الفارق بين الملف الفلسطيني والملف السوري - اللبناني في التناول الدولي لهما، بعد التصعيد الاسرائيلي هذا الاسبوع، هو ان الأول يلقى تحركاً عربياً ودولياً لإخراجه من الخانة الأمنية الى الخانة السياسية، فيما يلقى الثاني شبه اجماع على ضرورة ضبطه أمنياً وليس بمعالجة سياسية. الفارق الآخر هو ان القصف الاسرائيلي لمواقع الرادار السورية في لبنان في عملية "كفى" لم يثر الرعب من اندلاع حرب سورية - اسرائيلية وتوسعها الى حرب اقليمية، وانما اطلق المخاوف من تورط لبنان في حلقة الانتقام، وبذلك اعتبر استثناء في العلاقة السورية - الاسرائيلية القائمة على فك الاشتباك. أما اعادة احتلال مناطق في غزة فاعتبر تحولاً خطيراً، سارعت واشنطن الى وصفه بأنه "مفرط وغير مناسب"، لأنه هدد بحرب رسمية فلسطينية - اسرائيلية تحل مكان العلاقة التفاوضية والانتفاضية وتفجر الفوضى. ولأن حكومة ارييل شارون اخذت التصعيد هذا الاسبوع الى مستوى جديد، فلسطينياً وسورياً ولبنانياً، فمن الحكمة ان تدقق الأطراف الثلاثة في الافرازات والخيارات النوعية. لبنانياً، ان مزارع شبعا لبنانية الملكية باعتراف سورية، وهي ليست أراضي اسرائيلية باعتراف الاممالمتحدة، ولا خلاف ابداً على اعتبارها أراضي تحتلها اسرائيل. الخط الأزرق الذي وضعته الاممالمتحدة عند تأكيد انسحاب اسرائيل من لبنان وفقاً للقرار 425 تحفظت عنه الحكومة اللبنانية تمسكاً منها بمزارع شبعا وأحقية المطالبة بها، لكنها تعهدت احترام الخط الأزرق كما وضعته الاممالمتحدة، وتعهدت سورية ايضاً احترامه. فهذا الخط وضع بسبب احتلال اسرائيل المزارع عام 1967 عند احتلالها الجولان ووقوع المزارع تحت ولاية قوات "فك الاشتباك". وسورية لم تكن جاهزة لأحد خيارين يضع المزارع في الأراضي اللبنانية داخل الخط الأزرق، وهما: إما ترسيم الحدود السورية - اللبنانية بما يضع شبعا داخل الأراضي اللبنانية، أو فتح ملف ولاية "قوات فك الاشتباك" التابعة للامم المتحدة بما يحذف شبعا من البقعة السورية. وربما يستمر الخياران واردين اليوم اذا قررت دمشق ان احدهما يناسبها. ولكن، الى حين اتخاذها مثل ذلك القرار، فإن المقاومة في شبعا تعتبر سورية افتراضياً. أدت مقاومة حزب الله الى تقهقر قوات الاحتلال الاسرائيلي، ولقنته درساً في عمليات المقاومة، واسفرت عن اضطرار اسرائيل للانسحاب من لبنان رغماً عنها. لا أحد ينكر فضل حزب الله في تحرير لبنان من الاحتلال، ولا أحد ينكر صلاحية حزب الله في تطبيق المقاومة على مزارع شبعا، ولكنه بذلك "يصدّر" المقاومة لتكون في خدمة سورية مباشرة. فإذا لم ترحب سورية باستقبال المقاومة اللبنانية لتكون في خدمتها في شبعا، فإن القفز على الخط الأزرق للمقاومة بذريعة "الملكية" اللبنانية يسيئ الى ما انجزه حزب الله في لبنان وللبنان. يسيئ ايضاً الى المساهمة السورية في تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي. ففضل دمشق لا يمكن ان يُنكر حتى وان شاء ان يضيعه ذلك التهافت اللبناني على بحث عشوائي في مستقبل الوجود السوري العسكري في لبنان. دمشق استثمرت وتريد الحصاد، لكن وسائل حصادها تكاد تطيح بحسن استثماراتها. فالانسحاب الاسرائيلي من لبنان تطلب منطقياً اعادة انتشار القوات السورية فيه على طريق الانسحاب الكامل منه. والتغيير في القيادة السورية فتح منطقياً الباب على صياغة علاقة جديدة متطورة بين سورية ولبنان. وليس في مصلحة سورية ولا لبنان العودة الى لغة الحرب الاهلية والاحتياجات الأمنية التي تبرر بقاء القوات السورية. ليس في مصلحة أي منهما الخوض في حنكة التداخل بين المقاومة ورفض الحرب في بقعة شبعا. لا تريد سورية الانجرار الى حرب رسمية مع اسرائيل، ولها كل حق في أي قرار سيادي تجده في صالحها. ردها على العدوان الاسرائيلي على مواقع الرادار في ضهر البيدر أفاد بأنها لن تحارب. وعدم توجهها بشكوى الى مجلس الأمن أفاد بأنها غير مستعدة للخوض في اعادة رسم الخط الأرزق أو خط قوات فك الاشتباك بما يضع شبعا رسمياً تحت السيادة اللبنانية. أما ان تستمر في ما يعتبره مجلس الأمن "استخدام" حزب الله للرد على اسرائيل، فذلك بدوره يتخذ بعداً جديداً نتيجة العملية الاسرائيلية الأخيرة. فما يسمى برسالة "كفى" يتوعد باجراءات لاحقة تستهدف المواقع السورية داخل لبنان أولاً، واذا تطلب الأمر، تستهدف البنية التحتية اللبنانية لإيصال رسالة أخرى الى الحكومة اللبنانية. الجديد في السياسة الاسرائيلية هو عزمها على تجنب التورط مجدداً في المستنقع اللبناني والعمل بدلاً من ذلك على اضعاف التواجد السوري في لبنان عسكرياً وسياسياً. والواضح ان العزم الاسرائيلي هو الإطاحة بمقولة تطبيق النموذج اللبناني للمقاومةعلى الساحة الفلسطينية. ولأن اسرائيل لا تريد شن حرب رسمية ضد سورية، فإن حربها على سورية في لبنان، بمبررات استخدام سورية لحزب الله في شبعا لن تجد إدانة دولية ووقفة عالمية ضدها. بل ان مثل هذه الحرب "مفيدة" جداً لحكومة ارييل شارون لتحويل الأنظار عما تقوم به على الساحة الفلسطينية ويلاقي التنديد الدولي. الهدف الآخر هو قطع الطريق على التقارب السوري - الفلسطيني لئلا يتطور الى تنسيق في اطار ما تسميه دمشق "منطق المقاومة" أمام انحسار "منطق التفاوض". فتعبير "المقاومة" مرفوض في قاموس ارييل شارون، شأنه شأن تعبير "الانتفاضة". لغته لغة "الحرب"، مصغرة كانت أو مكبرة، موسعة أو محصورة. لذلك توجه الى المواقع السورية في لبنان وليس الى البنية التحتية أو الى مواقع حزب الله. ولذلك اعاد احتلال أراض تقع تحت السلطة الفلسطينية في غزة ليقول للسلطة ان تزاوج التفاوض والانتفاضة ليس مستحيلاً فحسب، وانما يهدد قاعدة بقائها. لجوء شارون الى المعالجة الأمنية والعسكرية والقمعية، لن يؤدي باسرائيل الى الانتصار في حرب غير قابلة للانتصار. فهو اثبت فشل "المنطق الأمني" الذي يتبناه بعد طلاقه من "المنطق السياسي". ولو كان الرأي العام الاسرائيل واعياً لمصلحته ومصلحة اسرائيل بعيدة المدى، لطالب قيادته بمبادرة ادهاش تأتي عليه بالسلم بدلاً من الانزلاق في متاهات "الشارونية" الأمنية التي ستورط اسرائيل، اذا استمرت، وستسلبها الخيار السلمي. أولى حلقات هذه المبادرة هي سورية، لأن الملف السوري - الاسرائيلي في المفاوضات جاهز عملياً لنقله الى مرتبة جديدة. فإذا ما طرحت الحكومة الجديدة في اسرائيل مفاجأة موافقتها على الانسحاب الى حدود 4 حزيران 1967 مقابل توقيع معاهدة السلام بينها وبين سورية، فإنها تقلب كل المقاييس. فالذي حال دون التوصل الى اتفاق هو الطمع الاسرائيلي ببضع كيلومترات في بحيرة طبريا والقراءة الخاطئة في الحسابات السياسية وفي الامكان ان يعيد الرأي العام الاسرائيلي جردة الحسابات ليطالب حكومته بالكف عن المماطلة لحسم المسار السوري - الاسرائيلي من المفاوضات. الهدف من هذا الطرح ليس التلاعب على المسارين السوري والفلسطيني من المفاوضات، وانما تنبيه الرأي العام الاسرائيلي الى خيارات غير تلك التي تطرحها "الشارونية". وللتأكيد، فإن أي مبادرة على المسار السوري لن تثمر على المسار الفلسطيني ما لم تتخذ اجراءات موازية بذلك القدر من الاقدام، وإلا فإن الأمر سيؤخذ على انه مناورة. فالمسألة الفلسطينية في العمق الاسرائيلي، وما لم تعالج بصفتها هذه، لن تعالجها أي اتفاقات أو معاهدات سلمية عربية - اسرائيلية أو أي اجراءات أمنية بمفردها. هناك فكر سائد في معظم القطاعات الاسرائيلية اساسه ان "الحرب توّحد والسلام يأتي بالانقسام" داخل الصفوف الاسرائيلية، ومن هنا التردد كلما اقترب السلام من الواقع. لكن هناك ايضاً فكر يتزايد نمواً في ادراكه ان منطق الحرب ومنطق الأمن سيكلف اسرائيل غالياً في نهاية المطاف ولو انتصرت بمعارك عدة. هذا الانقسام شأن اسرائيلي وعلى القاعدة الشعبية والرسمية مسؤولية توظيفه إما في اتجاه الإقرار أخيراً بجدوى السلام أو في اتجاه استمرار التقوقع في عقلية الحصار. ولأن الحكمة السائدة تقول انه بعد كل حرب هناك فسحة للبناء على خيار السلام، فربما يجد الرأي العام الاسرائيلي مناسبة لاقناع شارون بضرورة السلم الحيوية لاسرائيل وتذكيره بأنه لولا الانتفاضة الأولى لما توجه اسحق شامير عام 1991 الى المؤتمر الدولي في مدريد لإطلاق "عملية السلام في الشرق الأوسط". المبادرة الأردنية - المصرية، التي تلاقي موافقة السلطة الفلسطينية وتساندها الاممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وتعتبرها الولاياتالمتحدة انها تستحق البناء عليها، تبعث رسالة واضحة وبسيطة من العرب لاسرائيل هي: نريد السلام، فمصر والأردن دولتان لهما اتفاقات سلام مع اسرائيل وهما تتقدمان بمبادرة مؤيدة دولياً في عملية كشف للمواقف واثارة حوار داخلي في اسرائيل. وهذا مفيد للجميع. اذ ان خيار الحرب ايضاً ليس في صالح العرب، قاعدة شعبية وسياسية على السواء، لما تهدره من امكانات وفرص لتطوير المجتمع العربي بصورة تواكب قليلاً ما وصلت اليه بقية العالم. وحسناً فعلت الديبلوماسية الأردنية باقتحامها التصعيد الاسرائيلي بمبادرة سلمية أصر وزير الخارجية عبدالإله الخطيب على تسليمها الى نظيره الاسرائيلي شمعون بيريز بدلاً من تقهقرها امام "الشارونية". فهي بذلك اطاحت الانطباع المزيف بأن العرب هم الطرف الرافض للسلام، فيما اسرائيل هي الساعي الصادق اليه. وهي بذلك تصرفت على اسس واقعية بدل ان تركب الموجة العاطفية وتفقد المبادرة. ان تعرية مغامرات ارييل شارون جزء من ديبلوماسية ضرورية يجب طرحها على الساحات الاسرائيلية والاميركية والدولية. وهذا لا يتحقق فقط من خلال الاحتجاج والادانة وانما ايضاً من خلال الاحراج والمبادرة. ولأن ادارة جورج دبليو بوش بدأت أخيراً تستدرك معنى امتناعها عن الانخراط وتفسير شارون له على انه موافقة ضمنية على تبنيه المنطق الأمني - العسكري، توجد فسحة لمساهمة عربية فعلية في ايصال رسائل جدية الى الادارة الاميركية. هناك سعي الى مؤتمر دولي يضم أطراف قمة شرم الشيخ زائد روسيا لمعالجة الملف الفلسطيني تساهم فيه الاممالمتحدة والاتحاد الأوروبي سوياً مع الأردن ومصر لتباركه الولاياتالمتحدة. بموازاة ذلك، يمكن بذل الجهد لوضع الأسس الضرورية لمؤتمر دولي أوسع يشمل سورية لئلا يقع مجدداً خطأ التصنيف في الخانة الأمنية بعيداً عن الضرورة السياسية لمعالجة الأوضاع في المنطقة.