في رؤيتنا لسياسات وبرامج وأساليب الأدارة الأميركية الحالية هناك اغراء متعجل بالنظر اليها بعيون منافسيها الانتخابيين . الجنرال ويسلي كلارك مثلاً أحد المتطلعين الى البيت الأبيض مرشحاً عن الحزب الديموقراطي قال اخيراً: "أعتقد أننا نتعامل مع الادارة الأكثر انغلاقاً وامبريالية وقذارة بمقدار ما تعي الذاكرة". لكن مثل هذا التقويم - ويشاركه فيه كل مرشحي الحزب الديموقراطي تقريباً - يجري في اطار حملة انتخابية رئاسية تزداد سخونتها في الطريق الى شهر تشرين الثاني نوفمبر المقبل وليس بالضرورة أن تكون كلمات المرشحين أثناء الحملة الانتخابية هي نفسها بعد الوصول الى البيت الأبيض. ربما يكون الأفضل هنا هو أن نأخذ هذه الادارة الأميركية الحالية بكلماتها هي وبلسان بعض أركانها المعتمدين. من هؤلاء مثلاً ريتشارد بيرل العضو في المجلس الاستشاري في وزارة الدفاع الأميركية وبعض الأعلام الأوروبي - بالاضافة الى بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع الأميركي - يعطيهما أهمية تفوق بين وقت وآخر الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد. ربما لأنه جزء فعال من المطبخ السياسي لهذه الادارة، أو ربما لأنه أحد مخططي الغزو الأميركي للعراق، أو ربما لأنه يفصح علناً عن أفكار وبرامج ورؤى ترغب الادارة في تسريبها. من تلك الأفكار مثلاً ما كتبه ريتشارد بيرل اخيراً عن الأممالمتحدة، فهو يرى أن: "الأممالمتحدة في أحسن الحالات بلا قيمة بالنسبة الي تهديد الارهابيين الذي هو أكبر مصدر لقلقنا، وفي أسوأ الحالات هي عائق أمام تحقيق انتصارنا على الأرهاب، لذلك يجب أن يعاد تشكيلها. واذا لم يكن اصلاحها ممكناً فإن على الولاياتالمتحدة أن تضع في اعتبارها فكرة الانسحاب منها. لقد أصبحت الأممالمتحدة عائقاً أمام أمننا القومي بسبب فرضها قيوداً قانونية على قدرة الولاياتالمتحدة للدفاع عن نفسها". اذن، وبصريح العبارة، يرى هذا المسؤول الفصيح في جماعة "المحافظين الجدد" أن على الأممالمتحدة أن تتغير بما يناسب أميركا أو تنسحب أميركا من الأممالمتحدة. من الآن فصاعداً لم تعد السياسة الأميركية تطيق أي قيود من المشروعية الدولية على برامجها. بالتالي: بلاها الأممالمتحدة! أو فلنأخذ تشخيصاً آخر لريتشارد بيرل يتعلق بحلفاء أميركا التقليديين في أوروبا حيث صرح اخيراً بأن "نهاية الحرب الباردة حررت الولاياتالمتحدة بما يجعلها تصبح أقل قلقاً واهتماماً بأوروبا. في السابق كان أي شيء يثير الأنقسام بين الولاياتالمتحدة وأوروبا خطيراً جداً. وبينما سنفضل علاقة وثيقة مع أوروبا، إلا أن علاقة كهذه لم تعد حيوية "بالنسبة الى الولاياتالمتحدة حالياً ومستقبل،. خصوصاً أن "الأوروبيين ليسوا مستعدين لزيادة موازناتهم العسكرية"... اذن: بلاها أوروبا! ولأن العلاقة الأميركية مع أوروبا متعددة الظلال إذ أن بريطانيا مثلاً أكثر قرباً من الولاياتالمتحدة مع شعرة معاوية مع أوروبا سعياً الى الحسنيين، فإن بيرل يقول إن على بريطانيا من الآن فصاعداً أن تحتفظ لنفسها بمسافة استراتيجية بعيداً عن أوروبا. واذا لم تفعل ذلك؟ بلاها بريطانيا! هل تنتهي القائمة عند هذا الحد؟ أبداً. القائمة تطول وتطول ومن أجل ذلك أصدر ريشارد بيرل اخيراً - بالاشتراك مع ديفيد فروم الكاتب السابق لخطابات الرئيس جورج بوش - كتاباً تحت عنوان "نهاية الشر: كيف نكسب الحرب على الارهاب". كتاب في 284 صفحة لكنها عند هذين النجمين الصاعدين ضمن "المحافظين الجدد" في واشنطن كافية لتحويل العالم كله الى أشلاء وشظايا لأن هذا هو ما يناسب البرنامج السياسي الأميركي الجديد. روسيا مثلاً عليها أن تتوقف فوراً عن "سياسة الوجهين" وتقر مرة أخيرة ونهائية بالخضوع لقيادة أميركا. هذا والا فهناك عقوبات محددة في الطريق. فرنسا أيضا يجب تصنيفها كعدو اذا لم تغير خطابها السياسي وتتوقف عن السعي الى تحويل أوروبا لتصبح قوة موازية للولايات المتحدة. والأممالمتحدة عليها أن تعدل ميثاقها بما يعطي لأميركا حق وسلطة شن الحروب الوقائية الاستباقية حينما وحيثما يناسبها ذلك حول العالم.. وبغطاء دولي. وبعد أن قام المؤلفان بذبح الأممالمتحدة في أقل من سبع صفحات" وذبح روسيا في أقل من ثلاث صفحات" والقضاء على طموح أوروبا بالتوحد في ما هو أقل من ذلك تتطاير الطلقات عبر الكتاب الى دول العالم باتساعه. كوريا الشمالية مثلا عليها أن تتراجع عن تسلحها النووي وإلا فالحصار الأميركي واجب وبعده الضرب عسكرياً. سورية عليها الخروج من لبنان وتغيير سياساتها واقتصادها ضمن طلبات اضافية. السعودية يجب تقسيمها. ايران لا بد من قلب نظامها. وبصفة شاملة فإن على أميركا - هذه الأميركا بقيادة المحافظين الجدد هؤلاء - أن تدرك أنها في حالة حرب شاملة مع الاسلام الراديكالي لأنه يسعى الى تدمير الحضارة الغربية.. وهو ليس مجرد جماعات صغيرة معزولة وانما جماعات تتمتع بمساندة شعوب ودعم دول مارقة. وبالإجمال فإن: "المتطرفين الدينيين والمتشددين العلمانيين والسُنة والشيعة والشيوعيين والفاشيىن" - كلهم في خيط واحد - يندمجون مع بعضهم البعض ليشكلوا خطر المستقبل على أميركا. وحتى من غير خطر فإن على الدول الاسلامية أن تغير مناهجها التعليمية وقيمها الاجتماعية بما يناسب الأولويات الأميركية المستجدة. لكن برنامج "المحافظين الجدد" هذا كما يعرضه كتاب ريتشارد بيرل وديفيد فروم لا يخلق لأميركا أعداء في الخارج فقط وانما في الداخل أيضا. من هنا يريد المؤلفان اعادة تنظيم وزارة الدفاع الأميركية والقفز بميزانيتها العسكرية بأكثر مما تحقق حتى الآن رغم أن الموازنة العسكرية الأميركية أصبحت تتجاوز كامل ميزانيات الدول الخمس عشر التالية عالميا.. مجتمعة. وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وادارة المباحث الفيدرالية لا بد من اعادة تنظيمهما تخلصا من كل من لايساير الموجة الجديدة. أما وزارة الخارجية الأميركية فهي في هذا الكتاب ترتكب جريمة كبرى إذ أصبحت تمثل العالم لدى أميركا بدلا من أن تمثل أميركا لدى العالم. بالطبع لا ينسى ريتشارد بيرل لوزارة الخارجية "جرائم" أخرى مثل تحفظها على أحمد الجلبي المعارض العراقي في المنفى سابقاً والعضو حالياً في مجلس الحكم الانتقالي في بغداد لأنه صديق حميم لريتشارد بيرل نفسه أما الجريمة الأكبر لوزارة الخارجية عند بيرل وشريكه في الكتاب فهي تأييدها لإقامة دولة فلسطينية... وحجتهما المفحمة هي أن أي تسوية سياسية في فلسطين لن تؤدي الى نهاية طلبات "الارهابيين". في الكتاب عناوين وبرامج وجدول أعمال وكثيرين من الشياطين باتساع العالم كله. وبعد الكتاب أجد في نفسى صدى بعيد لآخر مرة جرى استخدام مثل هذا القاموس في السياسة الأميركية . أقصد الحملة التى شنها عضو مجلس الشيوخ الأميركي جوزيف مكارثي في العام 1950 بحجة التصدى للشيوعيين وجواسيسهم وعملائهم... ودفعت أميركا في الداخل ثمناً باهظاً لها تفضل حالياً أن تنساه. مع ذلك فبين وقت وآخر يشعر بعض الرؤساء الأميركيين بالحنين والحاجة الى طبعة جديدة من مكارثي والمكارثية. الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون مثلاً قال ذات مرة لمساعديه القريبين ان ادارته في حاجة الى شخص: "يكون سافلاً ووضيعاً وكاذباً وعديم الرحمة ولا يتورع عن قول أو فعل أي شيء. شخص من نوع مكارثي "لزوم السلوك الذي لا تريد الادارة تحمل مسؤوليته رسمياً. هل ريتشارد بيرل هو مثل هذا الشخص بالنسبة الى الادارة الأميركية الحالية؟ ربما. لكن حتى نقطع الشك باليقين نذهب الى كتاب آخر صدر اخيراً" وأيضاً من حليف للأدارة الأميركية الحالية، أو كان كذلك بالنسبة لها طوال 23 شهراً عمل فيها وزيراً للخزانة في حكومة الرئيس جورج بوش الحالي. الكتاب بعنوان "ثمن الولاء". وبصفته وزيرا للخزانة فإنه كان أيضاً عضواً في مجلس الأمن القومي الذي هو المطبخ الحقيقي للسياسات الأميركية الفعلية وغير المعلنة وبرئاسة جورج بوش نفسه. في الكتاب يرسم لنا الوزير الأميركي السابق شخصية جورج بوش كما رآه وتعامل معه.. فهو رئيس سلبي مسطح التفكير يفتقر الى العمق الفكري أو حتى مجرد حب الاستطلاع لمعرفة النتائج المترتبة على أي سياسة مقترحة. ومساعدوه كل همهم هو تحسس رغباته للسعي الى تنفيذها بغير مناقشة أو تبصر للعواقب. انه باختصار كما الأعمى وسط طرشان فاقدي السمع. يكشف الوزير أيضاً أنه في الاجتماع الأول الذي ترأسه جورج بوش لمجلس الأمن القومي يوم 30 كانون الثاني يناير 2001 يعني بعد عشرة أيام من توليه منصب الرئاسة أبلغ فريقه بقرارين. أولاً - تنحية كل ما يتعلق بعملية السلام بين العرب واسرائيل جانبا حتى لو كان هذا يعني اراقة المزيد من الدماء، ثانياً - التركيز على العراق وضرورة غزوه عسكريا... وكل ما أشار به الرئيس لمساعديه يومها هو: "اذهبوا واعثروا لي على طريقة لتنفيذ ذلك". كان هذا قبل أحداث 11 ايلول سبتمبر بتسعة شهور. وكما يقرر الوزير السابق في الكتاب فإنه لم يكن هناك أي دليل - لا في 30 كانون الثاني يناير 2001 ولا بعدها - على وجود خطر عراقي على أميركا ولا على حيازة العراق لأسلحة دمار شامل من أي نوع أو حتى معلومات استخباراتية في هذا الاتجاه. الكتاب يكشف أيضا عن وجود خطة أميركية من قبل الغزو الفعلي لتحديد مصير العراق فيما بعد صدام حسين، والأكثر أهمية خطة بتحديد مصير البترول العراقي بعد وضع اليد أميركيا على العراق. الصورة أيضاً في هذا الكتاب لا تبدو مروعة لنا من حيث تهور هذه الادارة خارجياً فقط.. وانما داخلياً أيضاً. فبصفته وزيرا للخزانة تحفظ بقوة على الاعفاءات الضرائبية التى تريدها الادارة لحساب الأغنياء والشركات الكبرى التي مولت حملة جورج بوش الانتخابية، مشدداً على تأثير تلك الاعفاءات سلبياً على عجز الموازنة الأميركية . لكن ديك تشيني نائب الرئيس رفض كل تحفظ بحجة أن عجز الموازنة ليس مهماً بقدر أهمية أن تكافئ الادارة أنصارها الذين دعموها. من المهم هنا أن نتذكر أن بول أونيل وزير الخزانة هذا ليس معارضاً سياسياً للرئيس جورج بوش كما الديموقراطيين، فهو أساسا عضو في الحزب الجمهوري ويميني محافظ وكان مسؤولاً سابقاً في ادارتي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، تماماً كصديقه وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد الذي اتصل به مرتين ليمنعه من اصدار هذا الكتاب... بلا جدوى. في خلاصة الكتاب يخرج المرء بانطباع مؤكد بأن هذا الرجل اليميني المحافظ الرأسمالي الأميركي يحس بالحسرة بأكثر من المرارة. الحسرة من أن "المحافظين الجدد" سيطروا في ظل هذه الادارة على سياسات أميركا الخارجية والداخلية، وجعلوا أميركا عملياً تصبح هي حقاً الدولة المارقة المعزولة خارجياً والأكثر انقساماً داخلياً. هذا الوزير السابق في ادارة جورج بوش لمدة 23 شهراً - بول أونيل - اختار الإفصاح علناً عن ما شاهده وعانى منه مع معرفته مسبقا بأنه تأكيداً سيتعرض لانتقام من البيت الأبيض، لأن الولاء الأكبر في تقديره يجب أن يكون للحقيقة قبل أي ولاء آخر. وفي نهاية الكتاب يقول أونيل عن رجال هذه الادارة داخل البيت الأبيض وخارجه حرفياً: "هؤلاء الناس قذرون ولهم ذاكرة طويلة جداً... لكنني رجل عجوز... وغني... وليس هناك شيء يستطيعون عمله لإيذائي". لكن السعي الى إيذائه بدأ في التوّ حتى من قبل طرح الكتاب في السوق الأميركية في 14 كانون الثاني يناير. لقد أعلنت الادارة عن فتح تحقيق رسمي بحجة أن الوزير السابق نشر مستندات رسمية تكشف أسراراً عليا ليس من حق الرأي العام معرفتها. في الوقت نفسه أعلن الرئيس جورج بوش في خطابه الأخير عن "حالة الاتحاد" أمام الكونغرس أنه سيطلب تمديد العمل بقانون الطوارئ القانون الوطني لفترة أخرى. ذلك القانون يفرض - مثلاً - على المكتبات الأميركية أن تخطر أجهزة المباحث والاستخبارات أولاً بأول بكشوف أسماء المترددين عليها وعناوين الكتب التي اشتروها أو حتى استعاروها. * كاتب مصري.