سواء صدقت الوعود الاميركية وتبلورت المبادرات البريطانية، او بقيت الدولة الفلسطينية الموعودة رهينة للتزييف والاقتطاع فان المصلحة الفلسطينية تتطلب في هذا المنعطف توافق جميع الفصائل الفلسطينية على تعليق كل انواع المقاومة العسكرية للاحتلال في رهان مدروس وتعهد قاطع لفترة سنة. بعدها، يمكن اعادة جرد الحسابات في ضوء ما سيحصل ليس فقط على المسار الفلسطيني الاسرائيلي، انما ما سيجدّ في العراق ومحيطه حين تخوض الادارة الاميركية حرب الارهاب ومشروع الديموقراطية لتغيير المنطقة جذرياً وحيث تتشارك المقاومة والارهاب في مشروع استنزاف الاميركيين في حرب جديدة من نوعها في عقر الدار العربية. محنة العراقيين معقدة لدرجة لا تجعلهم امام خيار الآن بعدما بات العراق ساحة لحروب الآخرين، لكن يوجد امام الفلسطينيين وكذلك السوريين خيار يضعهم في موقف افضل في حال انتصرت ادارة جورج دبليو بوش في العراق او انهزم المحافظون الجدد فيه بعدما صنعوا له حرباً مدمرة. هذه مرحلة مختلفة في الوضع الفلسطيني. البعض يتفاءل بأن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يدفع جورج دبليو بوش وادارته نحو معالجة النزاع الفلسطيني الاسرائيلي كأولوية كي يكون في الامكان الانتصار في الحرب على الارهاب. يتفاءل لأن وزيرة الخارجية المرشحة كوندوليزا رايس لمّحت الى انها تعتزم الخوض في البحث عن تسوية تفاوضية ولأن رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون هو اول مسؤول اسرائيلي يتناول مسألة المستوطنات واجلاء المستوطنين. لكن البعض الآخر وهو الاكثرية، لا يشاطر هذا التفاؤل بل يعتقد ان شارون لن يسمح ابداً واطلاقاً بقيام دولة فلسطينية قابلة للعيش باستقلالية على اساس حدود 1976 حدود الهزيمة العربية والانتصار الاسرائيلي في تلك الحرب. الارجح، حسب هذا البعض، ان يدفع شارون نحو دولة فلسطينية ناقصة ومبتسرة وان توافق له عليها الادارة الاميركية وكذلك الحكومة البريطانية وان تجبر هذه الاطراف السلطة الفلسطينية على القبول بمثل تلك الدولة مكرهة ومجبرة. لذلك، يقترح فلسطينيون وعرب تأجيل العمل نحو حل آني للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي لأن الوضع غير مناسب للتوصل الى حل نهائي في هذه المرحلة. يرى هؤلاء ان"اندفاع"شارون وبلير وبوش نحو"الدولة الفلسطينية الآن هدفه محو حق العودة للاجئين وابتلاع القدس وتحويل القضية الفلسطينية الى مجرد نزاع بلا جدوى على الارض لتعديل الحدود لاحقاً. ويدعو بعض الفلسطينيين بقية العرب الى الكف عن التحدث عن ضرورة التوصل الى حل للقضية الفلسطينية كأولوية ضرورية ويقول ان في امكان الفلسطينيين المضي في العيش تحت الاحتلال، فليكف الديموقراطيون العرب عن المناداة بحل للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي فوراً. ما يجمع هؤلاء العرب والفلسطينيين مع المحافظين الجدد الاميركيين الذين يريدون وضع هذا النزاع في درجة منخفضة من سلم الاولويات هو فكرة تأجيل العمل على حل تفاوضي كأولوية كل لأسبابه المختلفة. كما ان الكفاح المسلح الذي يصرّ بعض الفلسطينيين على ممارسته في هذه المرحلة هو تماماً ما يريده المحافظون الجدد والاعتذاريون لاسرائيل وارييل شارون وجماعته لأسبابهم الخاصة. فهؤلاء يريدون ان يحافظوا على"كنز"دمج شبكة"القاعدة"مع المنظمات الفلسطينية في خانة الارهاب ليستمر"انجاز"التوأمة الاميركية الاسرائيلية في الحرب على الارهاب. هؤلاء يتمنون ان يستأنف الفلسطينيون الكفاح المسلح وان يكون له طابع العمليات الانتحارية وكل ما يمكن تصنيفه ارهاباً، وهناك بينهم من سيعمل على استفزاز الفلسطينيين ليقوموا تماماً بتقديم هذه"الهدية". الافضل للفصائل الفلسطينية حجب"الهدية"من دون التخلي عن امكان العودة الى خيار الكفاح المسلح، اذا فشل المسار التفاوضي. احد اخطاء مختلف القيادات الفلسطينية في السنوات الماضية هو اقتناعها ان في الامكان المضي في المسارين التفاوضي والانتفاضي معاً لزمن مفتوح وقد حان الوقت للكف عن هذه البدعة المؤذية. فمن المصلحة الفلسطينية العليا اعطاء التفاوض مهلة وافرة الآن من دون التعكير عليه بانتفاضة او بكفاح مسلح او بعمليات انتحارية. السبب ليس الايمان بأن الحل العادل آت وبأن الجهود البريطانية ستُثمر. فليس هناك ما يعد بحل عادل او بقيام دولة فلسطينية في اواخر 2005 كما وعدت"خريطة الطريق". السبب هو ان من المصلحة الفلسطينية التوقف عن التنازع على القرار والسلطة على حساب الشعب الفلسطيني والاتفاق على اعطاء الحكومة التي ستُنتَخب الشهر المقبل المقومات للبناء على ما يسمى"الفرصة المتاحة"وعلى الجهود الدولية المبذولة. فاذا تمكنت هذه الحكومة من التفاوض من دون ان تضعفها العمليات الارهابية ستتمكن من فك التوأمة الاسرائيلية الاميركية بما يُعيد القضية الفلسطينية الى حقيقة كونها نزاعاً سياسياً وقضية احتلال بدلاً من ان يستمر تآكلها في قفص الارهاب. واذا ما توقفت العمليات الانتحارية فيما تستقصي السلطة الفلسطينية آفاق التسوية السلمية يمكن بناء رأي عام عالمي ضروري للضغط الفعلي على اسرائيل بغض النظر عمن ينتصر في العراق. فالثلاثي الاميركي، اي، المحافظون الجدد والاصولية الدينية اليمينية ومجمّع الصناعات العسكرية، يقرّ بأن حرب العراق حاسمة له. فإما ان"ينتصر"ويقتحم المنطقة اجمع بمشروع"الترانسفورميشن"او"ينهزم فيصبح انعزالياً اما بغضب ومرارة يتوعد بأن يكونا مكلفين لبقية العالم. وهذا الحسم بين النصر والهزيمة آت بالتأكيد في غضون سنة والافضل للفلسطينيين الانتظار انما باستثمار وباستثمار ذكي. احياناً، قد يكون على متن المغامرات والتهورات او الاستراتيجيات والمشاريع المدروسة فرص يمكن توظيفها لتعمل اما ضد غايات اصحاب التهور، او بتحويل وتغيير يسبق ان المشاريع المتهورة. هذا ما على العرب، دولاً وحكومات وشعوباً، التفكير فيه في عهد المشاريع المتضاربة. مشروع التدمير الذي تتبناه شبكة"القاعدة"وامثالها ليس مثالاً يُقتدى به ولا برنامجاً سياسياً مطمئناً للعقود الآتية في العراق يتلاقى التمرد مع"القاعدة"وفروعاتها ويختلط بالمقاومة للاحتلال وللمشاريع الاميركية، هناك في العراق تتصادم المشاريع وتقع حرب الارهاب بين القوات الاميركية وبين قوات مبعثرة لفترة طويلة آتية تسبق الانتخابات الشهر المقبل وتليها. جيرة العراق منشغلة بنفسها وببقاء الانظمة فيها. ايران تنسج مشروعها الخاص في العراق وعبره وهي تستعد لتهور اميركي او اسرائيلي ضد منشآتها النووية يدعو اليه المحافظون الجدد. سورية تتساءل ماذا في ذهن الاميركيين وما يرضيهم، وما هي الخطوط الحمر لهم. فيما تبعث الرسائل بأنها على استعداد للاصغاء. خيار اللعب بتداخل على اوتار منطق التفاوض ومنطق المقاومة تبخّر ولم تعد دمشق تمتلك الاوتار. انها الآن تحت المراقبة والانذار وهي متبعثرة في البحث عن الاولويات في المطالب الاميركية منها. فالاسلوب السوري التقليدي في فهم الرسائل وبعثها تعطّل في زمن الديبلوماسية غير التقليدية. دمشق افترضت خطأ ان الادارة الاميركية ستكتفي بتعاون سوري على الحدود العراقية السورية وضد الارهاب لتعفيها من المحاسبة في لبنان. دمشق تظن الآن انها قادرة على الطيران على جناح ايران الى ما يُسمى"الهلال الشيعي"باعتبار سورية عنصر وصل مهم الى"حزب الله"في لبنان. لكن مثل هذا التصور ينبه سورية بدوره الى عقبات عدة، فسورية لدى الولاياتالمتحدة الاميركية عموماً والادارة الحاكمة خصوصاً ليست ايران، المهمة والضرورية حتى لو وقع العراق في احضان ايران. سورية، في رأي الاميركيين، عقبة ويمكن التعامل معها اما ايران فهي حاجز من الضروري اخذه في الاعتبار. ثم ان ايران ليست عربية في زمن يعتلي فيه العرب قائمة اولويات الاعداء الارهابيين، من وجهة النظر الاميركية. لكل هذه الاسباب، يجب على سورية فك الخناق عن لبنان والكف عن التهديد والعقاب اذ انهما سينقلبان عليها. دمشق تعبّر لعواصم عدة عن استعدادها لخوض اللعبة بمعطيات جديدة على كل المسارات باستثناء لبنان. تقول انها جاهزة لمفاوضات مع اسرائيل، من اية نقطة كانت وليس من حيث توقفت. تتعهد المزيد من العمل لمكافحة الارهاب ولتوطيد اواصر التعاون على الحدود العراقية السورية ضمن الآلية الاستخباراتية الاميركية السورية العراقية وغيرها. تستعد لاغلاق مكاتب واحتواء منظمات وافراد فلسطينيين داخل سورية وربما ايضاً في لبنان لكنها متحجرة في التلاعب عندما يتعلق الامر بنفوذها ووسائل نفوذها عبر السلطات الامنية في لبنان رغم انها تخاف وتخشى ما سيأتي عليها به القرار الدولي 1559 الذي طالب بانسحاب جميع القوات الاجنبية من لبنان وفك الميليشيات والكف عن التدخل الخارجي في الشؤون السياسية اللبنانية. هذا القرار رابط مهم بين ما تريده الاسرة الدولية وبين ما يريده الداخل اللبناني انه قرار دائم لن يُمحى لأن الرغبة بمضمونه عارمة. ومن الضروري لدمشق ان تفهم ان هناك لقاء على تفصيل بين مشروعين هو فك الارتهان السوري للبنان. تعطيل هذا التفصيل سيشل التصادم القادم بين المشروع الاميركي لضرب سورية والمشروع اللبناني العربي المعارض له. عندئذ تكون سورية حقاً في عزلة عربية بشماتة اميركية واقليمية. استباق المشاريع الخارجية باجراءات تحتويها وتعطلها اصبح ضرورة ملحة للمنطقة العربية. فلسطين وسورية في المقدمة وامامهما اكثر من خيار.