكاملاً بحيث يشمل كل المستوطنات المقامة فيه، وأن يتم هذا الانسحاب بالتنسيق مع السلطة الوطنية الفلسطينية، وأن يكون خطوة أولى في سلسلة خطوات تؤدي الى انسحاب اسرائيلي شامل من الأراضي التي تم احتلالها في عدوان العام 1967، وأن يكون دور مصر هو المساعدة على تدريب واعادة تأهيل الأجهزة الأمنية الفلسطينية على أساس أن هذه العملية تعد جزءاً مكملاً لخطوات الاصلاح الفلسطينية المقررة في نص "خريطة الطريق". ولم تقل اسرائيل يوماً الا ان انسحاب قواتها من قطاع غزة هو مجرد انسحاب جزئي بالمعنى العملي للكلمة، يحفظ لها وجوداً أمنياً في القطاع من جهة ويترك لها الباب مفتوحاً للدخول والخروج، أي للتدمير والاغتيال، تحت شعار "ملاحقة الارهابيين" من جهة ثانية، ويعزل القطاع وأهله سواء عن الضفة عبر "الجدار" البري الذي يتواصل امتداداً وارتفاعاً من ناحية أو عن الأراضي المصرية عبر "الخندق المائي" الذي قررت حكومة شارون انشاءه بعمق ما بين 15 و 25 متراً من ناحية ثانية. ولم تقل اسرائيل يوماً كذلك الا ان اخلاءها للقطاع يتم من جانب واحد، أي من الجانب الاسرائيلي، من دون أي تنسيق من أي نوع لا مع السلطة الفلسطينية التي لا تعترف بها وتحاصر رئيسها ياسر عرفات منذ سنوات في مكتبه في رام الله ولا مع فصائل المقاومة التي عمل شارون طيلة الفترة الماضية، وبمختلف الوسائل، على التدمير المنظم لبناها التحتية والاغتيال المتعمد لقادتها وكوادرها. أليس العنوان الاسرائيلي لهذه الخطة أنها "احادية الجانب"، والهدف المعلن لها أنها خطوة أخرى على الطريق اياه: "محاربة الارهاب" في قطاع غزة والضفة الغربية؟! أما عن الانسحاب الاسرائيلي الشامل والكامل من الأراضي المحتلة في العام 1967، كما تقول "الاهرام"، وعن دور مصر في تأهيل الأجهزة الفلسطينية واعدادها تحضيراً لتنفيذ "خريطة الطريق"، فتكفي للرد عليهما الاشارة الى ما كررته حكومات اسرائيل المتعاقبة من رفض كامل لهذا الانسحاب، وأخيراً الى "التحفظات" الأربعة عشر التي طوقت بها حكومة شارون عنق تلك الخريطة منذ بدء الحديث عنها، واعلانها خصوصاً بعد لقاء شارون الأخير مع الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش ان الخريطة أصبحت في حكم الميتة. ويخطئ من يظن، ولو للحظة، أن خطة "فك الارتباط" هذه، ثم لجوء شارون الى ما سماه عملية جراحية داخل حكومته لتمريرها، لا تؤكد علناً وللعالم كله ان "خريطة الطريق" لم تعد بنداً على جدول اعمال شارون، فضلاً عن أنها لم تعد بنداً على جدول أعمال الادارة الاميركية أقله في هذه المرحلة من حملة بوش للانتخابات الرئاسية. ما يريده شارون من الخطة هو مجرد "فض اشتباك" بالمعنى العملاني، وليس "فك ارتباط" كما يقول، وبه انما يحاول توجيه ضربة قاتلة للانتفاضة الفلسطينية بعد أن فشل في التعامل العسكري معها برغم الوحشية غير المسبوقة التي مارسها ضدها، وضد الشعب الفلسطيني على امتداد الأعوام الماضية. انه يريد تحويل قطاع غزة الى سجن كبير، وأهله الى مجرد نزلاء في هذا السجن، في مقابل تفكيك بعض المستوطنات غير المأهولة سوى بالمئات من المستوطنين، والتي أقيمت أصلاً من اجل المساومة عليها عندما تحين فرصة المساومة لا أكثر ولا أقل. هذا من جهة، ومن جهة ثانية لا شك في أن المصريين، ومعهم الفلسطينيون والعرب، يذكرون جيداً مقولة اسحق رابين عن "غزة أولاً"... وربما أخيراً... التي اطلقها رئيس الوزراء الاسرائيلي عشية اتفاقات أوسلو العام 1993، وأن مناحيم بيغن اعترف في مذكراته بأنه طالما حلم بأن يستيقظ ذات يوم فيجد غزة وأهلها وقد غرقوا جميعاً في البحر. ولا يختلف الأمر بتاتاً عما سعى اليه شارون في الفترة الماضية. فقطاع غزة لم يكن في أي يوم في السابق وليس هو الآن خاصة الا عبارة عن برميل بارود او "قنبلة موقوتة" وفق التعبير الاسرائيلي، وأن الاحتلال يريد ان يتخلص من هذا العبء عبر خطة "فك الارتباط" التي عمل، ونجح حتى الآن، على تسويقها في العالم الخارجي المحرج منذ أوسلو وصولاً الى "خريطة الطريق". وقد تكون الجراح الفلسطينية قد بلغت مبلغاً لم يعد ممكناً السكوت عليه او التفرج عليه بدم بارد، وهي كذلك فعلاً، وينبغي بالتالي التقاط أية فرصة متاحة لتخفيف الآلام الناتجة منها، الا أن قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة في اقامة دولته المستقلة وعلى كامل أرضه تبقى هي الاساس. ولا مبرر لتوهم، مجرد توهم، أن خطة "فك الارتباط" الشارونية هذه تصب في هذا الاتجاه. وقد تكون المخاوف المصرية، وحتى العربية، من أن يكون الهدف الآني لخطة شارون دفع الفلسطينيين الى حرب أهلية تحقق له ما لم يستطع تحقيقه عبر آلته العسكرية في القطاع، وربما في الضفة أيضاً، وراء حركة القاهرة في اتجاه المساعدة على ملء الفراغ الذي سينتج من الانسحاب. أو أن تكون المبادرة محاولة لكسب المزيد من الوقت، تقابل محاولة شارون نفسه لكسب الوقت من جهته لنفسه أولاً ولصديقه جورج بوش في معركته الانتخابية ثانياً. أو أن تكون مجرد لعب في الوقت الضائع لعل وعسى تتضح الأمور في العراق وتالياً في المنطقة من ناحية وتتحرك اللجنة الرباعية لانقاذ ما يمكن انقاذه من "خريطة الطريق" من ناحية ثانية.. لكن ذلك كله لن يقوى على الوقوف، بل هو يتهافت تلقائياً، أمام خطورة الخطة التي وضعها شارون وطوقها، مجدداً كما فعل مع "خريطة الطريق"، بسلسلة من القيود التي تهدد في كل مرحلة من مراحل التنفيذ المديدة بخنق الخطة تماماً ونهائياً. فليس مقبولاً، يقول شارون، أن تلعب مصر دور الوسيط بينه وبين السلطة الفلسطينية التي لا يعترف بها ولا يقيم لها أي وزن في "فك الارتباط من جانب واحد"، ولن يكون ممكناً، يقول ايضاً، الانتقال من مرحلة الى مرحلة أخرى في التنفيذ الا من خلال التصويت عليها من قبل الحكومة التي اضطر الى اقالة وزيرين منها لزوم تمرير المشروع في صيغته الأولية، أما المدة الزمنية لاكتمال الخطة - اذا حدث واكتملت - فهو عام ونصف العام.. أي تماماً عند نهاية العام 2005 الذي وعد بوش بأنه سيكون عام قيام الدولة الفلسطينية المستقلة التي تعيش جنباً الى جنب وبسلام مع اسرائيل. في خطة شارون ان هذا العام سيكون عام "فك الارتباط" الاسرائيلي مع غزة، والسؤال هو: أين ستكون مبادرة مبارك عندها، وأين سيكون وعد بوش بدوره؟!. * كاتب لبناني.