إلى أي حد يقترب النقاد العرب من التجارب الروائية الجديدة، التي تشكلت خلال العقد المنصرم مثلاً؟ وما شكل الإضافة النقدية التي يقدمها الدرس النقدي إلى الروائيين الشباب؟ وهل توصلت الدراسات النقدية التي عنيت بالظاهرة الروائية، إلى ما يمكن تسميته ب"ثوابت" أو "أسس"، في ما يتعلق بمفاهيم السرد وتقنيات الرواية والتجريب والبداية الفعلية للرواية العربية؟... تلك بعض الأسئلة التي خرج بها عدد من المشاركين من غير النقاد، في ندوة "الرواية العربية... ممكنات السرد"، وقد نظمها "المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت"، في 11 و13 من الجاري كفاعلية رئيسة ضمن "مهرجان القرين الثقافي" لهذا العام، وحضرها وشارك فيها مجموعة كبيرة من الأسماء اللامعة، نقداً وإبداعاً. للوهلة الأولى تبدو المسافة كبيرة بين النقد العربي الحديث، وما يصنعه الروائيون على مستوى الكتابة. فإذا راحت الرواية العربية في تجلياتها الجديدة، توسع من هامش التعبير الفني، وتذيب الحدود بين الأجناس، وتستدعي معارف وخبرات مختلفة، حياتية وواقعية، فإن النقد ظل في المقابل وعلى رغم الجهود الجدية والمتميزة لبعض المشاركين من أمثال: عبدالله ابراهيم، محمد برادة، يمنى العيد، جابر عصفور، صبري حافظ، روجر ألن، نبيل سليمان ومعجب الزهراني مشدوداً إلى بعض الكتب الغربية الأساسية في نقد الرواية، يوظفها ويعيد توظيفها، من خلال نماذج روائية عربية، معظمها لم يتغير منذ أكثر من ربع قرن. تناولت أبحاث الندوة موضوعات مختلفة مثل: "الرواية العربية بين المحلية والعالمية"، "تجليات الخطاب السردي"، "التجريب في الإبداع الروائي"، "ابتداء زمن الرواية"، "الرواية والسرود السمعية - البصرية"، "الرواية العربية والترجمة"، "الرواية العربية وتعدد المرجعيات الثقافية"، "القراءة الحوارية لعلاقات السيرة الذاتية بالرواية" و"أساليب السرد الروائي". وعدا ورقة أو اثنتين، غلب على الأوراق طابع الخوض في الموضوعات نفسها، التي يمكن مطالعتها في الكتب النقدية الصادرة قبل سنوات عدة، وفي الدراسات المتفرقة التي تنشرها المجلات المتخصصة، هنا أو هناك، للنقاد نفسهم، كنظريات السرد وتقنيات الرواية والفارق بين السيرة الذاتية والرواية، ومفهوم التجريب والنشأة والتحول، وما إلى ذلك... واللافت في الندوة أن عدداً من الروائيين المهمين الذين كانوا شاركوا، مثل: واسيني الأعرج، اسماعيل فهد، أمين صالح، عبده جبير، خيري الذهبي، علوية صبح وممدوح عزام وآخرين، لم تتطرق لنتاجهم أي دراسة من الدراسات التي ألقيت، وإذا حصل أن أتت ورقة على واحد من هذه الأسماء، فيكون ذلك في شكل إشارة عابرة أحياناً، تتم شفوياً وليس في صلب البحث المدون. وخلال الاستماع إلى الباحثين أو المعقبين عليهم، يتبادر إلى الذهن أن لا قضايا "مفاهيمية" أو نظريات نقدية روائية، باتت مستقرة وشبه متفق عليها، حتى يمكن الانتقال منها إلى موضوعات وقضايا سردية جديدة. وبدا أن كل ناقد يتبنى مفهوماً وفهماً مستقلين عن مفهوم الناقد الآخر، حول القضايا ذاتها، مع أنهم ينطلقون من مستند نظري واحد غالباً، ونادراً ما يتفق اثنان على قضية واحدة. ومن ذلك ما حصل في ورقة "ابتداء زمن الرواية"، إذ لم تعد رواية "زينب" لهيكل أول عمل يمكن من خلاله التأريخ لبداية الرواية العربية، مثلما قرأنا ذلك طويلاً، بل هناك أعمال أقدم سورية وعراقية... طرحها باحثون كل بحسب البلد الذي ينتمي إليه. وكذلك ما حصل في محور "التجريب في الإبداع الروائي"، إذ اختلف المشاركون أيضاً حول ما إذا يمكن القول ب"التجريب في الرواية"، أم "الرواية التجريبية"، وهل انطلق مصطلح التجريب بظهور تيار الرواية الجديدة في فرنسا، أم قبل ذلك مع الروائي الفرنسي إميل زولا؟ ولم يخل النقاش والمداخلات من توتر حيناً ومزاعم حيناً آخر، فتحولت الندوة إلى مناسبة لتصفية الحسابات الشخصية بين النقاد والروائيين نفسهم، كما حصل في ورقة الناقد جابر عصفور، التي ألقاها نيابة عنه واسيني الأعرج. وعن النتائج التي توصل إليها الباحث، زعم صبري حافظ أنه سبق أن أنجز مثلها في بحث مشابه، قبل سنوات عدة، وأن هذا البحث كان لدى جابر عصفور، في إشارة واضحة إلى أن الأخير قد اقتبسها منه، وهذا ادعاء لا مجال لتصديقه البتة. وفي مساء اليوم نفسه، وزع صبري حافظ على المشاركين صورة عن بحث قديم له، كان نشره في مجلة "الناقد" عام 1990 . غير أنه عاد في اليوم التالي، عندما عقب على ورقة الناقد المغربي سعيد يقطين، ليقول إن "يقطيناً" افاد من جهده ذاك، من دون أن يشير إليه. وهو الأمر الذي استغربه الكثيرون من هذا الناقد المصري المعروف بارتجالاته النقدية. وقال بعض المشاركين ان جابر عصفور وسعيد يقطين، ليسا في حاجة إلى أخذ جهود أحد من النقاد، من دون أن يشيرا إلى ذلك، وأنهما بالتالي معروفان بالصدقية والجدية والمسؤولية، التي تجلت كلها من خلال كتبهما ودراساتهما المعمقة في الخطاب الروائي العربي. وشهدت ورقة "الرواية العربية والترجمة"، التي قدمها الأميركي روجر ألن، وعقب عليها الزميل عبده وازن نقاشاً حاداً، أثارته ورقة المعقب تحديداً، حينما قال: "إن بعض الروائيين العرب الجدد أصبحوا يقبلون على كتابة روايات "صالحة" للترجمة، واضعين نصب أعينهم القارئ الأجنبي وذائقته"، ما دفع المصرية ميرال الطحاوي، التي كان بعض المشاركين ينظر إليها بصفتها واحدة ممن ينطبق عليهم القول، إلى مطالبة وازن بذكر نماذج، وأكد صبري حافظ الطلب نفسه. وما كان من عبده وازن سوى أن ذكر اسمين من لبنان، في الوقت الذي كان ينتظر البعض، أن يذكر أسماء من مصر تحديداً، باعتبار أن موجة انطلقت من معطيات الجسد وركّزت على الغرائبي والأكزوتيكي والفلكلوري التي ميزت الكتابة الروائية في السنوات القليلة المنصرمة. وهو ما عده البعض، محاولة باتجاه لفت انتباه المترجمين. وحاولت الطحاوي في شهادتها دفع التهمة عن نفسها، مشيرة إلى أنها تكتب رواياتها في شكل عفوي، وأنها لا تخطط مسبقاً من أجل الترجمة. ومن الأمور اللافتة في الندوة، مشاركة أسماء من خارج القائمة النقدية الشائعة، التي تشارك في معظم مؤتمرات أو ندوات الرواية العربية، مثل جورج دورليان ولطيف زيتوني لبنان وجهاد نعيسة سورية، وهؤلاء قدموا مداخلات متميزة أثرت الندوة. الناقد والروائي المغربي محمد برادة، ألقى بحثاً مميزاً وكان الوحيد الذي تناول أسماء روائية شابة، كالروائي المصري أحمد العايد، من خلال روايته "أن تكون عباس العبد". وطالب النقاد العرب بكف أيديهم عن الروائي الراحل محمد شكري، وقال إن عدداً من النقاد يتعمد إيذاء شكري، موضحاً أن لديه الكثير من الوثائق التي تتعلق بمؤلف "الخبز الحافي" و"زمن الأخطاء". لم تقتصر الندوة على الأبحاث النقدية، بل شملت شهادات لخيري الذهبي وفوزية الشويش وميرال الطحاوي وليلى العثمان وعلوية صبح واسماعيل فهد اسماعيل. وقدم هؤلاء الروائيون من خلالها وعياً آخر وإدراكاً جميلاً لتجاربهم الروائية، في منأى عن تنظير النقاد، وحظيت الشهادات كلها بحضور كثيف، وإن بدت الروائية اللبنانية علوية صبح نجمة الندوة بامتياز، إذ سبقتها أصداء روايتها المتميزة "مريم الحكايا". المترجم صالح علماني، الذي اشتهر بترجماته عن الاسبانية، والذي كان لطيفاً وودوداً... حظي هو الآخر باهتمام المشاركين وحفاوتهم، فكانوا يصافحونه كما لو كانوا يضعون أيديهم في يد ماركيز أو إيزابيل الليندي أو ماريو يوسا فارغاس مباشرة. والطريف أن "علماني" تلقى عدداً من الكتب العربية، ممهورة بتواقيع أصحابها مع رغبة هؤلاء في ترجمتها إلى الإسبانية. أخيراً لا بدّ من القول إن الندوة نجحت في دعوة عدد كبير من الأسماء المهمة في الحقل الروائي، وفي طرح موضوعات اتسمت بالجدية. وإذا كان هناك اختلاف أو خلاف حول مسائل بعينها، فهو مما ليس للندوة أو القائمين عليها اي علاقة به، وإنما هو أمر يتعلق بالمثقفين العرب نفسهم، سواء كانوا من الكويت أو من سواها من البلدان العربية. وقد حرص المنظمون على أن تعكس الندوة أهمية هذا الجنس الأدبي وما يشكله من حضور لافت، وفقاً لمدير المهرجان الروائي طالب الرفاعي الذي قال: "... ربما غدت الرواية العربية، بمثابة المفتاح السحري، الذي يمكن من خلاله الولوج إلى عوالم السر الخفية، التي يعيشها الانسان العربي، في واحدة من أكثر لحظات تاريخه إحباطاً وانكساراً وتشتتاً ووجعاً وحلماً". واعتبر الناقد والمستشرق الأميركي روجر ألن الندوة من أنجح الندوات التي شارك بها في الوطن العربي، بل إنه عدها أكثر نجاحاً من مؤتمر الرواية الذي ينظم في القاهرة، والذي شبه ما يحصل فيه ب"الأشغال الشاقة"، لطول الوقت الذي تستغرقه الجلسات، ولكثرتها ولعقد الكثير منها في وقت واحد، وهو الأمر الذي يمنع المشاركين من متابعة بعضهم بعضاً.