يميل كثير من الخبراء الى القول بوجود علاقة وثيقة بين التنمية في الوطن العربي ومدى توافر العناصر البشرية الكفية علمياً، والمنفتحة على تطور العلوم والتكنولوجيا في العالم. ومن هنا فإن استمرار هجرة الكفاءات العربية بمعدلات مرتفعة، وكذلك إغلاق نوافذ التواصل العلمي مع الخارج، يفقدان التنمية أهم مقوماتها الأساسية عربياً. العولمة كفرصة و...تحدٍ تمارس العولمة تأثيراً معقداً في هجرة الكفاءات من الدول النامية، وفي مقدمها الدول العربية. فمن الواضح الأهمية المتزايدة للتنظيم العالمي للإنتاج والخدمات، كما تظهر في اتفاقية ال"غات"مثلاً. ومن المحتمل أن تقود التطورات السريعة المتلاحقة للتكنولوجيا من جهة، والإنكماش الديموغرافي للدول الغربية، اي انخفاض معدل المواليد فيها، ما يقلص قاعدتها العلمية بشرياً، إلى زيادة طلبها على الكفاءات الشابة من الدول النامية. وفي المقابل، تميل الدول المتقدمة الى تحجيم هجرة العمالة نصف الماهرة وغير الماهرة الآتية من العالم الثالث. وطوعت دول أوروبية والولاياتالمتحدة الأميركية فعلياً قوانين الهجرة فيها، لجذب أعداد كبيرة من المهاجرين المتخصصين في العلوم والتكنولوجيا من دول الجنوب خصوصاً، مثل تسهيل قدوم مبرمجي الكومبيوتر من الهند. ومن المحتمل ان تؤدي هذه الامور الى فقدان الدول النامية المزيد من اصحاب الكفاءات العلمية مستقبلاً، بفعل جذب مراكز العولمة بصورة متزايدة. ففي ظل العولمة، ترتفع حرية تبادل المعلومات، ويتزايد حراك اصحاب القدرات والمهارات العالية على المستوى العالمي. ويجدر بالدول النامية ايلاء هذا الامر المزيد من الاهتمام، وخصوصاً بذل المزيد من الجهد للإلمام بحقائق النظام التقني الدولي الجديد وآلياته. وفي المقابل، يساعد هذا الامر ايضاً في تعزيز حضور الدول النامية في مسار عولمة العلم والتقنية، وفي بحث سبل الإفادة من تلك العولمة في النهوض بالتعليم، وخلق الحوافز الجاذبة الداخلية للتقليل، قدر الإمكان، من هجرة الكفاءات العلمية، وبالتالي حسن الإفادة منها. ويطرح هذا التحدي نفسه بالحاح على الدول العربية كلها راهناً. ونظراً الى أن قدرة الدول العربية في الاعتماد على ذاتها لإنتاج وتطوير تكنولوجيا محلية، ما زالت محدودة نسبياً في الوقت الحاضر، أو حتى في المستقبل القريب لأسباب متعددة، رأت هذه الدول، أن تعوض ذلك بالتوسع في إيفاد مبعوثيها إلى الجامعات والمراكز البحثية الغربية، لاستكمال دراساتهم العليا في الولاياتالمتحدة وكندا ودول غرب أوروبا وغيرها. ويمثل التعلم في الخارج جانباً مهماً من سبل اكتساب المعرفة العلمية والتكنولوجية المختلفة. 11 ايلول: وقف التبادل العلمي تجاوزت تداعيات أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 1002 أبعادها السياسية، لتلقي بظلالها السلبية على مجال التبادل العلمي والثقافي. ويبدو الامر احياناً وكأنه محاولة لمنع العرب من امتلاك القدرات العلمية والتكنولوجية الحديثة أو تطويرها. واتضح ذلك مثلاً في ما يتعرض له المبعوثون العرب الموجودون في الخارج راهناً من مضايقات، وعرقلة منح تأشيرات الدخول للشباب، حتى بالنسبة الى من يريد استكمال السنوات الدراسية المتبقية، والتضييق على إيفاد مزيد من الشباب العربي لمختلف الجامعات ومراكز البحث العلمي في الدول الغربية، للحصول على الدكتوراه والماجستير في المجالات العلمية المتطورة. ويلاحظ عموماً أن الغرب، بخاصة الولاياتالمتحدة، لم يعد يفتح جامعاته ومعاهده ومراكزه البحثية أمام مبعوثي العرب بالقدر الذي كانه في الماضي، لا سيما في مجالات وتخصصات علمية معينة. وكان الفضل للدكتور إبراهيم بدران، وزير الصحة المصري الأسبق، خلال إحدى مداخلاته، في لفت الأنظار إلى التداعيات السلبية لهذه السياسة. واستند الوزير الى دراسة أعدتها"الرابطة الاميركية لتقدم العلوم"American Association for Advancement of Science، حملت عنوان"العلوم والتكنولوجيا في عالم هش"Sc. & Tech. in a Vulnerable World. ونُشِرَت الدراسة في مجلة"ساينس"التي تصدرها الرابطة، في عددها لشهر شباط فبراير من العام 3002. وتضمنت عدداً من التوصيات، لعل ابرزها حظر عدد من المعارف والبرامج التعليمية والتدريبية على مبعوثي العالم النامي بذريعة احتمال استعمالها في ما يضر مستقبل التقدم. وكذلك ضرورة تقصي وضع الطلاب الوافدين الى الجامعات الأميركية، والتدقيق في التخصصات التي يطلبونها. وتقييد منح تأشيرات الدخول التعليمية للطلاب الأجانب المسلمين منهم والعرب خصوصاً. وفرض قيود على قبول الوافدين الأجانب في عدد من التخصصات"الحساسة". وفي مذكرة بعنوان"الدفاع القومي والتعليم"، حددت وزارة الخارجية الأميركية ، التخصصات"الحساسة"بالمواضيع الآتية: تكنولوجيا الذرة - الصواريخ - التوجيه الإلكتروني - الطيران - التصوير عن بعد- تكنولوجيا تحديد الأهداف - الليزر - المواد الجديدة - نظم الطاقة الموجهة بالليزر Lazer Directed Energy System- تكنولوجيا المعلومات - الالكترونيات الدقيقة - السبائك فائقة الأداء High Performance Metals - تكنولوجيا الروبوت وغيرها. وتعد هذه التخصصات من علوم العصر ولا غنى لباحث أو لدولة عن التعمق فيها ومتابعتها. فحظرها على هذا النحو سيعيق مسار التقدم فيها، في عدد من دول الجنوب لاعتمادها على المستجدات في ما يسمى"بالعلوم الحاكمة". ويمكن وصف الاجراءات الآنفة الذكر، اضافة الى وضع الطلاب العرب والمسلمين تحت رقابة أمنية مشددة، في إطار القيود التمييزية، التي يمكن وصفها بأنها نوع من التمييز العنصري علمياً. ولعل ما يزيد من خطورة هذه السياسة التمييزية ضد المبعوثين العرب والمسلمين، أن هناك عمراً زمنياً محدوداً لاستخدام أي تطبيقات تكنولوجية، تصبح بعده متخلفة. اضافة الى أن المدة الزمنية التي تفصل بين الاكتشاف العلمي وتطبيقاته تتقاصر راهناً بدرجات غير مسبوقة. كما يلاحظ أن الصناعات الكثيفة رأس المال بدأت تتراجع، مقابل اتساع نطاق الصناعات الكثيفة العلم مثل الهندسة الوراثية والهندسة المتناهية الصغر وتكنولوجيا الفضاء والحاسبات والتكنولوجيا الحيوية وغيرها. يضاف إلى ذلك أن هيكل السيطرة التكنولوجية الرفيعة المستوى ما زالت تحتكره قلة من الدول الغربية. ماذا عن الجهود الذاتية؟ بطبيعة الحال، سيترتب على استمرار اجراءات التقييد واجواء المنع لفترة من الزمن، تناقص مستمر في عدد العلماء العرب المتخصصين في هذه المجالات، وبالتالي فقدان المؤسسات البحثية العربية القنوات التي تربطها مع التقدم العلمي عالمياً. ومن هنا تجيء أهمية السعي إلى اكتساب الاقتدار التكنولوجي بالاعتماد على الجهود العربية الذاتية، وتوجيه مزيد من الاهتمام لعلمائنا المهاجرين، وبحث سبل توثيق الروابط معهم في شكل أفضل في المرحلة المقبلة. كما يتطلب الأمر إعادة النظر في الواقع العلمي التكنولوجي العربي، ببحث سبل زيادة الاعتماد المتبادل بين العلماء العرب المقيمين والمهاجرين، وتشكيل مجموعات بحثية متكاملة عربياً. ولقد تعددت أشكال الاتصال مع علمائنا المهاجرين وقنواته. وتحتاج هذه التجارب، ومن بينها المشروع المصري"توكتن"TOKTEN لنقل المعرفة من خلال المواطنين المغتربين، إلى تقويم نتائجها، وبحث سبل تطويرها. ومثلاً، يهدف"توكتن"لتعويض ظاهرة نزيف العقول بالتعاون مع برنامج الأممالمتحدة، من خلال السعي لعكس اتجاه الظاهرة. وكذلك يمكن اللجوء الى تطوير آليات نقل التكنولوجيا والمعرفة عبر شبكات المغتربين العرب، لتسهم هذه الشبكات في توليد دفق من المعلومات والتكنولوجيا إلى الدول الأم. وعلى سبيل المثال، نذكر ان الشبكة العالمية من المتخصصين الهنود، ساهمت في تنمية المهارات المحلية، ودعم المؤسسات العلمية الهندية، وإنشاء معاهد عليا للعلوم والتقنية في الهند وغيرها. ومن المهم التأمل في هذه التجربة، وكذلك الإفادة من تجارب مماثلة في دول شرق آسيا. يتطلب الأمر نفسه، تفعيل دور القطاع الخاص في تبني العلوم عربياً، والتفكير في توظيفها في تطوير أعماله، كما يحدث في الغرب، حيث تعتبر الشركات توظيف الاموال في العلم استثماراً مجزياً وطويل الأجل. ويضاف الى ذلك كله، ضرورة التنسيق بين مراكز البحوث والدراسات العربية، بهدف الإفادة من العقول العربية، وتهيئة الظروف المناسبة لعملها داخل أوطانها، والحد من"اغترابيها"الداخلي والخارجي. والحال ان تفريغ أي أمة من عقولها، وتجميد حركة التطور العلمي فيها، يعنيان تركها أمة خاملة وتابعة وغير قادرة على الإبداع والابتكار واللحاق بركب التقدم. * مساعد سابق لوزير الخارجية في مصر - أستاذ العلوم السياسية في جامعتي الكويت والقاهرة.