"الاستشراق"، أو Orientalism، معرفة موضوعها الشرق، ينتجها غالباً غير الشرقي عن هذا الشرق الذي يضيق ويتسع بحسب منظور منتج هذه المعرفة المحفوزة بالفضول حيناً، وبالخوف حيناً آخر، فضلاً عن الحاجة، التي هي ام الاختراع، والتي تفرضها المواجهة العريقة المتجددة بين الشرق من جهة ومجتمعات غير الشرقي من جهة اخرى. والمقصود بهذه المعرفة ليس الشرق وأهله، لأنها إنما انتجت لتخدم مجتمعات منتجيها في مواجهاتها للشرق، وبلغات تفهمها هذه المجتمعات، ومن خلال إطار مرجعي تعقله، وهذا أمر طبيعي في ضوء حقيقة ان هذه المجتمعات هي مموّلة عملية انتاج هذه المعرفة، وهي المشرفة عليها، والمتحكمة بها، والمفيدة منها. والاستشراق بصفته: "معرفة ينتجها في الغالب الآخر/ الخارجي/ الغربي عن الشرق وأهله: تواريخ وثقافات ومجتمعات ودولاً وقضايا راهنة، بلغة غير لغاتهم، ولمجتمع غير مجتمعاتهم، تحفزه الرغبة في مساعدة مجتمعه على حماية مصالحه البعيدة والقريبة في هذا الشرق في اية علاقة يقيمها معه، وعلى اي مستوى من المستويات أو في اي وجه من وجوه الحياة الإنسانية"، يستدعي سؤالاً يبدو طبيعياً الى درجة البداهة يمكن صوغه على النحو الآتي: ما الذي يعنينا - نحن الشرقيين - فيه؟ ولماذا يعنينا في المقام الأول، وبخاصة انه غير موجه إلينا اصلاً، ولا يروقنا على وجه الإجمال؟ إننا بداية لا نجد انفسنا فيه. وهل ثمة شرقي يمكن ان يقبل صورته التي تتبدى فيه دون ادنى تحفظ؟ وبخاصة انها صورة محفوزة بمواقف مسبقة املاها تاريخ معقد من الصراعات والمواجهات بين الشرق والغرب، فضلاً عن صدورها عن رواسم Stereotypes مستمدة من "التوراة" و"ألف ليلة وليلة"، ناهيك بعد ذلك عما يحكمها من اهواء ورغبات وصورة المرأة العربية المسلمة مثال صارخ تحفل به كتب الرحالة الغربيين عن الوطن العربي. والاستشراق "معرفة" موظفة لمصلحة منتجها الذي يحسن الإفادة منها في اية مواجهة تقوم بيننا وبين مجتمعه. وقد استخدم منذ نشأته في احتوائنا، واستغلال خيراتنا، والحد من تطلعاتنا، وتقليم طموحاتنا إن لم يكن إحباطها، ولا يزال يُستخدم في التحكم بمقدراتنا وتقرير مصائرنا. وفضلاً عما تقدم، فإن هذه "المعرفة" لم تسهم في خلق تفاهم افضل بين الغرب/ منتجها من جهة، وبين "الشرق" و"الإسلام" من جهة اخرى. ويفترض بالمعرفة ان تبدد العداوة، إذ "الناس اعداء ما جهلوا"، ونحن ما فتئنا نراها تؤجج نار العداوة والبغضاء والكراهية بين الإسلام والغرب في شكل خاص، وبين الشرق والغرب في شكل عام. إن الاستشراق، وباختصار شديد، "معرفة" ملوثة بفيروس "القوة" و"السلطان" Power الذي استوطن على نحو مزمن، ولا سيما في القرون الثلاثة الأخيرة، صلات الشرق بالغرب، ولذلك فإنه يبدو، للكثيرين من العرب والمسلمين والشرقيين عامة، معرفة إشكالية ينبغي ان تخضع للمساءلة من جميع المتصلين بعملية انتاجها. ولكن هل يعني ذلك اننا نستطيع تجاهلها او الإعراض عنها مستندين في موقفنا هذا الى ما تقدم من حديث برقي عن الثغرات التي تنطوي عليها؟ الجواب بالتأكيد هو بالنفي. وموجباته كثيرة ربما كان من ابرزها امران: أولهما ان علاقاتنا ب"الآخر" الغربي وسواه محكومة - شئنا ام أبينا - بسابق تصوراته عنا، ولا سبيل البتة الى تغيير طبيعة هذه العلاقات من دون العمل في شكل ايجابي وفاعل على تغيير هذه التصورات التي انحفرت في اللاوعي الجمعي الغربي عنا، والتي لا تفتأ وسائل الإعلام المختلفة، وقد اصبحت اليوم ذات سلطان لا يقاوم، على بعثها وتجديدها ودوام بقائها بشتى السبل. ومعنى هذا اننا معنيون في شكل مباشر بالاستشراق وما ينتجه عنا من "معرفة" مغرضة تستخدم سلاحاً ضدّنا، ومسوّغاً لفرض إرادة "الآخر" علينا بحجة اننا، بطبيعتنا، معادون للغرب، وللتقدم، وللتحديث، وللسلام، والديموقراطية، والمساواة بين الرجل والمرأة في المجتمع الإنساني، وغير ذلك من اوهام وأساطير استطاعت وسائل إنتاج المعرفة ونشرها في الغرب ان ترقى بها الى مستوى المسلمات التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. والاستشراق ليس المصدر الذي ينهل الغرب وحده منه في بناء تصوراته عنا، بل هو كذلك مصدر سائر امم العالم وشعوبه التي باتت تعتمد على المعرفة الغربية وتثق بها، في تشكيل تصوراتها عن العرب والإسلام والمسلمين. وبالتالي فإن معرفة "الآخر" غير الغربي بنا محكومة بالاستشراق. والمفارقة التي تدعو الى الأسى ان المجتمعات الإسلامية والعربية تعتمد في تعارفها في ما بينها على هذا التقليد الثقافي تنهل منه وتعل، لتوافره ويسر الحصول عليه ولا سيما المنشور باللغة الإنكليزية التي باتت لغة كوكبنا الأرضي Global Language. وقد تبين الكيان الصهيوني اهمية هذا المصدر من مصادر المعرفة عن العرب والمسلمين والإسلام فانخرط، من خلال مؤسسات الاستشراق الغربية، في عملية انتاج معرفة مغرضة عنهم تخدمه في مواجهاته لهم وتساعده في تسويغ ما تجترحه يداه من قهر وظلم وجرائم حرب. وثانيهما ان هذا التفنيد الثقافي الموسوم ب"الاستشراق" تقليد حيّ تنتجه امم حية تجلُّ المعرفة فتحرص على تنمية إنتاجها ونشرها والإفادة منها بجعلها خير ضمان لمصالحها، وهي لذلك تُخضعه باستمرار للمراجعة والنقد والتطوير. والمتتبع لتاريخ هذا التقليد وبخاصة في العقود الأخيرة يتبين انه قد خضع لتحولات ايجابية كثيرة يسّرت فسحة اوسع لنا، نحن الداخليين من العرب والمسلمين والشرقيين، للإفادة منه في الجوانب المختلفة لعملية التنمية الشاملة التي نطمح إليها، ولما كان المقام لا يسمح بالحديث مطولاً عن هذه التحولات فإن بإمكان المرء ان يشير الى اهمها على نحو شرقي فيذكر على سبيل المثال: انفتاح الاستشراق على التطورات الأخيرة والراهنة في مختلف الميادين. انفتاح الاستشراق على موضوعه: لغة وحياة وتواصلاً مستمراً معه ومع ما ينتجه من معرفة تتصل بتاريخه وثقافته. استجابة الاستشراق المتنامية لما وجّه الى نتاجاته من نقد داخلي وخارجي ولا سيما في ربع القرن الأخير الذي تلا نشر كتاب ادوارد سعيد "الاستشراق" نشر عام 1978. ازدياد اسهام الداخليين من العرب والمسلمين فيه - الأمر الذي أثر في نوعية ما ينتجه من معرفة باتت تتسم بعلافة اكثر حميمية بموضوعها تتحدى خارجيته وانسلاخه عن هذا الموضوع. تطور مؤسسات الاستشراق وبناه على مختلف الصعد الى درجة جعلت من المصطلح ذاته "الاستشراق" - في نظر البعض - مصطلحاً عفا عليه الدهر. وصفوة القول إن علينا - نحن العرب ان نعمّق هذه التحولات الإيجابية ونعززها مع "الآخر" الغربي بخاصة، والخارجي بعامة، بغرض إنتاج معرفة تتسامى على واقع المعرفة الاستشراقية الراهنة، وتسعى الى تحقيق غايات اسمى من المصالح الدنيوية الآنية التي تهيمن عليها - غايات ربما كان من اهمها خلق تفاهم اوسع وأعمق بين الغرب والإسلام مؤسس على المعرفة الموضوعية. * أستاذ الأدب المقارن والنقد الحديث في جامعة دمشق.