كانت القاهرة كالعهد بها،يصغي نيلها الوديع الهادئ الى صخبها مثل حكيم لايتعبه صمته. تقايض أوقاتها وأمكنتها، بين قصص الحقيقة والخيال، وتحل ألغازها ببساطة تأسر لب من يقصدها. مدينة السرد والحكايا وروائح التاريخ المستقر في الذاكرة. والى ساعة المغادرة يبقى القادم اليها في لوعة البحث عن ماضيه لا ماضيها وحدها: صوت أول أغنية وأول فيلم وأول رواية وأول مجلة تصفحّها في طفولته.هنا تصبح لقاءات مصر الثقافية أكبر من حدث يختلف أو يتفق عليه الناس، إنها مهمة المكان الجامع،هوية المسرود العربي ونصه المفتوح على تشابه وإختلاف. لم يحضر جابر عصفور في ملتقى القاهرة الروائي الرابع الذي انعقد في الإسبوع الماضي، ولكن ظله كان يلوح على مبعدة في تفصيل هذا اللقاء الذي صبر وجاهد وخسر من صحته كي يغدو تقليدا. الحضور الشاب هو الظاهرة اللافتة في هذا الملتقى، وسواء كانوا روائيين او نقادا، من مصر وسواها من البلدان العربية،فوجودهم كمنتجين يشير الى زمن جديد للكتابة، لايسجل فقط تبدلا في طوبغرافيا الثقافة العربية، بل في نوع خطابها. تستقبل الكتابة عصرا يجرّب شبابه في كل منقلبات الإبداع وأساليبه،ولعل ثورة السرد تناسب ايقاع العالم المفتوح بعد الانتقالة النوعية لتقانة الإتصالات، وفي المقدم منها الإنترنيت. وهكذا ضاعف هذا اللقاء الإهتمام برواية الشباب عبر فعاليتين حظت بحضور لافت : الأولى المائدة المستديرة لرواية الشباب، والثانية ندوة الرواية الرقمية، التي أثارت نقاش المشاركين داخل القاعة وخارجها. مصر وحدها أنتجت خلال السنوات القليلة المنصرمة عشرات الروائيين الشباب الذين تخطوا في فترة قصيرة كل التقاليد الروائية التي رسختها الرواية العربية، والمختلف في كتابة هؤلاء يتحدد بكسر التوقع، في الأفكار وطرق التناول ومناخات القص، وهذا ما يحصل في البلدان العربية وإن على نحو أقل.وهكذا غابت وجوه وحضرت أخرى جديدة في الملتقى،وفي الظن انها فاصلة أصر عليها المنظمون، كي ينتقلوا في اللقاءات المقبلة الى ما يناسب عصر الرواية العربية الحديثة الذي من المرجح ان يكون عصر الشباب بإمتياز. الرواية العربية الآن هذا هو العنوان الذي دارت حوله الأوراق وقلبّته النقاشات، وعلى رغم إصرار الحضور وأنا منهم، على الخوض في مواضيع روائية تجسّر المسافة بين الماضي والحاضر، بيد ان صوت الشباب واحتجاجاتهم حتى على جائزة الرواية التي نالها إدور خراط، كانت تدفع الى أفق نقدي يتجه الى المستقبل. وكان على المنظمين ترتيب الندوات وفق قواسم مشتركة، منها مايحمل عمومية تخص الرواية العربية باختلاف نماذجها، ومنها ما يحمل خصوصية تغطي النوع المشترك،او النموذج الواحد، ولكن أسئلة الرواية الجديدة بقيت معلقة بين تنظيرات مبتسرة، وأخرى تمتح من قديم الكتابة عنها. ما معنى حداثة الرواية العربية اليوم ؟ كان هذا عنوان ورقة رشيد بوجدرة الروائي الجزائري حيث حصر النوع الجديد في مقولة "الأنا"، فما وطد دعائم الرواية العربية الجديدة كما يقول، هو الاعتراف بأهمية "الأنا" (الذاتية) ومحو السردية الجماعية (النحن) الإجتماعية بالمعنى الضيق والايديولوجي للكلمة.وسنرى ان عدداً لابأس به من الأوراق تتحدث عن "الأنا" والآخر، والأنا والنحن، ولكن علي بدر الروائي العراقي، يقدم مادة تؤكد وتمحو في الوقت عينه المقولة، فهو يضع عنواناً يقول ان سرد الافراد يقوض سرد الجماعة، ولكنه يستطرد (هناك سرود جماعية تنسج الهويات والأفكار،تأتي الرواية لتنقضها، انها تقلب التاريخ الرسمي الذي كتبته النخبة المتأثرة بالسياسة الاستعمارية)، فبدا التاريخ ومن كتبه على وجه الافتراض (النخبة التابعة)، وكأنه ينوء بحمولة الأفكار الجماعية التي شبعت سردا وأدلجة، في مفارقة بين مايفكر فيه الكاتب وما يتبناه من مصطلحات. وهكذا سنجد في هذا المحفل الكثير من المقترحات في قراءة رواية المستقبل، يسبر فيها المنجّمون كواكب جديدة، مبحرين بين حداثة نقدية غربية تلوح قريبة كلما تطورت وسائل الإتصال بين البشر، وبين رواية عربية مكبلة بقيود زمن يطلب منها الكثير كي تكون عاقلة وممتثلة، حتى وهي تصنع موتيفات التحدي :الجنس والسياسة والاعتقاد. الرواية الرقمية (digital novel) أو الالكترونية أو التفاعلية، وسواها من التسميات التي ترتبط بالكمبيوتر والإنترنيت،بقيت لغزا بالنسبة الى الكثير من الروائيين الكبار في العالم العربي ونقادهم أيضا، وتقنياتها التي قدّمتها الى حضور الملتقى ندوة مكرسة،كانت التحدي الكبير الذي ينذر بأفول عصر أدبي وإنبثاق آخر، يسمى عصر الأدب الرقمي، مذكّرا بما فعلته المطبعة بعد عهد الاستنساخ الخطي، في تغيير أنماط الكتابة ووسائل التفكير. روايتا الهايبرتيكست والمولتي ميديا، تدخل في سردها الصورة والموسيقى، وتعيد تشكيل المكان ومسرحة الكتابة ضمن إطار من المرئيات والصوتيات المختلفة،حيث يصبح الرابط او حلقة الصلة، بعدا آخر للمعرفة ومتعة الخيال. لابد لهذه الرواية من التحرك في واقع افتراضي بدأ يدخل في حياتنا بقوة خلال سنوات،وربما ينافس في المستقبل الواقع نفسه. تقدمت مجموعة من الأوراق الى الندوة لتوضيح مسارات الرواية الرقمية وتأثيراتها،وبينها ورقة لسعيد يقطين الناقد المغربي وأحمد فضل شبول المختص بالنشر الالكتروني وسمير الفيل وعبير سلامة، مساهمين في الشرح والتوضيح، على رغم من ان النسخة العربية منها لم تولد بعد، أو لم يولد نوعها المختلف حسب التقانة الحديثة. كما ان نسختها الغربية بقيت تجريبية،و لم تدخل ميدان سباق الجوائز العالمية، فالطباعة الورقية مازالت سائدة في عالم التداول، ومن هنا يمكن اعتبار تأثيرات هذه الرواية أو نوع تداولها من باب التخمين او التوقعات الممكنة.الرواية الرقمية تدخل الى مكان الملتقى الروائي العربي، مثل ضيف شرف يحتفي به الكل حتى أولئك الذين يودعون أزمنتهم على يده. ما بين أوراق الرواية الرقمية، والطاولات المستديرة التي جرى فيها النقاش حول المشهد الروائي العربي الآن، نرى مفارقة "الحداثة" وما بعدها في الأدب العربي. فطاولات المشهد الروائي العربي بدت وكأنها ممعنة في تقليديتها، واكتفى الكثير من مقدميها بالوصف ومتابعة التواريخ والمواضيع، في حين بدت رواية الانترنيت، وكأنها تبعد تلك التواريخ الى سِفر المستقبل الذي لاعودة فيه الى الماضي. نحن الآن في المنطقة الوسطى حيث كانت الأيام تمضي ولغز الجائزة يتنقل بين طاولات المشاركين:من تراه يحصدها؟ وهل ستكون من نصيب من يمثل الجيل الجديد؟ كان أمام لجنة التحكيم مهمة صعبة، ووفق المتعارفات ينبغي أن تذهب الجائزة الى مصري، بعد أن نالها عربي في الملتقى السابق، ولكن الأسماء المصرية في كل الأحوال تبقى الأقوى في سباق الأفضلية، فمصر بلد الرواية، فإن نافس الخراط بهاء طاهر وأصلان والبساطي وخيري شلبي، فلأن تواريخ هؤلاء تضعهم في موقع الجدارة. إدوار خراط الذي يعد الانتقالة النوعية بعد القص المحفوظي، مضى خارج الواقعية المتوارثة في الرواية المصرية، الى عوالم تضج بالغرابة والشعرية، وأطل على المشهد الثاني للحياة المصرية: عالم الاقباط وطقوسهم ومصريتهم التي تمايز مسيحيتهم عن سواها. اللجنة رأت في جانب روايته الفنية ما يفوق الاعتبارات الأخرى،بما فيها كونه الروائي المصري الأول الذي قدم بيئة مختلفة عما قدمته الرواية المصرية، فكان حفل الختام حيث انهى كل الجدالات التي دارت في الكواليس عن المرشحين الواقعيين والمتخيلين.يب قى الملتقى رغم ابتسار الحضور وغياب أسماء معروفة هذه السنة، من أهم الفعاليات التي تشهدها الحياة الأدبية العربية، وهو تقليد يرتبط بمصر الرواية ومصر المكان الذي يتجاوز بإبداعه كل الخلافات الظاهرة والمضمرة.