أدى احياء موجة الارهاب الى جديد في المنطقة العربية، أدى الى إقرار شعبي بخطأ "تبرير" الارهاب عملياً من خلال "تفسير" خلفيته وربطه بقضايا العرب والمواقف الاميركية منها. هذا الإقرار يبقى ناقصاً ما لم يحسم الرأي العام العربي موقفه بوضوح كامل من شبكة "القاعدة" وأمثالها ليرفض "ثقافة التدمير" رفضاً قاطعاً. وهذا يتطلب الكف عن الدعم "السري" في قرارة النفس لرمز بن لادن كرد فعل على الغضب من السياسات الأميركية. فالاصلاح الضروري للسياسات الأميركية يتطلب مساهمة بناءة بدلاً من التمسك بطموحات تدمير عظمة أميركا والشماتة بما طالها من ارهاب. وما تمر به المنطقة اليوم ينطوي على فرصة مفيدة لعلاقة اميركية - عربية صحية كما لاصلاح العلاقة بين الحكومات العربية والشعوب العربية. وهذا بدوره يتطلب فكراً جديداً على صعيد الرأي العام، الى جانب ما يتطلبه من انقلاب جذري في فكر الحكومات والأنظمة العربية. العمليات الارهابية في المملكة السعودية والمغرب أيقظت في الذهن العربي السائد معنى التعرض للارهاب والعيش في ظل الخوف العميق منه. حكومياً، استدركت القيادات العربية أن القضاء على ظاهرة الارهاب يتطلب قراراً استراتيجياً شاملاً بلا ثغرات ينطوي تنفيذه على مغامرات لا بد منها ناتجة عن الاصلاح الجذري الضروري بكل أبعاده. فلا مجال للتقتير الآن، لا في ناحية الاجراءات ضد الارهاب، ولا في ناحية الاصلاحات النوعية للحكم والمجتمع على السواء. ردود الفعل على العمليات الارهابية في السعودية والمغرب، على صعيد القيادات الدينية والنخبة العربية والرأي العام، فيها تمكين للحكومات على الاقدام. ولئلا يكون هناك لبس في الأمر فإن الاصلاح المطلوب في اتجاه مجتمعات عربية لا تنتج الارهاب، يتطلب بالتأكيد إزالة أسباب الاحباط الذي يؤدي الى ثقافة التدمير السائدة. ولا بديل في ذلك من التوجه الديموقراطي الصادق، بمؤسسات، وبلا تقتير ولا إرشاد للانفتاح والاصلاح والديموقراطية. فأهم الحلقات حلقة ترميم العلاقة بين العرب أنفسهم، بين الشعوب والحكومات ما بين الشعوب وما بين الحكومات، مع وضوح صادق في المشاعر نحو القضايا وأولوياتها. فلسطين قضية ترفع تارة راية للقضية العادلة وتارة شعاراً لطفح الكيل من القضية وقادتها وحتى شعبها. والعراق قضية قيد الفرز. لكن ما تقوله الشعوب العربية اليوم هو أن قضاياها ليست مقننة في فلسطينوالعراق. ان قضاياها اقتصادية واجتماعية يصب بعدها السياسي في خانة العلاقة المريضة بين الشعوب والحكومات. توجد اليوم فرصة لعلاج دائم لهذا المرض. وقد شاءت السخرية أن يكون الارهاب بين أسباب الاسراع الى ايجاد العلاج. ما فعلته موجة الارهاب الأخيرة ايضاً انها وفرت فرصة لفهم أفضل للآخرين الذين مكثوا في ظل رعب الارهاب أو اتخذوا اجراءات ضده. قبل هذه الموجة، انصب العرب، خصوصاً النخبة بينهم، على دق طبول احتلال الولاياتالمتحدة وبريطانيا للعراق. وقامت جوقة التحريض والاحباط بترديد نغمتها التقليدية بدلاً من التطلع الى كيفية توظيف ما حدث في العراق من أجل مستقبل أفضل للمنطقة العربية. ما أسفرت عنه العمليات الارهابية، كإفراز، هو انخفاض هذه النغمة وتحويل الأنظار من لوم أميركا على كل شاردة وواردة الى لوم الذين اختطفوا الانتقاد المشروع للسياسات الأميركية وحوّلوه أداة لغاياتهم الأنانية التدميرية. أسفرت أيضاً عن خلع القناع الذي أعمى عن التدقيق في الذات وجعل أميركا "كيس" الملاكم الذي يقوّي عضلاته عبره. أسفرت عن ضرورة الإقرار بأن العدو هو أيضاً من داخل الصميم العربي. هذا لا يعني أبداً اعفاء الولاياتالمتحدة من اللوم على كثير من سياساتها نحو المنطقة العربية. ما يعنيه هو ضرورة وقف اعفاء النفس من المحاسبة، وضرورة استبدال نمط النحيب والصراخ بتبني فكر وأدوات تحويل الوضع الراهن الى فرصة للبناء والاصلاح. ففي العراق، مثلاً، وقعت حرب تحت عناوين زئبقية، من أسلحة الدمار الشامل الى خلع النظام، رافقتها شكوك عربية بأن الأهداف الحقيقية هي السيطرة على العراق ونفطه وتقديم خدمة لاسرائيل. الآن، ومهما كانت المواقف قبل الحرب، يمكن النظر اليها بأنها حرب "تدخل انساني" اذ انها قضت على نظام بطش بالعراقيين وحوّلهم الى فقراء في بلد يتمتع بنعمة الموارد، الطبيعية والانسانية، ويستحق الازدهار. مدة الاحتلال الأميركي - البريطاني للعراق في يد العراقيين أكثر مما هي في يد لندن أو واشنطن. وقرار مجلس الأمن الذي أرادت له الادارة الأميركية والحكومة البريطانية ان يبارك اعترافهما بأنهما سلطة احتلال، ربط بين انهاء الاحتلال وبين قيام حكومة عراقية ممثلة لجميع العراقيين. العراق أفضل بكثير في وضعه تحت إدارة سلطة الاحتلال ما بعد خلع نظامه مما لو وُضع تحت سلطة الأممالمتحدة غير القادرة على إحداث التغييرات الضرورية فيه أو على منع اندلاع حرب أهلية تؤدي الى تفتيته. نجاح الشراكة بين سلطة الاحتلال والأممالمتحدة، والشعب العراقي هو في مصلحة العراق. وكل من يعتقد بأن العراق ساحة احتلال بالمعنى التقليدي المفهوم في المنطقة، أي على نسق الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية، يخطئ في حق العراق. فهذا احتلال انتقالي لمساعدة العراق وليس احتلالاً دائماً لسلب أراضيه. وأي اعذار قد تبرز لاطلاق "مقاومة" للاحتلال الأميركي - البريطاني للعراق، بمعنى المقاومة المسلحة، هي ذريعة لغايات وأهداف على حساب العراق. فأميركا لا تريد البقاء الطويل في العراق، بل تريد الانسحاب منه بأسرع ما يمكنها. وانهاء الاحتلال الموقت للعراق يقتضي مساعدة سلطة الاحتلال على تمكين العراق من إدارة نفسه، بلا شعارات أو مزايدات. فليس من العدل للعراقيين أن يؤخذ ملف العراق رهينة لملف فلسطين، إذ عانى العراقيون ما يكفيهم وهم يستحقون رسم مستقبلهم من دون اعباء مصطنعة. فموضوع فلسطين له أهميته ببعده العربي كما ببعد العلاقة الأميركية - العربية. لكن الأهم، اليوم، هو البعد الفلسطيني - الفلسطيني. رسمياً، وافقت حكومة محمود عباس أبو مازن على "خريطة الطريق" التي تبنتها رباعية الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة وروسيا كوثيقة شاملة لتحقيق هدف قيام دولة فلسطين الى جانب اسرائيل آمنة معترف بها عربياً ودولياً. حكومة ارييل شارون لم توافق على "خريطة الطريق" التي أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش التزام أميركا والتزامه الشخصي بتنفيذها، باعتبارها الهيكل التنفيذي لرؤية بوش التي سجلت للمرة الأولى لرئيس اميركي نطقه بدولة فلسطين. واقعياً، وعملياً، ان الموافقة الرسمية للحكومة الفلسطينية مجرد حبر على ورق ومجرد كلام ما لم يقترن بها قرار فلسطيني موحد. فالحروب الفلسطينية - الفلسطينية، في مخيمات لبنان أو داخل أراضي السلطة الفلسطينية، تقع على الخيار والاختيار بين المقاومة المسلحة بكل أنواعها، وبين التفاوض على حل سلمي. أصحاب مقولة السير معاً بالمسيرة التفاوضية والانتفاضية فشلوا في اثبات صحة نظريتهم. وإذا كان في ذهن هؤلاء أن العمليات الانتحارية "أنجزت" ضرب أمان الاسرائيليين واقتصادهم، فعليهم أن يعترفوا بأنها قصمت ظهر الفلسطينيين وزادت من بؤسهم وفقرهم وعززت قبضة الاحتلال. فالخيار والقرار الفلسطيني يجب أن يحسما الآن بين المفاوضات والانتفاضة. فلا مجال لتزاوج بينهما. ولربما من أهم الحروب الفلسطينية العديدة حرب القرار. فإذا استمرت العمليات الانتحارية فانها ستسقط حكومة محمود عباس وتسقط معها خيار التفاوض. والسؤال عندئذ سيكون، هل في امكان الفلسطينيين اقامة دولة فلسطين حصراً من خلال خيار المقاومة؟ أما إذا كان القرار الفلسطيني التبني الفعلي والصادق لخيار التفاوض على أساس "خريطة الطريق"، فمن الضروري عندئذ للرئيس ياسر عرفات اما ان يقحم نفسه بكامل الوضوح في مصلحة حكومة أبو مازن، أو أن ينسحب من كامل العملية ليتنحى عن الرئاسة داخل أو خارج مناطق السلطة الفلسطينية، وقد بات ضرورياً للرئيس عرفات، بصفته الرمز الفلسطيني، أن يضع كامل ثقله في حسم القرار الفلسطيني. فالإدانة الفلسطينية للعمليات الانتحارية بصفتها عمليات ارهابية ضد مدنيين اسرائيليين جاءت بلغة تركت مجالاً للتفسير المختلف مع الاصرار على حق المقاومة. جاءت أيضاً مع شبه مبررات نظراً الى أن حكومة ارييل شارون المتطرفة تمارس من جهتها أنواعاً مختلفة من الارهاب في شكل العقاب الجماعي وتدمير البيوت والاغتيالات. بعض الاعلام العربي لا يزال يصف العمليات الانتحارية بأنها عمليات استشهادية حتى عندما تقع ضد مدنيين اسرائيليين أبرياء. بذلك ساهم في ترك الانطباع بأن العرب يتبنون الارهاب أداة. الآن وقد جاء الارهاب الى عقر الدار العربية، وضد مدنيين أبرياء، فربما تدقق البيئة العربية باللغة التي تستخدمها مع الارهاب وأصحابه. وحان الوقت لفرز جديد للخطاب السياسي العربي بكامله، الحكومي منه والشعبي. وحان معه اتخاذ مواقف حاسمة بين خيار الفوضى والتدمير واستمرار الاحتلال، وبين خيار المشاركة الفعلية في الاصلاح البنّاء وانهاء الاحتلال.