أدخلت الحرب على الارهاب القارة الآسيوية الى مرحلة ملفتة من العلاقات الاقليمية والثنائية، سيما لجهة المسؤوليات الأمنية والسياسية في ملفي افغانستان والنزاع العربي - الاسرائيلي. ومع سقوط كابول هذا الاسبوع بدأ توزيع الأدوار بما أوكل نسج العلاقة السياسية الى الدول المجاورة لافغانستان وحياكة المساهمة الأمنية الضرورية الى الدول الاسلامية الأبعد جغرافياً عنها. فالولاياتالمتحدة تطالب الكل بأن يتحمل مسؤولياته بإجراءات وأفعال، شاكرة للجميع تعابير التضامن بالأقوال، وهي تدخل معركة ما بعد سقوط كابول في ملاحقتها الارهاب. لكن الطريق ليست سالكة سيما بعدما وضعت واشنطن تنظيمات "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الاسلامي" في خانة تنظيم "القاعدة"، فأسفر الأمر عن اكثر من أزمة وورطة وتداخل بين ملفي فلسطينوافغانستان. وكلاهما على عتبة المفاجأة. كبار القارة الآسيوية في فرز دقيق لمكانتهم في الصفحة الجديدة. ايران، اليوم، لاعب فائق الأهمية، كدولة مجاورة لافغانستان والعراق، وتلعب دوراً في النزاع العربي - الاسرائيلي. عبر "حزب الله" وضمن علاقات مميزة لها مع سورية. وايران الحكيمة والمدربة على التفكير الاستراتيجي تفكر اقتصادياً وسياسياً في معنى التحولات الجذرية في افغانستان ببعدها النفطي والترتيبات اللاحقة لعبور نفط قزوين الى أوروبا. ولذلك كانت حريصة ان تبعث هذا الاسبوع، عبر رئيسها محمد خاتمي الذي شارك في الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك، رسائل مهمة تضمنت مؤشرات جديدة على سياستها نحو النزاع العربي - الاسرائيلي فحوى هذه الرسائل التلميح بالاستعداد لدعم عملية سلمية تسفر عن القبول بإسرائيل كدولة آمنة لها حق الوجود، مع التمييز بين دعم الكفاح ضد قوى الاحتلال بمظاهرها العسكرية وبين معارضة استهداف منظمات التحرير للمدنيين. وفي طيات الرسائل غاب الاحتجاج القوي على تصنيف الجناح العسكري من "حزب الله" في خانة الارهاب. وكما الأولوية لدى الولاياتالمتحدة اليوم في ملف افغانستان، كذلك هي عند ايران. فطهران تتصرف كدولة آسيوية عظمى وانها قد تكون المستفيد الأكبر، الى جانب روسيا، من افرازات 11 ايلول سبتمبر وما أدت اليه من حرب على "طالبان"، عدوها في افغانستان، ومن حاجة اليها في اطار التحالف على الارهاب. باكستان، بقيادة رئيسها برويز مشرف، قد تكون المغامر الأكبر، انما بمكافآت قيّمة أخرجت باكستان من العزلة وأغدقت عليها المساعدات نتيجة جرأة وشجاعة مشرف في وقوفه ضد طالبان الذي ساهمت باكستان في صنعه. وبهذا الموقف، تحولت الانظار بعيداً عن مسؤولية اسلام اباد في عهد تمكين "طالبان". فاليوم، تعتبر باكستان شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة، انما بإبحار دقيق في مياه العلاقة الاستراتيجية الدائمة بين اميركا والهند. فالهند أحد العمالقة الثلاثة في آسيا، مع الصينوروسيا، وهي في عداء مع باكستان لن تعالجه التطورات الافغانية. فنيودلهي تدرك مركزيتها لدى واشنطن، وتذكرها بها كلما ظهرت بوادر انحراف. والصين تستفيد بصمت كعادتها، فيما روسيا تحرث الاستفادة في كل ملف ومكان. نصيب معظم العرب هو اللوم، ليس فقط لأن اسامة بن لادن عربي ولأن سيرة "الأفغان العرب" سيئة في آسيا ولأن اكثرية المتهمين بارتكاب ارهاب 11 ايلول عرب، بل لأن المواقف العربية، كما بدت على الساحة الدولية، أصابها الارتباك. قد يكون أحد الأسباب الرئيسية وراء الارتباك ما حدث من تداخل بين ملف الارهاب وملف النزاع العربي - الاسرائيلي والخلاف على تعريف الارهاب. الإدارة الاميركية أوضحت لسورية، اثناء لقاء وزيري الخارجية كولن باول وفاروق الشرع في نيويورك، انها "تتوقع اجراءات، بالذات نحو حزب الله" تشمل النفوذ على الحكومة اللبنانية بغض النظر عن الخلاف على تعريف ما هو ارهاب وما هو مقاومة للاحتلال، حسب مسؤول اميركي رفيع. الشرع من جهته تعمد عدم ذكر "حزب الله" في خطابه امام الجمعية العامة وتحدث عن "المقاومة اللبنانية" بشكل عام. وجاء الخطاب بعد الاجتماع بأيام. وكان ملفتاً ايضاً في خطاب الشرع انه حاول ربط وجود المنظمات الفلسطينية في سورية مع حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وبالطبع شدد على ضرورة "استهداف الارهاب الاسرائيلي أولاً وأخيراً". الطرف الفلسطيني ليس مرتاحاً لاقحام سورية حق العودة للاجئين في ملف التنظيمات الفلسطينية لديها سيما وان السلطة الفلسطينية ترى ان دمشق تستخدم هذه التنظيمات، عندما تشاء، لمضايقة السلطة الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات. فعرفات، عكس ما قالته مستشارة الأمن القومي الاميركي كونداليزا رايس، لا يعانق المنظمات الثلاث التي ذكرتها، بل انها منافسته و"عدو" له في بعض الأحيان. وقد فات رايس ان "حماس" و"الجهاد الاسلامي" تريدان تقويض السلطة الفلسطينية وتعملان على انهيارها ليكونا البديل، وان لا علاقة بين "حزب الله" وياسر عرفات. سورية قد تعتقد ان عنصر "حزب الله" في علاقة اميركا بها "أزمة عابرة"، حسب تعبير ديبلوماسي عربي رفيع المستوى، ستتعداه التطورات. وهي قد تجد في "التمييز" و"الفصل" بين الاجنحة العسكرية والاجنحة السياسية لمثل هذه المنظمات، والذي يدعو اليه وزير خارجية بريطانيا جاك سترو مستشهداً بالتجربة الايرلندية، منفذاً الى الأخذ والعطاء. عدم التجاوب مع المطالب الاميركية ينطوي على مغامرة، سيما وان الاجواء الاميركية ليست في وارد التأقلم مع الاعتبارات التقليدية. وآفاق المغامرة قد لا تكون سياسية وذات افرازات اقتصادية فحسب، وانما قد تتطور الأمور الى آفاق عسكرية. هذا الى جانب المغامرة بعزلة في زمن التحالف والائتلاف. لذلك لن يكفي، من وجهة النظر الاميركية، ان تعدّل دمشق خطابها السياسي أو ان تخرج ب"بدعة" الربط بين المنظمات واللاجئين. اميركا تريد الاجراءات والأفعال. وهكذا تقول ايضاً للرئيس الفلسطيني. وعرفات يقع ايضاً تحت ضغوط من أقطاب القيادة الفلسطينية المحيطة به التي تريد له ان يحسم قراراته ومواقفه ويعتقل كل مسؤول عن عمليات اغتيال أو ارهاب واجراء تغييرات في المناصب، حسب مصادر وثيقة الاطلاع. وحسب هذه المصادر، تحض الأقطاب الفلسطينية الرفيعة المستوى عرفات على الإقدام، وان كان ينطوي على مغامرة، كي يأخذ بنموذج برويز مشرف الذي اتخذ القرارات القيادية لبلده وشعبه ووقف ضد الارهاب بلا تحفظات أو تردد، لمنفعة باكستان. وهي تخشى ان يكون الخيار بين نموذج مشرف ونموذج زعيم "طالبان" ملا عمر. عرفات في حيرة وغضب، فهو غاضب بسبب رفض الرئيس جورج بوش حتى مصافحته عندما اجتمعا على مأدبة غداء أقامها الأمين العام كوفي انان، وكانا على بعد طاولتين فقط. توجه بالشكر والتقدير لإعلان بوش من منبر الاممالمتحدة دعم اميركا قيام دولتين، اسرائيل وفلسطين، ضمن حدود آمنة بناء على قرارات الاممالمتحدة التي شكلت أسس العملية السلمية، لكنه فعل ذلك على مضض، وفي اضافة بدت وكأنها في آخر لحظة كُتبت بخط اليد. فهو شعر بالإهانة الشخصية، كما اعتبر ان القاء والمصافحة أهمية رمزية وسياسية. فحوى رسالة الادارة الاميركية الى ياسر عرفات انها مستعدة للمساعدة في اقامة دولة "فلسطين" - كما تعمدّ بوش القول ليسجل أول مرة يتحدث فيها رئيس اميركي عن "فلسطين" كدولة. لكن هذا لا يترجم نفسه عملياً بأن دعم "فلسطين" يعني دعم "عرفات"، ما لم يتحول عرفات الى "مشرف". عرفات فهم الرسالة جيداً وبقي متردداً وغاضباً وفي نوع من العزلة. فالبوتقة العربية، وبالذات الخليجية منها، لا تريد فتح جبهة اخرى مع الولاياتالمتحدة تحت عنوان وضع منظمات معينة في قائمة الارهاب. وهي تنظر الى القضية الفلسطينية من منطلق الفرص المواتية لحلها على أسس عادلة وليس من منطلق الصراع الفلسطيني على السلطة أو معركة تعريف الارهاب أو الدفاع عن منظمة معينة. فالمحاسبة، في رأيها، ليست على الماضي وانما على المستقبل. ولذلك لم يتطرق لقاء وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي ووزير الخارجية الاميركي الى موضوع المنظمات الثلاث أو تعريف الارهاب. اميركا وضعت المنطقة العربية في ورطة، ولربما اوقعت نفسها ايضاً في ورطة مختلفة، عندما ادرجت التنظيمات الثلاثة على قائمة الارهاب الجديدة. فلا يمكن للدول العربية ان تنفي حق مقاومة الاحتلال، سيما وان اسرائيل في عهد ارييل شارون تتبنى الاغتيال سياسة وتعيد احتلال مناطق فلسطينية وتضرب حصاراً وخناقاً اقتصادياً وتستخدم الذخيرة الحية ضد المدنيين. ما يمكنها ان تفعله هو ان تحدو حذو ايران في هذا الصدد لتشديد وتأكيد معارضة استهداف المدنيين من قبل أية حركة تحرير، والبناء على اقتراحات وزير الخارجية البريطاني. ولأن سورية ولبنان والقيادة الفلسطينية على المحك اكثر من غيرهم، فإنهم أمام شبه "انذار" من الادارة الاميركية، الآن على الصعيد السياسي، ولاحقاً من يعلم. فوزير الخارجية الاميركي كولن باول سيلقي خطاب "الرؤية" الموعودة يوم الاثنين - ما لم تفرض التطورات غير ذلك. وهو أبلغ المعنيين الرئيسيين في اجتماعه بفاروق الشرع وياسر عرفات ولم يجتمع مع وزير الخارجية اللبناني محمود حمود ان واشنطن ستراقب اجراءات "وقف العنف والتحريض" لتقرر مصير "رؤيتها". ترجمة ذلك، على الصعيد السوري، ان على دمشق ان تبلغ "حزب الله" ان مكانه اليوم ان يمارس صلاحيته كحزب سياسي فقط، وان تطلب اليه الكف عن محاولة تحرير مزارع شبعا لأنها تقع حالياً تحت عنوان الأراضي السورية المحتلة وتخضع لقوات "فك الاشتباك" التابعة للامم المتحدة. وما لم توافق سورية على ذلك، فإن المحطة الأولى في خطاب "الرؤية" هو تهميشها وعزلها واستهدافها سياسياً وإلغاء المسار السوري في المسيرة السلمية لينصب الجهد حصراً على المسار الفلسطيني من المفاوضات. على الصعيد الفلسطيني، والى جانب التمييز بين "فلسطين" و"عرفات"، فإن رسالة الادارة الاميركية تنطوي على شق يدرك أهمية معالجة الملف الفلسطيني في اطار حربها على الارهاب ورغبتها بذلك. ولكن، هذه المعركة مستمرة وبحزم، ولن يُسمح بتحويل القضية الفلسطينية الى عرقلة امامها مهما كان. وبالتالي ان الفرص مواتية لمعالجة هذا الملف سيما بعدما "دوّلته" أحداث 11 ايلول، لكن في الحساب اعادته الى "الرف" والى خانة التجاهل، اذا اقتضت الضرورة. لذلك، أبلغ كولن باول الى الامين العام للامم المتحدة والاتحاد الأوروبي، ونظيره الروسي اثناء اجتماع "الرباعية" في نيويورك، ان الولاياتالمتحدة لا تريد اية اقتراحات أوروبية أو رباعية، وتريد من "الجوقة" الانتظار الى ان تقرر واشنطن متى ستتحرك. وعد بالتحرك، لكنه أنذر الجميع بأن عليه ألا يتحرك. وما لم تبدأ اميركا وتطلق "النوتة" الأولى، فإن الكل في حال "تجميد". وعند الوقت المناسب تنطلق "الجوقة" الرباعية.